مخاض لولادة الثورات الصناعية وتطور التكنولوجيا وازدهار اقتصاد الدول 
(الحروب) أم الاختراعات

تسببت الحروب عبر الأزل في تطور معرفة الإنسان شيئاً فشيئاً، حتى وصلت إلى مراحل متقدمة كما نراها الآن، وعندما أخلف الله الإنسان على الأرض ذهب الأخير لابتكار أية وسيلة للدفاع عن نفسه، وخوض معركة طويلة الأمد مع الأرض والطبيعة والأجناس، ما جعله في رحلة بحث واكتشاف دائمين لتلبية احتياجاته. . وطيلة العصور السابقة وحتى يومنا كانت الحروب السبب الرئيس الذي دفع الإنسان للبحث عن أساليب وأدوات جديدة لتطوير ذاته حتى وصل إلى ما وصل إليه اليوم من تقدم كبير في عالم الصناعات المختلفة.. ويعتبر التاريخ الصناعي اليوم نتاجاً للأحداث التاريخية للبشر التي ظهرت خلال الحروب، وفجرت ثورات صناعية كبرى خلال القرون السابقة، وكانت سبباً في تقدم وازدهار اقتصاد الدول. . صحيفة (لا) تسلط الضوء على مراحل تطور الصناعات المختلفة خلال الحروب منذ القدم، مع ذكر المحطات التاريخية المهمة التي شهدت فيها التكنولوجيا قفزة نوعية.
فرصة للاكتشاف 
بحكم الواقع والتجربة والشواهد والأدلة فإن الحروب هي من تخلق الفرص والإرادة إذا ما جاز المعنى لاكتشاف عديد الاختراعات الصناعية وابتكار أشكال وأنواع جديدة. 
كانت الحروب هي المحطة المفصلية في تقدم المجتمعات، وعبر مراحلها المختلفة، بدأت علاقة الإنسان بالتكنولوجيا مع بداية استخدامه للأدوات المحيطة به في الطبيعة من أجل الحصول على الطعام وحماية نفسه من الوحوش البرية والبشرية، وأدت الحروب بشكل رئيسي الى تطور الإنسان من خلال زيادة قدرته على أداء الأعمال بسهولة وإنتاج ذاته بنفسه. 

زيادة المخاوف
تسببت الحروب المتواصلة للبشر في زيادة مخاوفهم، هذه المخاوف جعلت من الشعوب تبحث عن حلول مسبقة وجذرية لمواجهتها، وبحسب المؤرخين فإن الحروب التي شهدتها البشرية في العصور القديمة والحاجة إلى زيادة المحاصيل الزراعية خوفاً من الحصار كانت سبباً في بناء السدود، وكان السومريون في العراق أول من قام بذلك.
كما أن انزلاق الإنسان في الحروب منذ الأزل أدى إلى بناء الحضارات والمظاهر الحضارية من بناء القلاع والحصون التي صاحبتها معارف جديدة كالرياضيات، والفلسفة، والآداب، والتنجيم، ووصل اليمنيون والمصريون القدماء إلى التحكم في مياه الفيضانات والاستفادة منها، وإنشاء حضارتهم التي استمرت لأكثر من 3000 عام.

ظهور الإسلام 
كان ظهور الإسلام وبداية الفتوحات الإسلامية الحدث الأكبر الذي أسهم في نقل الحضارة البشرية من الشرق إلى الغرب، فقد كان للعرب الفضل الأول في جلب المعارف والعلوم إلى أوروبا، مما أدى إلى دخول أوروبا مرحلة الثورة الصناعية في القرن السادس عشر.
ومع انفجار الثورة الصناعية والتكنولوجيا الحديثة واكتشاف القارة الأمريكية والحاجة للهجرة إليها بحثاً عن مناجم الذهب، تم ابتكار المحركات البخارية التي أسهمت في إحداث ثورة كبرى في وسائل النقل البري والبحري في العالم، وتلى ذلك اختراع الكهرباء والهواتف وصناعة الديناميت الذي استخدم بشكل أساسي في صناعات التعدين حول العالم.

تطور الحرب إلى مشروع علمي 
تطورت الحرب في التاريخ الحديث، وانتقلت من نشاط تقليدي الى مشروع علمي، وأصبحت الجيوش تطور التقنيات العلمية أكثر من أي وقت مضي، وبحسب الأدلة والشواهد فإن هذا التطور العلمي يحدث نتاج دعم العامة له وقيادة الحكومات الوطنية التي تنمي المواهب والقدرات البشرية في اكتشاف المزيد من الاختراعات. 

جوانب مضيئة للحرب 
بعيداً عن الجانب المظلم للحربين العالميتين الأولى والثانية، اللتين أغرقتا العالم في بحر من الدماء والدمار، إذ قتل أكثر من 60 مليون شخص، كانت لهاتين الحربين جوانب مضيئة، وذلك بفضل الاختراعات العلمية التي غيرت مفهوم الرفاهية بعد الحرب، وجعلت الحياة أبسط مما كانت عليه.
حيث كانت الدول المنخرطة في الحرب تمر بأوقات صعبة وتحديات فرضت على شعوبها أن تعمل بلا راحة لخدمة وطنها، والتي خلفت تقنيات متقدمة وتكنولوجيا علمية. 

تطور السلاح بشكل كبير 
مع صراع الصناعة العسكرية البحرية والجوية والبرية بين محوري الصراع في الحربين العالميتين الأولى والثانية، تطورت الأسلحة بشكل كبير للغاية، وأصبحت بمدى أكبر وأوسع. 
استمر صراع المحورين سنوات طويلة حتى شهد تاريخ الصناعة العسكرية تحولاً نوعياً في عالم التصنيع، حيث دخلت الأسلحة الكيميائية والبيولوجية المعركة سنة 1945، ليصبح أول سلاح حقيقي للدمار الشامل، وكان هذا من قبل (bookended) اختراع أقوى سلاح في ذلك الوقت: القنبلة الذرية.

من صناعة الطائرات الحربية إلى المدنية 
النظريات العلمية التي استخدمت في صناعة الطائرات الحربية أدت إلى صناعة الطائرات المدنية، وقد تحقق ذلك بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وصناعة أكبر طائرة تجارية، وهي (دوغلاس دس 3).

اكتشاف الأدوية 
كان من أهم الاكتشافات التي شهدتها فترة الحرب العالمية هو علاج البنسلين الذي اكتشفه بالصدفة عالم الأحياء الأسكتلندي ألكسندر فليمنج، والذي تم استخدامه في علاج كافة الأمراض البكتيرية التي تصيب الإنسان.
في ديسمبر 1943، ضرب الألمان ميناء باري الإيطالي، وغرق أكثر من 25 سفينة منها (جون هارفي) المحملة بـ2000 قنبلة من غاز الخردل، والتي أدت لوفاة وإصابة المئات من المتواجدين في الميناء.
وعندما قام الدكتور ستيوارت فرانسيس ألكسندر بفحص وتشريح جثث الموتى، وجد أن الخلايا الليمفاوية في الدم والغدد تعرضت للضمور، فقام باستخدام غاز الخردل في علاج أمراض السرطان، بعد ذلك أصبحت مشتقات الخردل تستخدم كعلاج لأمراض السرطان.

صناعة الكمبيوتر
يعتبر الحاسوب (Colossus) الإنكليزي، أول حاسوب تتم صناعته في أربعينيات القرن العشرين، بهدف فك شيفرة الجيش الألماني في الحرب العالمية الثانية، تلاه جهازا (إنيكما) و(بومبي).
وفي السنوات التالية ومع بداية الخمسينيات من القرن العشرين، بدأت حركة تطوير صناعة الحواسيب في العالم تدريجياً، التي اعتمد في صناعتها على النظام الثنائي (الصفر والواحد)، حتى وصلت إلى قمة التطور اليوم. 

اختراع الإنترنت
لقد شكلت الحرب الباردة خلال الفترة بين الخمسينيات والتسعينيات، أرضية مناسبة لاختراع وتطوير الإنترنت، حتى تم نشره في السوق سنة 1994، إلا أن الجيشين السوفيتي والأمريكي كانا استخدما الإنترنت في الأغراض العسكرية لأكثر من 20 عاماً لنقل المعلومة وإرسال الرسائل الاستخباراتية. 

عائدات باهظة 
على عكس الفرضيات، وخلافاً لما تخلفه من دمار وخسائر بشرية ومادية، تساعد الحروب في بناء اقتصاد الدول التي تحشد طاقات شعوبها في مواجهة التحديات، فتجد نفسها بعد ذلك تمتلك ثروة صناعية تعود بعائدات مالية ضخمة لها في الأسواق. 
فأثناء الحرب الباردة بين قطبي العالم السوفيتي والأمريكي، أدى التسابق بينهما الى مئات الاختراعات لمواجهة أخطار الآخر، والتي جرى استخدامها لاحقاً في أغراض تجارية أخرى تسببت في تحقيق تقدم كبير في اقتصاد البلدين من خلال العائدات الباهظة. 
تحول الصناعات العسكرية 
أكثر التطورات الصناعية خلال فترة الحرب الباردة وما بعدها، واستناداً إلى نظريات العالم الألماني آينشتاين، وضعت باستمرار أجيالاً جديدة من مختلف الصناعات العسكرية لتدخل في صناعات أخرى، كما حدث في عالم الهواتف الذكية والأجهزة، وشيدت مجموعة متنوعة من الصناعات التي تم تسخيرها من مراكمة الصناعات العسكرية، ومع استخدام تكنولوجيا الكمبيوتر ظهرت الاختراعات الأخرى مثل اختراع الأجهزة الطبية وغيرها.

الشعب اليمني يبهر العالم 
وسط الأزمات والمحن دائماً ما يخرج الإنسان أفضل ما لديه، وقوة كل شعب تقاس بقدرته على التحمل وتخطي الصعاب التي تواجهه، ووسط الحرب والحصار والمطاردات لا يوجد مجال لليأس والتخاذل، وهذا ما أثبته الشعب اليمني طوال السنوات الماضية، فعلى الرغم من العدوان إلا أن الشعب اليمني تمكن من إبهار العالم والدخول في مجال التكنولوجيا الحديثة بقوة، وتطويرها مع احتياجاته. 
وعلاوة على ذلك حقق اليمنيون الذين أجبرهم العدوان والحصار على دخول عالم الطاقة البديلة والمتجددة، بفعل الغياب التام للكهرباء منذ نحو 4 أعوام، مقولة إن (المعاناة تولّد الإبداع)، و(الحاجة أمّ الاختراع)؛ من خلال سلسلة من الابتكارات لشباب ومهندسين في مجالات مختلفة. 
معاناة الشاب عماد القدسي، المتمثلة بعدم القدرة على شحن كرسيه المتحرك؛ جراء غياب الكهرباء، انتهت بابتكاره حلاً يستند إلى الطاقة المتجددة، حيث وضع لوحاً شمسياً كمظلة له فوق الكرسي المتحرك، متصلاً ببطارية، ليتمكن من التحرك دون عناء.
الأمر لم يقف عند هذا الحد، فشاب آخر هو وائل الحكيمي، استثمر أزمة الوقود ليخترع دراجة نارية تسيرها الطاقة الشمسية، وهذه الدراجة قادرة على قطع مسافة 80 كم في الساعة في حال كانت البطارية ممتلئة.

مفارقات
قبل 4 سنوات كانت اليمن إحدى الدول المستهلكة للسلاح، ولم تشهد في تاريخها أية صناعة في المجال العسكري، لكن الوضع اختلف تماماً اليوم، فتزامناً مع شن تحالف قوى العدوان الأمريكي السعودي حربها على اليمن في مارس 2015، وفرضها حصاراً خانقاً على البلاد، عملت القوات اليمنية على تطوير قدراتها العسكرية على المستوى الصاروخي الهجومي والدفاعي، حيث ابتكرت الصناعة العسكرية اليمنية خلال السنوات الثلاث الأخيرة العديد من الأسلحة العسكرية التي شكلت نقلة نوعية في عالم التصنيع العسكري المحلي.
فقد تمت صناعة طائرات حربية وتجسسية منها (قصف 1) و(راصد 1) و(هدهد 1)، كما تمت صناعة العديد من الصواريخ بعيدة ومتوسطة المدى كـ(زلزال) و(بركان2)، و(بركان H2)، و(بركان M2) الذي يتجاوز مداه الـ1000 كيلومتر، وقد تم استخدامه في قصف مناطق عسكرية وحيوية في السعودية، كان آخرها قصف قصر اليمامة بالرياض الشهر قبل الماضي.

إيران مثال لبناء الذات 
التجربة الإيرانية من أهم الأمثلة في بناء الذات في العصر الحديث، فمع انطلاق الثورة الإيرانية في 1979، دخلت إيران في حرب مباشرة مع العراق لمدة 8 سنوات، ولعل تلك الحرب الطويلة كانت السبب الرئيسي الذي جعل الإيرانيين يعتمدون على أنفسهم، وبالرغم من الحصار الخانق الذي أعقب الحرب لأكثر من 15 عاماً، إلا أن الجمهورية الإسلامية شهدت ثورة صناعية في جميع المجالات الاقتصادية والتجارية والعسكرية. 
وبجانب حصولها على الطاقة النووية فإن إيران تصنع السيارات ومختلف الأسلحة، بالإضافة إلى صناعة السجاد الذي يعد الأشهر عالمياً. 

الحرب أو الحاجة أم الاختراع
بغض النظر عن أن الحرب أو الحاجة هي أم الاختراعات، فإن هناك معادلة أساسية لبناء المجتمعات وتقدمها على الأساس المعرفي والعلمي، وهي أن الدولة أو القيادة هي من تحرك وتنمي تلك القدرات للإنتاج، والتي تشكل البناء الاقتصادي للدولة بناء على فلسفتها السياسية التي تكون في الأغلب ذات دلالات قومية نابعة من القيم العقائدية والاجتماعية، ووفق استراتيجية وطنية توظف الوسائل المتاحة لتحقيق كامل الأهداف للدفاع عن الأرض والعرض والوجود. 
ومن وجهة الأهداف الوطنية فإن الدول التي نشأت على فكرة القومية والوطنية كأساس للدولة، فإنها تستغل ظروف الحرب لإبراز سمات التفوق لدى شعوبها وتنمية قدراتها، كما حدث في إيران وكوبا واليمن، والكثير من البلدان التي شكلت الحروب مرحلة جوهرية في إعلان اعتمادها على الذات، وتطورها في جميع المجالات الاقتصادية.