سيناريوهات محتملة للمشهد 
بين مفارم البترودولار وسواطير التكفير (الجنوب) إلى أين؟

صلاح العلي/ لا ميديا

تَسارعَت عجلة الأحداث في الساحة الجنوبية، خلال الأشهر القليلة الماضية، كان الأسبوعان الماضيان أعلاها وتيرة بجملة مستجدات تنبئ بخارطة سياسية ومتغيرات جديدة تعتمل في كواليس المشهد جنوب البلاد، ظهرت إزاءها القوى الجنوبية، وبمقدمتها مكونات الحراك، في خضم ماراثون لإعادة ترتيب أوضاعها الداخلية وتدارس مواقعها ومواقفها من جملة القضايا الساخنة في البلد، فضلاً عن تعزيز حضورها الشعبي وتأليب التأييد حولها.. وفيما تعددت التوقعات والقراءات لمآل المشهد القائم المحاط بالضبابية، اتجهت (لا) لمحاولة الإمساك بمقاربة حقيقة الأوضاع ومآلاتها. فما الذي يعتمل خلف الكواليس؟ وإلى أين؟!
مجريات على الساحة الجنوبية
عقب غياب لحوالي العامين؛ عاود القيادي حسن باعوم الظهور من بوابة مناهضة الوجود الخليجي في المحافظات الجنوبية، بعد أن توارى عن النشاط بفترة وجيزة من بدء العدوان الذي علق عليه حينها بأنه ليس من أجل (استعادة الشرعية)، بل من أجل مطامع الدول التي تقوده.
والأسبوع الماضي، عقد في عدن المؤتمر الثاني لـ(المجلس الأعلى للحراك الثوري لاستقلال وتحرير الجنوب) الذي يتزعمه القيادي الحراكي حسن باعوم، بنتيجة مفادها اختيار باعوم رئيساً للمجلس، إلى جانب 85 شخصية جنوبية اختيرت كهيئة مركزية له.
وكان المؤتمر الذي دعا إليه باعوم، أكد أن ما يجري في المحافظات الجنوبية هو احتلال من قبل تحالف العدوان الذي حمّلوه كامل المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع هناك، وبأن عليه مغادرة (الجنوب) والتعامل المباشر مع المجلس الأعلى للحراك بما يخصه. إضافة لإعلان الاستعداد التام لفتح الحوار مع السلطة في صنعاء على قاعدة الاعتراف بحق (استقلال الجنوب وكافة أراضيه)، حد تعبير المؤتمر الذي رفع شعار: (تحرير واستقلال الجنوب هدف استراتيجي لا يجوز التنازل عنه).
وكان فادي باعوم, نجل القيادي حسن باعوم، تحدث في لقاءات مع وسائل الإعلام، أن الإمارات والسعودية تحتلان الجنوب ومهيمنتان على ثرواته وموانئه...، فضلاً عن كونهما (تعلنان مراراً التزامهما بالشرعية ووحدة اليمن)، الأمر الذي يجعل الخلاف معهما جوهرياً، حد طرحه.
ومن جانبه، صرح فؤاد راشد، النائب الأول لرئيس (المجلس الأعلى للحراك الثوري لاستقلال وتحرير الجنوب) الذي يتزعمه الرئيس الأسبق علي سالم البيض، أنهم مقدمون بدورهم على عقد مؤتمرهم الذي ستكون إحدى نتائجه تغيير اسم المجلس -المتنازع عليه. وبادر بالقول إنهم يسعون لوضع مبادرة تكون بمثابة غطاء ينضوي تحته فرقاء الحراك و(القضية الجنوبية) عموماً.
احتد الخلاف الحراكي - الحراكي في العام 2012م بين تيار البيض وتيار باعوم بدرجة رئيسية، ليتم (إعفاء) الأخير من رئاسة المجلس وفصل آخرين. لكن باعوم ظل متمسكاً بموقعه كرئيس (للمجلس الأعلى للحراك)، ومواصلاً النشاط بمعزل عن المكونات الأخرى وتحت التسمية ذاتها، والحال نفسه مع الفريق الآخر، وهو ما زاد من حجم الإرباك لدى (الشارع الجنوبي).. ووسط الفوضى التي تعشيها المحافظات الجنوبية والصراعات البينية، تشكل في مايو الفائت -برعاية خليجية- ما سمي (المجلس الانتقالي الجنوبي) برئاسة عيدروس الزبيدي المحافظ السابق لعدن. ليمثل ذلك انقساماً جديداً بين مكونات (الحراك) والشارع (الجنوبي) عموماً أو هكذا يظهر على الأقل.
وفيما أعلن (الانتقالي) أنه يمثل قوى الحراك، وبأنه الحاكم للجنوب لا (الشرعية)، اعتبره حراك باعوم مجلساً تبعياً لدول الاحتلال (لا يملك قراراً مستقلاً) ومتآمراً على القضية الجنوبية وقواها، بينما أعلن حراك البيض تأييده لـ(الانتقالي)، مع المطالبة بأن يتيح المجال لتمثيل قوى الحراك في هيئاته كما هو المتفق عليه.
ومؤخراً كثف (المجلس الانتقالي) من فعالياته الجماهيرية وعمليات تأسيس فروعه في المحافظات التي كانت آخرها في الغيضة بالمهرة وزنجبار أبين ولحج والضالع. فضلاً عن بنائه لقوات عسكرية وأمنية تابعة له، سبق واشتبكت مع القوات التابعة لعلي محسن لرفع سيطرته عن آبار نفط بشبوة.
بالتزامن، عاود الرئيس الأسبق علي ناصر محمد هو أيضاً، الظهور -من خلال الإعلام- في حوارات ولقاءات قدم فيها موقف (الممسك بالعصا من المنتصف) كرجل للتوافق يراوح على مقربة من كل الاتجاهات.
مطلع العام الجاري، استعاد (الحراك الجنوبي) حضوره في الشارع الجنوبي من خلال فعاليات وتظاهرات... على خلفية الأوضاع المأساوية التي تعيشها المحافظات الجنوبية، بمقدمتها عدن، بعد أن كانت (الشرعية) وعصابات تحالف العدوان قد طغى حضورهم منذ العام 2015م على حساب الأرضية التي نشط عليها الحراك منذ تأسيسه.
ومنذ هروب هادي إلى عدن واندلاع الحرب على اليمن، نهج تحالف العدوان لتهيئة بيئة سيطرته إلى توطيد تحالفات مع  مكونات (الحراك) كل على حدة، ما يتيح المجال لتغلغل السيطرة العدوانية في المحافظات الجنوبية مقابل تراجع حضور الحراك وتفككه إلى ولاءات لقوى إقليمية عدة. وكان هذا المسار قد شرع به هادي مع وصوله سدة الحكم في 2012م، لاسيما إبان (مؤتمر الحوار الوطني الشامل).
من جهة أخرى، فقد تنامت خلال الفترة الأخيرة إفرازات خطيرة تمثلت بتشكيل ما سمي (قوات النخبة الحضرمية) وأخرى (النخبة الشبوانية)، بينما اكتفى الوكيل الإماراتي بتشكيل (الحزام الأمني) حول المحافظات الأخرى!
وقبل أيام اتجهت إلى محافظة المهرة قوات أمنية سعودية مسنودة بمرتزقة تابعين للفار هادي، ودون تنسيق مع السطلة المحلية، مهمتها إدارة المحافظة أمنياً، وبسط السيطرة على الميناء ومطار الغيضة، طبقاً لما ذكرته وسائل الإعلام.
وبالتوازي مع ذلك كله، تتناول تقارير عدة عن وجود صراع سعودي إماراتي فحواه التنافس على بسط النفوذ في المناطق الواقعة تحت سيطرتهم جنوب اليمن, لاسيما مناطق الثروات النفطية والموانئ البحرية الحيوية، فضلاً عن السعي الحثيث لامتلاك قواعد حاكمة على البحر الأحمر والبحر العربي المهيمنين على خطوط التجارة العالمية، الأمر الذي يخدم أطماع التوسع والهيمنة لدى الرياض وأبوظبي.. وتضيف التقارير أن داخل هذا الصراع حشرت قوى الحراك الجنوبي ووقعت في فخاخ استقطابات خبيثة جعلتها الوقود الذي تستخدمه الإمارات والسعودية لحسم صراعاتها البينية.
إزاء ذلك، يرد خبراء وباحثون أن كلاً من السعودية والإمارات لا تتصارعان أكثر من كونها تمارسان لعبة تبادل الأدوار، إذ إنهما كيانان وظيفيان لا يملكان مشاريع وأطماعاً بمعزل عن المشاريع والسياسات الأمريكية الصهيونية المحددة والموجهة لكل خطوة تقومان بها.
ما خلف الصورة
تتجه كثير من القراءات، إلى القول بأن الجنوب اليمني يواجه عملية تقسيم مناطقي وجهوي ممنهجة تقوم على أسس المشروع القديم الذي أعده المستعمر البريطاني في خمسينيات القرن المنصرم، المتمثل بـ(اتحاد الجنوب العربي) المعاد طرحه تحت مسمى (الأقاليم)، الأمر الذي يتطلب تفكيك القوى السياسية والاجتماعية، وخلق الصراعات المفتوحة وحمامات الدم التي احتشدت أدواتها التكفيرية خلال 3 سنوات لأجلها.
وتشير المعطيات إلى أن (المجلس الانتقالي) قد شرع في التحضير لذلك من خلال إقصائه لقطاع سياسي واجتماعي واسع مثل محافظة أبين التي لم تمثل في هيئات المجلس.
الكاتب الجنوبي صلاح السقلدي، في مقال نشره (العربي)، أشار إلى أن تحالف العدوان يعمد للإيقاع (بين القوى الجنوبية أولاً، وتعزيزاً لموقفها ولمشروعها السياسي المرفوض جنوباً، والمتمحور حول فكرة الدولة الاتحادية اليمنية من 6 أقاليم ثانياً).
ويرى أستاذ فلسفة العلوم في جامعة عدن الدكتور سامي عطا، في حديثه لـ(لا)، أن (مجلس الحراك الثوري ظهر استجابة للوضع القائم الذي فرضه الاحتلال) من بؤس وانفلات أمني وعصابات متعددة الولاءات، الأمر الذي يتطلب (ظهور تيار يرفض هذا الوضع ويسعى نحو تحرير الجنوب من الاحتلال).
ويضيف أن عملاء العدوان والاحتلال، يسعون نحو استجرار الماضي الصراعي، وبأن مآلات الأوضاع في المناطق المحتلة سيكون التصادم مع الاحتلال الذي بدونه لن يكون هناك (تقرير مصير أو استقلال).
من جهة أخرى، يرى مراقبون أن هادي صار ورقة نافقة وهناك إجماع على كافة الأصعدة لتغييره، ليس على مستوى الشارع الجنوبي وحسب، بل ومن القوى السياسية الأخرى التي رافقته إلى الرياض والقوى الدولية التي صعد بمعيتها. بينما البديل الذي ينتظر دور التسليم له هو (المجلس الانتقالي) في إطار المرحلة الجديدة من العدوان.
يعزز الطرح السابق، أنه ومنذ تشكيل (الانتقالي الجنوبي) راح المجتمع الدولي يستقبل ممثلين للمجلس لديه بالرغم من عدم اعتراف هادي وحكومته به، كان آخرهم الأحد الماضي بتعيين الكاتب الصحافي أحمد عمر بن فريد كرئيس لمكتب العلاقات الخارجية، وممثل للمجلس لدى دول الاتحاد الأوروبي، وقبله عيدروس النقيب كرئيسٍ لدائرة العلاقات الخارجية للمجلس الانتقالي منذ أغسطس الماضي.
ونقلت المواقع الإخبارية الرسمية عن عيدروس الزبيدي، قبل حوالي شهر، اعترافه بأن ما يجري في عدن والجنوب هو ضمن تنسيق كامل مع دول (التحالف) وضمن مسرح واحد غير منفصل.
وعلق مراقبون جنوبيون أن السعودية والإمارات (تدركان أن خلافهما سيحل على كليهما بكارثة وجودية، وتحالفهما أمر مصيري)، وأن ما يؤكد أكذوبة الصراع بينهما أنه بينما ترك رجلهما عيدروس الزبيدي للفشل خلال مهمته كمحافظ لعدن، كانت عمدية لتأزيم وضع الشارع وتركه أمام خيارات محددة تخدم (التحالف)، وبالمقابل يتناغم دور الكيانين في حضرموت تماماً، ما يدل على التنسيق الدقيق بينهما.
وفعلياً، وعقب حرب صيف 94م، كان الخليج مع إعلان الانفصال، بينما أنيط الدور التنفيذي من استضافة للقيادات الجنوبية وتوفير الدعم المالي بالإمارات. ويبدو أن المدير الدولي قد وزع الأدوار مركزياً منذ فترة مبكرة بإيكال ما يخص الشمال للسعودية والجنوب للإمارات.

سيناريوهات محتملة في الكواليس
بات واضحاً أن عودة نشاط القوى السياسية في المحافظات الجنوبية التي كانت خافتة الحضور عن المشهد، يقول بترتيبات جديدة للخارطة السياسية القادمة.
يفيد القيادي الاشتراكي علي نعمان، أن تحالف العدوان يعمل على قدم وساق لتنفيذ مشروع الانفصال القائم على سلخ المحافظات اليمنية من سياقها الموضوعي والتاريخي، وإلحاقها بالكيانات الوظيفية السعودية والإماراتية.
ويبين نعمان أن ذلك يجري بالتواطؤ مع قيادات كبيرة في الحراك الجنوبي تحاول اليوم الإيهام بأنها ضد ما يجري في المحافظات الجنوبية، بينما كانت من أوائل الداعين لاستقلال محافظاتها، معتبراً أن ما يجري الآن (هو توزيع أدوار بين التيارات والمكونات الجنوبية الأساسية التي يتحكم بخيوطها لاعب واحد هو الأمريكي)، ويستطرد أن تعدد مجالس الحراك اليوم هو لأجل توزيعها كل في الجغرافيا التي يمثلها.
ويضيف أن المجتمع الدولي والأمم المتحدة يريدون شرعنة المشروع باعتباره إرادة جنوبية صرفة يظهرون أمامها كأنهم مجبرون. غير مستبعدٍ وجود دورٍ روسي في ذلك لضمان نفوذ يؤمن وجوده البحري.
وفي ظل تبادل الأدوار الذي تلعبه القوى الدولية، قدمت السعودية ربيبتها الإمارات لتصدر إدارة الاحتلال في المناطق الجنوبية. وخلفية ذلك هو ترك مساحة تتيح لها التفاوض مع صنعاء حول عمقها الواقع تحت سيطرة قوات جيش واللجان الشعبية، لكن دون أن يطرح الجنوب اليمني المحتل على الطاولة باعتباره خاضعاً للسيطرة الإماراتية. ولا شك أن الرياض ستقدم العروض أمام القوى المفاوضة اليمنية للقبول. لكن هل حقاً ترى الرياض ذلك ممكناً؟! لاسيما وأن القيادة الثورية سبق ورفضت أية مفاوضات تجزئ الملفات اليمنية أو ترحل بعضها على حساب البعض الآخر.
يستشرف خبراء أن هذا هو الدور الروسي الجاري في الظل، من حيث إقناع صنعاء بمرحلة الاتفاقات وتجزئتها، أو العمل على جر طرف في الشراكة بصنعاء إلى القبول بتسوية كهذه تضعف الموقف الديبلوماسي والسياسي لـ(الأنصار)، ووضعهم أمام الأمر الواقع.
في السياق ذاته، فقد ذكرت مجلة (ناشونال إنترسبت) الأمريكية أن الدبلوماسية الروسية تملك (فرصاً فريدة) للدفع إلى تسوية سياسية توقف الحرب الجارية من خلال تاريخ علاقاتها الإيجابي مع اليمن منذ عقود، وموقفها المتوازن من كل الأطراف اليمنية، إلى جانب استعداد الرياض الذي أبدته في الزيارة الملكية الأخيرة لموسكو بإيقاف الحرب على اليمن إذا ما عرضت عليها (شروط مقبولة)، وفقاً للصحيفة.
وطبقاً لموقع (العربي) فقد (شددت المجلة على أن نجاح الديبلوماسية الروسية في إنهاء حرب اليمن، سوف يكون له (انعكاسات إيجابية على الأجندة الجيو - سياسية لموسكو في المنطقة). فمن منظور تكتيكي، قصير الأجل، من شأن وقف الصراع المفتوح داخل البلاد، أن يوفر (فرصة لروسيا من أجل تثبيت مكانتها كقوة عسكرية كبرى في البحر الأحمر)، و(يسمح لها بإيجاد موطئ قدم) على مقربة من مضيق باب المندب، ذي الأهمية الاستراتيجية).

مشهد أخير
يكتب الصحفي فتحي بن لزرق: (لايحتاج أي شخص لكي يفهم أن (عدن) تحولت إلى ساحة صراع إقليمية محلية).
لكن هل يحدث ذلك في عدن وحدها؟! إن الواقع يجيب على ذلك، لكن الغرض هنا الإشارة إلى التخندق الذي تشهده المحافظات الجنوبية كخطاب ووعي تكرسه النخب الجنوبية، حيث الهم والوعي الجمعي ينزاح لجهة العصبويات الإثنية المناطقية والعشائرية.