شهدت الساحة الثقافية والفنية العربية في الخمسينيات نهضة شاملة في كافة المستويات المتعلقة بالمجال الثقافي والفني، تزامنا مع التحولات الاجتماعية والسياسية والمد التحريري في ذلك الحين.
ومن البديهي أن يصاحب ذلك التحول السياسي والاجتماعي تحول في الجانب الثقافي والفني يستوعب ذلك التحول ويعبر عنه بأشكال وأنماط وقوالب أدبية فنية جديدة تتناسب مع عمق التحول الجذري وتأثير تلك التحولات الاجتماعية السياسية على الواقع الاجتماعي وحياة الناس اليومية.
فالرواية العربية كانت نتيجة حتمية لتلك التحولات الاجتماعية السياسية، تعكسها وترصد أبعادها الاجتماعية والسياسية بشكل أدبي وفني يتناسب مع تطور العصر وأدواته ووسائله الفنية والحديثة.
وتعتبر الرواية بشكل عام من أرقى الفنون الأدبية عمقاً واتساعاً لما يحتوي معمارها الفني من تنوع وتعدد في أساليب التعبير من شعر وقصة ودراما، إضافة إلى أهمية الرواية في الجانب الاجتماعي من حيث استيعاب المجتمع بكل تناقضاته وطوائفه السياسية وإعطاء تصور متكامل عن ذات المجتمع حاضره وماضيه، والتنبؤ باتجاهاته المستقبلية معبرة عن طموحاته وأشواقه وضميره الإنساني، مع قابلية الرواية للتحول إلى الفنون الجماهيرية الأخرى كالسينما والتلفزيون.
يقول البيريس عن أهمية ودور الرواية: (إن الرواية لتقوم بدور المعرف، والمشرف السياسي، وخادمة أطفال وصحفي الوقائع اليومية، والرائد، ومعلم الفلسفة السرية, وهي تقوم بهذه الأدوار كلها في فن عالمي يهدف إلى أن يحل محل الفنون الأدبية جميعا، ويمكن أن يكون في أيامنا شكلاً معمماً للثقافة).
ومن المعروف والمتفق عليه أن الرواية فن أوروبي النشأة بدأت ملامحه في التشكل في القرن الثاني عشر، واكتملت في القرن الثامن عشر حتى بلغت الرواية أوج ازدهارها في القرن التاسع عشر الذي قدم أعظم الأعمال الروائية العالمية.
وجاء القرن العشرون ليثري المعمار الروائي بأشكال وأساليب جديدة زادت من تعمقها في الضمير الإنساني وتوثيقها للمجتمع وتبأشيرها المؤثرة في المستقبل الإنساني.
أما الرواية العربية فهي فن حديث نشأ في أحضان الرواية الغربية، وانضم إلى فنون الأدب العربي مع بدايات الاتصال بالحضارة الأوروبية، وانتقل إلينا في أواخر القرن التاسع عشر على أيدي طلائع المثقفين العرب الذين تعرفوا على الثقافة الأوروبية والرواية الأوروبية الحديثة، ونقلوا إلى العربية بعض الروايات الأوروبية، وصاغوا بعض أعمالهم صياغة روائية مثل ترجمة رفاعة الطهطاوي  وسليم البستاني.
كما لعبت الحملة الفرنسية على مصر دوراً مهماً في هذا المضمار، وهو الجانب المضيء والمشرق للحملة، فقد نقلت معها أسباب ووسائل التحديث في مجالات عدة من ضمنها مجال الأدب والفن، غير أن الرواية العربية لم تلبث أن تقدمت على أيدي الأجيال التالية من الروائيين العرب صوب تعريب موضوعها، فتخلصت من تأثير المضامين الغربية والقيم الغربية مع ظهور التحديات والمقاومة الوطنية وحركات الاستقلال، حيث ظهر الميلاد الفني للرواية على أيدي الرعيل الأول من الروائيين العرب أمثال (محمد حسين هيكل) و(توفيق الحكيم) و(يحيى حقي) و(يوسف عواد) و(شكيب الجابري) و(كرم ملحم و(سليمان فياض). ويعتبر جيل الأربعينيات والخمسينيات صانع مجد الرواية العربية، حيث بلغت الرواية أوج مجدها على أيدي أبناء الجيل الثاني من الروائيين العرب أمثال (نجيب محفوظ، وعبد الحميد جودة السحار، وعبد الحليم عبد الله، وإحسان عبد القدوس، ويوسف إدريس، وفتحي غانم, وحنا مينة).
ولعل جيل الستينيات الذي امتد إبداعه الروائي حتى السبعينيات والثمانينيات، هو الذي أكسب الرواية العربية الحداثة والعمق والرصانة، جيل غسان كنفاني وعبد الكريم غلاب وجبرا إبراهيم جبرا وإميل حبيبي وصنع الله إبراهيم وجمال الغيطاني ويوسف القعيد والطيب صالح، برغم أنه لم يكتب طيلة الثلاثين عاماً من ظهوره في الساحة الأدبية العربية سوى خمس روايات (موسم الهجرة إلى الشمال)، (عرس الزين )، (ضوء البيت)، (بندر شاه)، (مريود)، ومجموعة قصصية واحدة هي (دوامة ود حامد)، إلا أن الطيب صالح استطاع أن يحتل بأعماله الأدبية تلك موقعاً مرموقاً على الخارطة الروائية العربية بل والعالمية كذلك.
فقد كان ظهور رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) في منتصف الستينيات من هذا القرن، أشبه بالحدث الثقافي العربي الذي شغل الأوساط الأدبية لسنوات طويلة، حتى إن ما كتب عن هذه الرواية يفوق حجمها الذي لا يتجاوز المائة وسبعين صفحة من القطع المتوسط، مرات ومرات.. وقد تعددت الآراء في خصوصية هذا العمل الإبداعي الهام.. هل هي في الشكل الجديد الذي أضافه الطيب صالح إلى الرواية العربية في الستينيات، أم هو في الموضوع الإشكالي - الحضاري المثير الذي يتناول قضية العلاقة بين الأنا والذات الاجتماعية بمكوناتها وتراثها وتقاليدها الاجتماعية من جهة.. والعلاقة بين الأنا (العربي - الإسلامي - الأفريقي) والآخر الأوروبي من جهة أخرى.. ذلك أن الشخصية السودانية التي يصورها بطل الرواية (مصطفى سعيد) تتحرك في علاقاتها وتكوينها على مدارين: مدار أفريقيا ومدار الوطن العربي، وكلاهما متجسد في صلب تكوينه الشخصي، أما في ما يتعلق بالعلاقة مع الآخر فإن بطل الرواية يعيش علاقة متناقضة مع أوروبا.. أوروبا المستعمرة التي بقيت ردحا طويلا في مختلف أجزاء الوطن العربي.. وهكذا تخضع هذه العلاقة المتناقضة بين العرب وأوروبا، لعملية مد وجزر.. جذب ورفض.. وقرب وبعد في آن واحد. وقد حاول الطيب صالح في روايته تلك أن يعطي تفسيراً ما لطبيعة هذه العلاقة والإشكالية من خلال نموذج (مصطفى سعيد) الذي يعود بعد حياة صاخبة في أوروبا إلى إحدى القرى الصغيرة في وطنه السودان، ليمارس حياته القديمة، وليؤكد وجوده الحقيقي اجتماعيا ونفسيا من خلال الإطار الحضاري الخاص به، والذي هو مزيج من المؤثرات العربية الأفريقية التي لم تستطع أن تحل إشكالاتها مع الغرب، أو أن الغرب صاحب الطرف الأقوى في هذه العلاقة هو الذي لم يستطع أن يحل إشكالاته معها..
لقد غزت أوروبا الوطن العربي وأفريقيا من خلال الحملات الاستعمارية التي شكلت نوعاً من الهجرة من أوروبا إلى الوطن العربي وأفريقيا في أكثر أشكال الهجرة قسوة وعدائية من سنوات طوال.. وبعد استقلال العديد من بلدان الجنوب في الوطن العربي وأفريقيا، وما يفرضه هذا الاستقلال من تحديات اجتماعية وحضارية.. بدأت هجرة معاكسة من أبناء جنوب الوطن العربي وأفريقيا إلى الشمال (أوروبا) بشكل عام، طلباً للعلم والدراسة والتحصيل العلمي العالي.. وهكذا يفسر عنوان الرواية (موسم الهجرة إلى الشمال) هجرة مصطفى سعيد إلى أوروبا طلباً للعلم، ومن ثم انغماسه في حياة صاخبة تكشفت من خلالها أبعاد الأنا في الآخر وماهية تلك العلاقة المتناقصة..
والطيب صالح الذي سافر إلى أوروبا - مثل بطل روايته ـ حيث درس العلوم السياسية في جامعة لندن، قد عايش تفاصيل تلك العلاقة ضمن إطارها الحضاري العام، بغض النظر عن الأحداث التي قدمتها الرواية، والتي لا ندعي تطابقها مع حياته في أوروبا. لكن الطيب صالح ظل رغم دراسته هناك، ورغم سفره الكثير إلى أوروبا وإقامته في لندن، ظل مثالا للمثقف العربي الذي يعي خصوصيته الحضارية، والتي لا يستهين بها تحت أية عقد أو مركبات نقص يقع فريستها الكثير من مثقفينا الذين يهاجرون إلى أوروبا.. لقد ظل كذلك في حياته وتعامله الشخصي الأخاذ.. فقدم للرواية العربية خصوصية بيئة متميزة في العديد من أعماله الروائية الأخرى.. خصوصية تستلهم روح الشخصية السودانية ومسحتها الصوفية ومتناقضاتها التي تتآلف وتتجاور محبة.. ففي روايته (عرس الزين) التي كتبها قبل (موسم الهجرة إلى الشمال)، قدم من خلال شخصية الزين الذكاء الفطري والقلب الذي يتسع لكل المتناقضات، لكل الأشياء الجميلة والقبيحة.. لقد كان الزين محباً, وحاول استيعاب العالم عن طريق الحب الذي قتله في النهاية، لكنه لم يهزمه.. وفي هذه الشخصية التي تتخذ ملامح أسطورية تتأرجح بين صفات الدرويش المجذوب، وبين قدرات الرجل الذي يقوم بأعمال يعجز عنها رجال القرية، تتجسد خصوصية هذه الرواية ونكهتها المميزة التي عبر عنها الطيب صالح بمقدرة فنية عالية تنطلق من استيعاب ذهني وروحي كامل للعالم الذي يصوره ويستلهمه في روايته.
والطيب صالح الذي أتاح لي في مهرجان دمشق السينمائي الثامن معرفته عن قرب للمرة الأولى، بعد أن قرأت له وعنه الكثير والكثير.. يضيف إليك في لقائك الشخصي معه، المزيد من مشاعر الإعجاب بتكامل الروائي الكبير والإنسان المتواضع في شخصه واعتزازه الكبير بتراثه وأدبه العربيين الذي عبر عنه بقوله: (كلما ازددت تعمقا في دراسة الأدب العربي، ازددت احتراماً لأدبنا العربي). ولاشك أن الأدب العربي في العصر الحديث سيفخر بأن يكون الطيب صالح أحد أعلامه وصانعي حضوره وانتشاره عربياً وعالمياً..