الذهب الأسود ضدنا لا معنا
صناعة النصر في ظل عجز الموازنة ونقص السيولة

في الظروف العادية، فإن دراسة ظاهرة اقتصادية تتطلب توفر البيانات الكافية للتوصل إلى نتائج دقيقة تشخص الحالة التي يعاني منها كيان اقتصادي سواءً كان كبيراً أو صغيراً في حجمه، فما بالك أن يكون هذا الكيان بحجم دولة كاملة تواجه حرباً عدوانية شكلت المواجهة الاقتصادية إحدى أهم جبهاتها المفتوحة وأكثرها بشاعةً وأكثرها تأثيراً كونها تستهدف كافة أبناء الشعب دون استثناء، ومن خلال هذا سنحاول وضع الرأي العام بصورة أكبر حول عجز الموازنة ونقص السيولة.. وسيتم التركيز على قراءة المصادر الرئيسية مع التطرق بشكل مبسط للمصادر الثانوية التي تعتمد عليها الموازنة العامة للدولة في مواردها لتغطية نفقاتها العامة.
شلل كامل للقطاع النفطي
المصدر الرئيسي الأول والأكثر أهمية الذي تعتمد عليه الموازنة العامة للدولة في الجمهورية اليمنية، يتمثل في إيرادات مبيعات النفط، حيث شكل هذا المصدر الأهمية الكبرى خلال العقود الماضية في الموازنة العامة للدولة، لكن ومع بداية العدوان في مارس 2015، فقد توقف هذا القطاع بشكل كامل، حيث بلغت نسبة النقص الفعلي في إيرادات هذا القطاع للعام 2015، 83%، حيث إن إجمالي الإيرادات المحصلة من مبيعات النفط مبلغ وقدره 138 مليار ريال تقريباً خلال عام 2015، مقارنة بمبلغ 829 مليار ريال تقريباً خلال عام 2014، وينسحب ذلك خلال العام 2016م، أما مبيعات النفط المحلي فقد اقتصر فقط على ما يتم إنتاجه من شركة صافر، والذي يذهب معظم إيراداته إلى السلطة المحلية بمحافظة مأرب، والتي امتنعت عن توريدها إلى البنك المركزي اليمني بصنعاء مؤخراً، وفي هذا السياق منع العدوان وأدواته المحلية تصدير مليون برميل من النفط الخام الجاهز للتصدير في ميناء الحديدة منذ بداية العدوان، وكذلك منع توريد قيمة 3 ملايين برميل تقريباً من النفط الخام التي تم تصديرها من ميناء الضبة، من قبل قوى العدوان.

توقف تصدير الغاز
تأتي مبيعات الغاز المصدر والمحلي في المرتبة الثانية للمصادر الرئيسية التي تعتمد عليها الموازنة العامة للدولة، وبالرغم من القدرة على الاستمرار في التشغيل والتصدير، فقد عمد العدوان وأدواته المحلية بشكل واضح على توقيف التصدير، مما أثر على حجم الإيرادات المحصلة من هذا القطاع، حيث بلغ العجز الفعلي في إيرادات مبيعات الغاز خلال العام 2015 بنسبة 53% مقارنة بالعام 2014، فقد بلغت الإيرادات الفعلية المحصلة خلال عام 2015، 100 مليار ريال فقط، مقارنة بمبلغ 210 مليارات ريال تقريباً خلال العام 2014، بالإضافة إلى قيام السلطة المحلية بمحافظة مأرب التي تقع عملياً تحت سلطة الاحتلال والعدوان، بالامتناع عن توريد مبيعات الغاز المحلي إلى البنك المركزي اليمني، ابتداءً من شهر أغسطس 2016 تقريباً، وهو ما يعني حرمان البنك المركزي اليمني بصنعاء ما يقارب 4 مليارات و315 مليون ريال شهرياً.

نقص الإيرادات الضريبية
فيما تحتل الإيرادات الضريبية وغير الضريبية أهمية كبيرة، إلى جانب ما سبق، في المصادر الرئيسية التي تعتمد عليها الموازنة العامة. في هذا القطاع كانت نسبة النقص الفعلي في الإيرادات المحصلة من الإيرادات الضريبية وغير الضريبية 21%، و54% على التوالي، مقارنة بما تم تحصيله خلال عام 2014، حيث بلغت الإيرادات الفعلية المحصلة من الإيرادات الضريبية وغير الضريبية، مبلغاً وقدره 749 مليار ريال يمني خلال العام 2015، مقارنة بمبلغ تريليون و170 مليار ريال تقريباً خلال العام 2014.. مع الأخذ في الاعتبار أن أسباب النقص في هذا القطاع ترجع بشكل مباشر إلى الحصار الشامل المفروض على بلدنا من قبل قوى العدوان، والاستهداف المباشر الذي شمل معظم إن لم يكن كل المنشآت الحيوية الرافدة، والتي تسببت في توقف كثير من تلك القطاعات بنسب متفاوتة بعضها يصل إلى توقف كامل بنسبة 100% كما هو الحال لقطاع المقاولات والخدمات النفطية والسياحية.

تواطؤ الجهات المانحة
من جانب آخر، فإن المنح والمساعدات والقروض وما تشكله من أهمية كرافد إضافي للموازنة العامة، انخفضت بشكل كبير جداً، حيث بلغ إجمالي المبالغ المحصلة الفعلية من المنح والمساعدات والقروض خلال العام 2015، مبلغاً وقدره ملياران و489 مليون ريال فقط، مقارنة بمبلغ 264 مليار ريال يمني خلال العام 2014، حيث بلغ النقص الفعلي نسبة 99% خلال 2015، وهو ما يعكس التواطؤ بشكل مفضوح للجهات المانحة مع قوى العدوان، إذ إن الحاجة لمثل تلك المساعدات والمنح أثناء الحرب والحصار الشامل أكثر إلحاحاً منها في أوقات السلم، حيث منع العدوان توريد المساعدات الخارجية للضمان الاجتماعي بمبلغ 900 مليون دولار أمريكي، والتي تذهب لمساعدات الفقراء والمحتاجين بالدرجة الأساس.
على الرغم من ذلك، وخلافاً للمتوقع، فقد انخفضت النفقات العامة خلال العام 2015 مقارنة بالعام 2014 بنسبة 26% تقريباً، حيث بلغت النفقات الجارية والاستثمارية مجتمعة خلال العام 2015 مبلغاً وقدره مليار و894 مليون ريال، مقارنة بمبلغ مليارين و554 مليون ريال خلال العام 2014، والجدول التالي لمزيد من القراءة: 
(المركزي).. حيادية مشهودة
ما يدعو الى التساؤل المنطقي فعلاً من أين تم توفير المبالغ المالية الخاصة بنفقات الحرب الباهظة والإنفاق على الجبهات المفتوحة على طول البلاد مع المرتزقة، وكذلك نفقات الحرب مع العدوان السعودي على الحدود الشمالية، وكيفية توفير متطلبات الحرب خارج إطار الموازنة العامة للدولة، ومن خارج البنك المركزي اليمني، فمن المعروف أن البنك المركزي عمل بحيادية مطلقة شهد لها العدوان وأدواته قبل الداخل، وأن الصرف كان فقط في حدود ما هو معتمد للموازنة العامة للدولة وكشوفاتها المعتمدة لموازنة العام 2014. ومن المعروف أيضاً أن البنك المركزي اليمني حافظ على هذا الحياد طيلة عمله خلال فترة العدوان، إلى درجة أنه التزم بصرف مستحقات كل المحافظات دون استثناء حتى تلك التي تقع تحت سيطرة الاحتلال بشكل مباشر مثل عدن ولحج، أو تلك التي تقع عملياً تحت سيطرة أدوات العدوان ومرتزقته كما الحال بالنسبة لحضرموت وغيرها. 
قد يتبادر إلى ذهن القارئ تساؤل منطقي عن كيفية تغطية العجز الحاصل في الموازنة، الأمر الذي يستدعي الإيضاح بأن تغطية ذلك العجز تمت عن طريق ما يسمى المصادر التمويلية، والمتمثلة في أذون الخزانة وإصدار السندات الحكومية، أو من خلال الصرف من احتياطيات البنك المركزي، حيث كانت المبالغ المنصرفة والمسحوبة من البنك المركزي تزيد عما يتم توريده بنسبة 70% تقريباً.

سحب السيولة من السوق
وفي هذا السياق، لم يكتفِ العدوان بالتسبب في إضعاف الموارد العامة عن طريق تدمير المنشآت والمؤسسات الحيوية، ومنع توريد المبالغ الإيرادية من المحافظات الواقعة تحت سلطة مرتزقته، بل عمد بشكل مباشر إلى زيادة فجوة نقص السيولة النقدية بوسائل متعددة، كان أهمها منع طباعة العملة، والإيعاز لأدواته المحلية لسحب العملة الوطنية من السوق المحلية وتكديسها في المناطق الخاضعة تحت سيطرتهم كما يحصل في محافظة مأرب، وأيضاً من خلال الاستهداف المباشر للموانئ البحرية، واقتصر الاستيراد على منفذ وحيد هو منفذ الوديعة، وهو ما سهل للعدوان القيام بعملية السحب المنظم للعملة المحلية، وكذلك الخروج الفعلي لبعض المناطق عن السيطرة المركزية للبنك من خلال الامتناع عن توريد الإيرادات العامة وفتح حسابات جارية خارج إطار البنك المركزي كما هو الحال في معظم الأراضي الجنوبية، بالإضافة إلى الحد بشكل كبير من التحويلات النقدية للمغتربين والتي تشكل رافداً أساسياً لتوفير العملة الصعبة، وكذلك منع القطاع المصرفي بشكل كامل من القيام بعمليات ترحيل العملة لتغذية أرصدتها في الخارج، وزيادة التعقيدات الخاصة بعملية تحويل المبالغ للخارج، حيث بلغت نسبة عمولة التحويل في معظم الأحيان 7% من مبلغ الحوالة، وهو ما شكل عائقاً كبيراً للنشاط التجاري، خصوصاً وأن بلدنا يعتمد على الاستيراد في كل احتياجاتنا الأساسية.

منع تحصيل مستحقات اليمن من الخارج
لم يتم الاكتفاء بذلك، بل عمد العدوان وأدواته المحلية إلى إعاقة وصول التعزيزات المالية عن طريق منع تحصيل المبالغ المستحقة للجهات الحكومية كما هو حال مبلغ 300 مليون دولار مستحقة لوزارة الاتصالات لدى حكومة العدو السعودي، ومبالغ مستحقة على الشركات النفطية، على سبيل المثال مبلغ 273 مليون دولار مستحقة لشركة صافر اليمنية بالخارج، وعدم السماح بتوريد إيرادات السفارات اليمنية في الخارج.
وبعد أن فشلت تلك المحاولات جميعها تم اتخاذ قرار نقل البنك المركزي من العاصمة صنعاء إلى عدن، وتغيير مجلس إدارة البنك، والذي كان بمثابة إعلان الحرب الاقتصادية المفتوحة ضد كل أبناء شعبنا الصامد، وما تلى ذلك من تجميد لأرصدة واحتياطيات البنك المركزي في الخارج.
وكما قلت في مقال سابق، بالنسبة لي أعترف أنه ومن خلال جمع الكم الهائل من المعطيات والبيانات ومقارنتها مع ما يجري في الواقع المعاش خلال فترة العدوان، فإن نسبة حالات عدم التأكد تزداد بزيادة الحصول على تلك المعلومات، وذلك بخلاف نظرية المعلومات التي تقتضي بزيادة المعرفة وتخفيض حالات عدم التأكد، وذلك في ما يتعلق بدراسة وتفسير الصمود الأسطوري لبلدنا أمام أبشع وأقبح حرب اقتصادية ربما عرفها التاريخ، فمن خلال الاستعراض السابق يتضح أننا منذ الأيام الأولى للعدوان كانت لدينا مشكلة في الموارد وعجز في الموازنة، ونقص في السيولة النقدية، وبالرغم من ذلك كله تمكن شعبنا بقيادة حكيمة من خلال تلك الموارد المتواضعة والمتواضعة جداً، من تحقيق نصر إلهي استراتيجي كبير، جسد حقيقة أن إرادة الشعوب مهما كانت فقيرة أو معدمة، لا تُقهر، ولا تقبل الذل والاستسلام لقوى الاستكبار مهما كانت مقتدرة وغنية.
* عضو مجلس إدارة جمعية المحاسبين القانونيين