مثلما تورق الكروم وتزهر في الروابي؛ تورق أغنياته فينا وتخضرُّ حباً، وتزهر عشقاً.
ومثلما تتبرعم عناقيدها في قلوب محبيه وتثمر، تتعنقد فينا إبداعاته الفنية أشواقاً ومحبة.. حنيناً ولقاءً.. أنيناً وصفاءً.. ترانيم وجد، وألحاناً آسرة.
تغسل الأرواح، وتنقي القلوب، وتشفي أوجاعها.
تشجي النفوس الحائرة، وتطهر أحزانها.
مع كل نغمة حب، هفت أرواحنا، سفراً ورحيلاً، وفي كل ترنيمة شجن، هامت قلوبنا فرحاً وحزناً، تحملها تقاسيم لحونه الماطرة، نحو مدارب فيوضها، حين يشدو بجمال الكلمة وعذوبتها، ويزيدها عذب صوته الآسر رقة وانسياباً، وتمنحها رخامته رونقاً وبهاءً، ليسافر بنا نحو فضاءات الكلمة وعوالم رحابه، وصلاً وانكساراً، بوحاً وجرحاً، بلسماً وهياماً، تباريح عشق، وتسابيح محبة..!
في الجزء الثاني من أسفار أيوب الجميلة، تواصل (لا) نشر تفاصيل محطات هذه الأسفار .
أغاني الحنين والغربة في أسفار أيوب الجميلة شجن لاينتهي، وتتعدد مدارب الأشواق فيها، وفي هذا اللون الغنائي الذي أبدع فيه الفنان أيوب طارش أكثر من أي فنان يمني آخر؛ بدأ من أول أسفاره مع أغاني أخيه محمد طارش (يوم السفر - بس لا تؤشر لي - بالله عليك وامسافر) التي قد أشرنا إليها في بداية هذه الأسفار، وهنا سنتحدث عن باقي أسفاره مع هذا اللون الغنائي الجميل، وتأتي أغنية (حنين المفارق) أو (يا حاملات الشريم) كما اعتادت جماهير أيوب أن تسميها، وقد كتب كلماتها الشاعر المعروف راشد محمد ثابت المولود (في منطقة (الشويفة) مديرية (خدير) محافظة تعز، عام 1944، وقد انتقل الى مدينة عدن، ودرس فيها الابتدائية والمتوسطة والثانوية، تم التحق بقسم الفلسفة في كلية الآداب بجامعة دمشق، وحصل على شهادة البكالوريوس، كما حصل على دبلوم ثقافة وإعلام من معهد (هالة) في ألمانيا الديمقراطية.
وبعد استقلال الجنوب عام 67م عاد الى عدن، وعمل رئيسًا لتحرير عدد من الصحف، ومديرًا عامًّا للإذاعة والتلفزيون، وتحمل عدداً من الحقائب الوزارية، منها وزارة الإعلام والثقافة لعدة سنوات، ثم وزيرًا للدولة لشؤون مجلس الوزراء.
عين سفيرًا لليمن الجنوبي في القاهرة حتى عام 1977م، وبعدها عين وزيرًا لشؤون الوحدة حتى عام 1990م، وبعد قيام الوحدة اليمنية عين وزيرًا للدولة لشؤون مجلس النواب، ورئيسًا للجنة الأحزاب حتى عام 1993م، ثم عمل سفيرًا في تونس والمغرب حتى عام 2000م).
له عدد من المؤلفات الشعرية والبحوث الثقافية وقصائد باللهجة العامية غناها عدد من الفنانين، ومنهم الفنان أيوب طارش الذي غنى هذه القصيدة الغنائية التي تقول كلماتها: 
(يا حاملات الشريم والطل فوق الحشائش
معطرات الزنن فوق الصدور الزراكش
هيا اسبقين الطيور وغردين في الغباشش
لمَّين حشيش البكور واطوين سبول على المحاجش
من ندى الخير رشين قليب ولهان عاطش
وغنين للبعاد اللي ترك قلب فاتش
هجر ولوعة حبيبه تسكب دموعه درادش
سحابة الفجر سيري مع حنين المفارق
رشي فؤاد المتيم ندى سخي العطر عابق
من مخمل الغيم غطي لواعجي بالبيارق
واللي بهطلك قليب صبابته كالحرائق
وجنحي عا الذي شوقي إليه سيل دافق
وبلغيه بالمراد إني بعهده لواثق
يا شارح الحول بشرى حولك يفتح فراجم
مثل الجنان في سبوله أخضر بكل المواسم 
عراجيش السوم تزهر ورده بوصلك هائم
والأقحوان متيم شوقه إليك شوق صائم 
أذكر عهود الشواجب همس العيون والمباسم
عد يا حبيبي لحولك خير الصراب فيك حالم)
ومن أروع القصائد الغنائية التي تتحدث عن موضوع الاغتراب، وعن حالات البعد والشتات  التي يمتزج فيها الحب والمعاناة الإنسانية للإنسان اليمني في حله وترحاله، ومدى ارتباط وشائج  عشقه بهذه الأرض وأحبته فيها، بل بكل ما فيها من كائنات ومدارب وحقول وطبيعة زاهية  مافتئ الإنسان اليمني يبثها أشواقه، ويسري بحنينه إليها، ويبادلها المحبة حباً بحب وشوقاً بشوق وحنيناً بحنين، تأتي أيضاً غنائية الشاعر أحمد علي مانع الجنيد، وهو شاعر جميل، ولكنه في رأيي لم يحظَ بالشهرة التي حظيت بها قصائده، وهو من مواليد (عام 1950 في قرية الكشرار في محافظة تعز. بدأ دراسته في قريته، ثم انتقل إلى عدن، والتحق بالمدرسة الأهلية عام 1961، وانتقل بعدها إلى تعز، والتحق بمدرسة الكرسلي. تتلمذ بعد قيام الثورة على يد عبد الجواد الرومي، فأخذ عنه دراسات عن الأدب. بعد انتهائه من المرحلة الإعدادية عام 1965، عمل كاتباً إدارياً في المنشآت التدريبية بقيادة الجيش. ثم التحق بكلية الشرطة عام 1966/1967. شارك في فك حصار صنعاء في ما سمي معركة السبعين يوماً، وتوفي في 4 أبريل 1991).
وللشاعر مانع الجنيد عدد من المسرحيات والأوبريتات الشعرية، إلى جانب كتابته للقصيدة  الغنائية، وقد تغنى الفنان أحمد علي المعطري بكثير منها، الى جانب فنانين آخرين، ومنهم صاحب هذه الأسفار الفنان أيوب طارش الذي غنى له أغنية (ليلة فرحنا) التي كنا قد أشرنا إليها في طي هذه الأسفار، عند حديثنا عن أغاني أيوب الفرائحية أو ما يعرف بـ(الزفة)، وكذلك أغنية أخرى كتب كلماتها هذا الشاعر المنسي، وهي أغنية (وامفارق بلاد النور) التي تغنى بها أيضاً أيوب، وتتحدث عن حالة الإنسان اليمني في المهجر ومعاناته. وكما هي بديعة ورائعة في نصها الشعري الغنائي، وتعد من عيون القصائد المُغناة؛ فقد أبدع أيضاً الفنان أيوب طارش في لحنها الحزين الذي عبر فيه عن وجع الاغتراب، وتقمص مكنون معاناة المغترب اليمني وهو بعيد عن أهله ووطنه، وتقول كلماتها:
(وامفارقْ بلاد النور، وعد اللقا حانْ
الوفا للوطن يدعوك، لبِّ النداء الآنْ
لا تغيبوا، كفى غربة ولوعة وأحزانْ
اليمن تنتظركم يا حبايبْ بالأحضانْ
يا أحبّة، رياض الأنس صحراء وقفرةْ
الحَزَنْ بعدكم أطفأ شموع المسرّةْ
والندى في الحقول يبكي على كل زهرةْ
والأماني تناديكم بأعشاش الأشجانْ
يا غريب الوطن، يكفيك غربةْ وأسفارْ
الوفا دَيْن، يالله، شرفوا الأهل والدارْ
لا تردوا الرسائل، ما تطفي الورق نارْ
والنقود ما تسلّي من معه في الهوى شانْ
لو تسلّى بوعد الصبر نايُ الجوارحْ
وابتسم من بكا يخفي لهيب الجوارحْ
أيقظ الوجدَ رعدُ الآهِ حنّان جارحْ
وأمطر الدمع يتوسل ويشكي الذي كانْ
لُمّ أحبابنا يا شوق من كل مهجرْ
دُقّ ناقوس جمع الشمل في كل محضرْ
لأجل حزن الشجي المهجور يسلى ويسترْ
والأماني بأوتار القلوب، تعزف الدانْ
يا أخي فجر الهنا بالنور يكتب رسايلْ
فوق برج اليمن، يا كلّ باني وعاملْ
وابتسم للمطر والسيل حزنُ الخمايلْ
والمولّع مكانه، ماسك الكاس عطشانْ)
كثيرة هي أغاني الغربة والحنين التي تتحدث عن معناة الإنسان اليمني، وتصور مدى أشواقه لأرضه وإلى أحبته، وذكريات مراتع الصبا فيها، وحنينه الدائم إليها وإلى وطن مازال يزهو بجمال وألوان المحبة العالقة في روحه وفي وجدانه.. وهناك أغانٍ أخرى تقترب من موضوع هذا الحنين والغربة التي يمتاز بها الإنسان اليمني في حله وترحاله، وسوف نتطرق إليها في حينه في طي تتبعنا لمحطات الفنان أيوب وأسفاره الجميلة، ولكن نكتفي هنا بأن نختتم هذه المحطة من رحيلنا مع هذه الأسفار الأيوبية، بأغنية الشاعر الكبير عبدالله عبدالوهاب نعمان (الفضول) ورائعته (جنحت وأجناحي) التي تغنى بها أيوب طارش، وتقول كلماتها:
(جَنَّحت وأجناحي حديد لا ريش
فارقت أرضي حيث أحب وأعيش
لا أين لا أي البلاد ما أدريش
كوخي حديد غنيت ما سمعنيش
حديد من أين للحديد يطرب
حديد لا ذاق الهوى ولا حب
لا شيء في روحي سوى اشتياقي
للنهر، للرعيان، للسواقي
ولهفتي لفرحة التلاقي
لمن فؤادي في هواه باقي 
شاعود للخلاّن والأحبة
شاعود يكفيني شجن وغربة
شاعود للأشجار والعصافير
ملونات الريش والمناقير
وللحمام البيض والشحارير
وللمواشي السائمات والبير 
راجع لشمس الصبح والمغارب
راجع لبرد الظل في الشواجب
شُبَّابة الراعي أفصحي وهاتي
ورددي لحني وأغنياتي
لفجر عمري، لِصبا حياتي
لقريتي، لجدولي، لشاتي
هُناك أحلامي وزرع حُبي
هُناك إلهامي ووحي قلبي)
يقول أيوب إن مناسبة هذه الأغنية - التي طلب من الشاعر الفضول كتابة كلماتها - كانت أثناء دعوته الى إحدى دول أوروبا الشرقية لإقامة حفلات غنائية أمام الطلاب اليمنيين والعرب الدارسين هناك، وقد استجاب الفضول لطلبه، وكانت أغنية (جنحت وأجناحي) الجميلة، التي لاقت رواجاً وشهرة واسعة بين جماهير أيوب في مختلف أصقاع الاغتراب. 
ومثلها تقريباً هناك أغنية (من سفح صنعاء ألف مليون سلام)، وهي من الأغاني المناسباتية التي تقترب من أغاني الحنين والغربة، وإن كانت كلماتها التي نسبها البعض الى أكثر من شاعر، ومنهم الشاعر عبدالله حسن الشرفي الذي لم أجزم أنها له، وإن كنت أعتقد أنها أقرب الى أسلوبه، وقد كتبت على شكل تحية الى الإنسان اليمني المهاجر، وقد تغنى بها الفنان أيوب طارش في سبعينيات القرن الماضي، أمام الجالية اليمنية في الخليج، أثناء مشاركته لهم أفراح احتفلاتهم بمناسبة عيد الفطر المبارك، كما تشي كلمات الأغنية التي يبدو أن شاعرها قد كتبها أيضاً بطلب خاص من الفنان أيوب نفسه، ليقدمها في حفلة تلك المناسبة، وتقول كلماتها:
(من سفح صنعاء ألف مليون سلام 
وفوقها مليون تحية
حبيتها في العود من أرض سام 
جبا لكم مني هدية 
يا ابن اليمن جنب الحرم والمقام 
وفي الخبر والناصرية
وإخواننا أهل الوفاء والذمام
في هذه الأرض الزكية 
جينا نحييكم بأحلى الكلام 
ونترك الدنيا شوية
ونفرح الليلة بعيد الصيام
ونلعب اليوم هوشلية
ومن سهر يرتاح وإلاَّ ينام 
لا الصبح ليلة حميرية
نقول لكم يا مرحبا بالختام 
ويا هلا بالسامرية)
وإذا كان موضوع الاغتراب والحنين الدائم سمة ملازمة للإنسان اليمني، وقد تناول ذلك عدد من الفنانين في أكثر من أغنية، إلاَّ أن أغاني الفنان أيوب طارش قد ارتبطت بوجدان هذا الإنسان، وصورت شتى حالاته الإنسانية، بل جسدت غربته الروحية وشتاته النفسي أكثر من أغاني أي فنان آخر.
وفي أكثر من رائعة غنائية من أغاني الحنين والغربة والاغتراب التي تغنى بها الفنان أيوب، نجد هذا الارتباط الروحي حاضراً بين هذا الفنان وجماهيره العريضة التي رافقته في إعجابها بأغانيه جيلاً بعد جيل، وهي مازالت حتى اللحظة تتغنى بها وتردد معه هذا الحنين والنوح، وتتقاسمه مع البلابل والطيور، كما هي أغنية (نوح الطيور) التي كتب كلماتها الشاعر سعيد علي علوان المسَّاح، وقد انتشرت على نطاق واسع بين جمهور أيوب، ونالت من الشهرة أكثر من كاتبها الذي يجهل الكثير اسمه وبقية شعره، وكلماتها تقول:
(نوح الطيور أثار فيَّ الأشجان
في من بقلبي حبهم تمكن
وزادني فوق الهموم أحزان
فراقي المحبوب وغربة الدار
أبكي وأنوح على فراق الأحباب
وأعيش في الغربة شقي معذب
أسائل الناس من أتى ومن غاب 
عمن لهم في القلب نصب تذكار
أعيش غريب حيران جسد بلا روح
أهيم وجداً والفؤاد مجروح
وكم أبات مع السهاد لصبح 
أرسل لأصحابي صور وأشعار
أشتاق لهم شوق الزهور للما
شوق العيون للنور بعد ظلما
وأحلم بساعة التلاقي كلما
ذكرت ماضي بالنعيم يزخر
ليه يا زمن فرقت بيننا البين
وأحرمت من دنيا السعادة قلبين
ليَّ سنين أشكي الفراق والبين
واستجدي نفعاً وبي الزمن قد جار
ما لي من الدنيا وكل مغري
ما لم يكن جنب الحبيب وكري
قرب الحبيب جنة نهور تجري
ومن فراقه العذاب والنار)