أخيراً، وبعد مضي 18 يوماً على اختفاء الصحفي السعودي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية بتركيا، أرغمت الرياض على الاعتراف بإصدار أمر القتل وتنفيذ الجريمة في قنصليتها بإسطنبول. رغم أن جميع من كان يتابع هذا الملف، خلال الأيام الماضية، في داخل السعودية وخارجها، كان يعلم علم اليقين أن المتهم الأول والأخير في هذا الملف هو ابن سلمان والحكومة السعودية، لكن المحاولات التي كانت تبذلها الرياض للتهرب والتنصل من مسؤولية هذه الجريمة، وكذلك الدعم الأمريكي للمسؤولين السعوديين، كانا السبب في إطالة أمد هذه القضية.
المخرج الذي وضعه ترامب أمام بني سعود في ما يخص اتهام أشخاص غير منضبطين بقتل خاشقجي، غيّر مسار الملف من تقديم محمد بن سلمان (الدب الداشر) باعتباره المسؤول عن جريمة التصفية، إلى عناصر أخرى كقرابين له، وبالطبع فقد نجح في هذا الأمر لحد الآن.
وكالة الأنباء السعودية (واس) نقلت عن النائب العام السعودي قوله إن (التحقيقات الأولية في موضوع المواطن خاشقجي أظهرت وفاته).
وزعم النائب العام السعودي بأنه حصل اشتباك بالأيدي بين خاشقجي والأشخاص الذين قابلوه في القنصلية، أدى الى وفاته، وأعلن أن المملكة اتخذت الإجراءات اللازمة لاستجلاء الحقيقة.
وأعلن أن (التحقيقات مستمرة مع الموقوفين على ذمة القضية، والبالغ عددهم حتى الآن 18 شخصاً، جميعهم من الجنسية السعودية).
وأوضح التلفزيون السعودي أن (المملكة اتخذت الإجراءات اللازمة لاستجلاء الحقيقة في موضوع المواطن جمال خاشقجي)، ومن أبرزها أمر ملكي بإعفاء المستشار بالديوان الملكي سعود القحطاني ونائب رئيس الاستخبارات العامة أحمد العسيري، من منصبهما.
الملك سلمان بن عبد العزيز وجّه بتشكيل لجنة وزارية برئاسة ولي العهد محمد بن سلمان، (لإعادة هيكلة رئاسة الاستخبارات العامة وتحديث نظامها ولوائحها وتحديد صلاحياتها بشكل دقيق)، وفق (الإخبارية) السعودية التي نقلت عما سمته مصدراً مسؤولاً أن (المملكة اتخذت الإجراءات اللازمة، وتؤكد محاسبة جميع المتورطين وتقديمهم للعدالة).
ونقلت وكالة (رويترز) عن مسؤول سعودي مطلع على التحقيقات، قوله إن ولي العهد محمد بن سلمان لم يكن لديه أي علم بقضية خاشقجي.
وعلى الرغم من أن قرار الملك لم يربط إقالة العسيري والقحطاني بحادثة خاشقجي، إلا أن مسؤولين سعوديين ومصادر مقربة من العائلة الحاكمة في السعودية، قالوا لوسائل إعلام غربية، خلال اليومين الماضيين، إن الرجلين ستتم إقالتهما على خلفية مقتل خاشقجي.
وتقول مصادر سعودية لـ(رويترز) إن القحطاني أصبح (كاتماً لأسرار) ولي العهد، وأصبح كأنه يتحدث بالنيابة عنه في عدد من القضايا، ويصدر تعليمات لكبار الموظفين في الأجهزة الأمنية.
من جهته، قال حساب (العهد الجديد) الشهير على (تويتر) بتسريباته السياسية التي كثيراً ما ثبتت صحتها، إن نائب رئيس الاستخبارات العامة السعودية، المقرب من ولي العهد محمد بن سلمان، اللواء أحمد عسيري، محتجز داخل مقر وزارة الدفاع السعودية.
وأضاف أن هذا يأتي للضغط على (عسيري) حتى يقبل بأن يكون (كبش الفداء) لابن سلمان في قضية جمال خاشقجي.

 ردود الأفعال
وفي ما يلي أبرز ردود الفعل دولياً عقب اعتراف السعودية بقتل خاشقجي:
اعتبر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن الإعلان الذي أصدرته السعودية بشأن خاشقجي خطوة أولى جيدة وكبيرة، وأن التفسير السعودي موثوق به.
وأعلن ترامب صراحةً أن (أمريكا تحتاج السعودية كقوة لتحقيق توازن أمام إيران)، مشيراً إلى أن (أطرافاً ثالثة شاركت في التحقيقات السعودية)، كَمَا أنه (لا يعتقد أن القيادة السعودية كذبت عليه).
وقال إن ما حدث مع خاشقجي (أمر غير مقبول)، موضحاً أنه سيتعامل مع الكونغرس بشأن ذلك، ويفضل ألا تتضمن العقوبات إلغاء مبيعات الأسلحة.
وفي السياق عينه، دعا السيناتور الجمهوري الأمريكي راند بول، إدارة الولايات المتحدة إلى وقف المبيعات العسكرية للسعودية.
نائب رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس النواب الأمريكي آدم شيف، اعتبر بدوره أن الإعلان عن مقتل خاشقجي أثناء مشاجرة أمر (غير موثوق).

ميركل: لا نقبل الرواية السعودية
في المقابل، قالت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، إنها لا تقبل تفسير السعودية بشأن مقتل خاشقجي.
ونقلت وكالة (بلومبرغ) الأمريكية عن ميركل القول إن (الأحداث المروعة التي أحاطت بقتل الصحفي، هي تحذير من أن الحريات الديمقراطية تتعرض للهجوم في جميع أنحاء العالم).
وأضافت ميركل، في مؤتمر إقليمي لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، أمس السبت: (لم يتم توضيح الأحداث، وبالطبع نطالب بتفسير).
فيما ناشد وزير خارجية ألمانيا السابق زيجمار جابريل، الحكومة الألمانية مراجعة صادرات الأسلحة للسعودية.

بريطانيا تدرس اتخاذ خطوات جديدة
في السياق، أكدت الحكومة البريطانية أنها تدرس حالياً اتخاذ خطوات جديدة بعد إقرار الرياض بمقتل خاشقجي.
وأعربت الخارجية البريطانية، في بيان صدر عنها أمس، عن تعازيها لعائلة جمال خاشقجي، وقالت: (ندرس البيان السعودي، ونبحث اتخاذ خطوات جديدة).
ونقل البيان عن وزير الخارجية البريطاني، جريمي هانت، وصفه مقتل خاشقجي بأنه (حادث مرعب ينبغي ملاحقة المسؤولين عنه).

هولندا تدعو لتوضيح الحقائق
بدوره، أعلن رئيس الوزراء الهولندي، مارك روته، ضرورة مواصلة التحقيقات في قضية الصحفي جمال خاشقجي.
وقال روته للصحفيين في العاصمة الدنماركية كوبنهاغن: (إن الكثير لا يزال غامضاً. ما الذي وقع هناك؟ وكيف لقي مصرعه؟ ومن الذي يتحمل المسؤولية عن ذلك؟ وأتوقع، وآمل بأن يتم توضيح كل الحقائق الخاصة بهذا الأمر في أقرب وقت ممكن). فيما قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إن بلاده علقت الزيارات السياسية إلى السعودية, مع هولندا وألمانيا وبريطانيا.

اليونسكو تدين
منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو)، من جهتها، دانت قتل خاشقجي، داعيةً إلى (ضمان مثول مرتكبي الجريمة أمام العدالة).
من جهته، حذر الأمين العام لمنظمة (مراسلون بلا حدود) كريستوف دولوار، السبت، من إجراء أية (مساومة) مع السعودية في قضية قتل الصحافي جمال خاشقجي، لأن ذلك سيعطيها (ترخيصاً بالقتل).

 مقاطعة (دافوس الصحراء)
إلى ذلك، أعلنت وزارة الخارجية الأسترالية عدم مشاركة أي من مسؤولي البلاد في المؤتمر الدولي (مستقبل الاستثمار) أو ما يعرف بـ(دافوس الصحراء)، المقرر انعقاده الثلاثاء المقبل، في السعودية.
وجاء في بيان صادر عن وزيرة الخارجية، ماريز باين، أن (الحكومة الأسترالية قررت أنه لم يعد مناسباً حضور قمة في السعودية في ضوء مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي).
وأضاف البيان أن (الأنباء عن اعتقال 18 مواطناً سعودياً متورطين في وفاة خاشقجي، وإقالة مسؤولين كبار في الحكومة السعودية، دفعت الحكومة إلى الانسحاب من مبادرة الاستثمار في السعودية) هذا الأسبوع.
وألغى أكثر من 20 من كبار المسؤولين والتنفيذيين من الولايات المتحدة وأوروبا، بمن فيهم وزير الخزانة الأمريكي ستيفن منوتشين، والرئيسان التنفيذيان لبنكي جيه.بي مورغان وإتش.إس.بي.سي، خططهم لحضور مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار، بسبب القلق بشأن قضية خاشقجي.
ويقول منظمو المؤتمر إن ذلك قد لا يحول دون المضي قدماً في المؤتمر، في ظل اشتراك أكثر من 150 متحدثاً، وما يزيد على 140 مؤسسة ابتداء. لكن هذا يجرد المؤتمر من معظم الشخصيات المؤثرة.
وتشير المقاطعة الغربية لمؤتمر اقتصادي كبير في الرياض، هذا الأسبوع، إلى أن المخاطر السياسية المتنامية في السعودية قد تلحق الضرر بطموحات المملكة لجذب رأس المال الأجنبي وتنويع موارد اقتصادها بدلاً من الاعتماد على النفط.

أين جثة خاشقجي؟ 
طرحت روايات عدة حول مصير جثة الصحفي جمال خاشقجي، كان آخرها ما نقلته (رويترز) عن مسؤول سعودي مطلع على التحقيقات، من أن الجثة سلمت إلى (متعهد دفن) تركي، ولا يوجد أثر لها في القنصلية السعودية بإسطنبول.
ولكن صحفاً تركية مقربة من الحزب الحاكم قالت إن المحققين الأتراك لديهم أدلة تفيد بأن جثة خاشقجي تم تقطيعها إلى أجزاء بعد اغتياله من فريق سعودي مكون من 15 شخصاً.
وبدأت السلطات التركية البحث عن الجثة أو ما تبقى منها بالفعل في إسطنبول، وتحديداً في غابات شاسعة على أطراف المدينة.
ونقلت وكالة (رويترز) عن محققين أتراك أن البحث عن جثة خاشقجي لا يزال يتركز في منطقة غابات يالوفا وبلغراد.
فرضية أخرى تقول إن بقايا الجثة تم نقلها إلى السعودية في حقائب دبلوماسية، أو تمت إذابتها وتحليلها تماماً بمادة كيمائية.

خاشقجي في سطور 
ولد جمال أحمد حمزة خاشقجي لعائلة عريقة في المدينة المنورة، في 1958 (60 عامًا)، متزوج 4 نساء، وتوج مسيرته التعليمية بدراسة الصحافة في جامعة إنديانا الأمريكية.
بدأ خاشقجي حياته المهنية كمراسل صحفي، وعمل في البداية مراسلًا للصحيفة السعودية الناطقة بالإنكليزية (سعودي جازيت)، وفي الفترة من 1987 إلى 1990 عمل مراسلًا لصحيفة (الشرق الأوسط) وصحيفة (أراب نيوز) السعودية الصادرة بالإنكليزية، وعمل لمدة 8 سنوات مع صحيفة (الحياة).. لمع اسم خاشقجي في تغطية أحداث أفغانستان والجزائر والكويت والشرق الأوسط في تسعينيات القرن الماضي.
وفي 1999 عين نائبًا لرئيس تحرير (أراب نيوز)، وفي 2003 أصبح رئيسًا لتحرير صحيفة (الوطن) الإصلاحية، لكن لم يمر شهران على تعيينه، حتى تمت إقالته من هذا المنصب، دون تحديد السبب بشكل واضح.
أصبح خاشقجي بعد ذلك مستشارًا إعلاميًا للأمير تركي الفيصل، سفير المملكة في لندن، الذي عين لاحقًا سفيرًا لها في واشنطن، قبل أن يعاد تعيينه في رئاسة تحرير صحيفة (الوطن) في 2007، حتى إقالته العام 2010.
في 2010، تم اختياره ليكون مؤسس ورئيس تحرير قناة (العرب) الإخبارية المملوكة للأمير ورجل الأعمال السعودي المعروف، الوليد بن طلال، وبعد أن أنجز مهمته وبدأ بث القناة من المنامة، تم إيقافها عقب بث أول نشرة أخبار أغضبت حكومة البحرين في ما يبدو، قبل أن يقرر مالكها بداية العام 2017 إغلاقها نهائيًا بعد فشل إعادة بثها من عواصم مختلفة.
تأزمت علاقته ببلاده في نهاية العام 2017 بالتزامن مع اعتقالات طالت عشرات الكتاب والمدونين ورجال الدين الذين تتهمهم الرياض بالعمل على تهديد أمنها، إذ انتقد تلك الاعتقالات، قبل أن تتوقف صحيفة (الحياة) عن نشر مقالاته، ليقيم في واشنطن، ويبدأ بنشر المقالات في صحيفة (واشنطن بوست) متبنيًا خطابًا ناقدًا لسياسة بلاده في الداخل والخارج.
وكان من الذين أثاروا موجة من الجدل عندما كتب تغريدة على موقعه في وسائل التواصل الاجتماعي (تويتر)، مدافعاً عن الداعية الإسلامي يوسف القرضاوي، وعن جماعة الإخوان المسلمين المصنفين كـ(إرهابيين).
أعلن تأييده للعدوان الذي قامت به بلاده على اليمن في 26 مارس 2015، وسرب النظام السعودي من خلاله عدداً من الأخبار المتعلقة بالعدوان، لكنه لم يغفر له خدمته الطويلة للنظام عسكرياً وكاتباً ومطبلاً لبنادق القاعدة وسكاكين داعش.