ترنيمة أولى:
مثلما تورق الكروم وتزهر في الروابي؛ تورق أغنياته فينا وتخضر حباً، وتزهر عشقاً.
ومثلما تتبرعم عناقيدها في قلوب محبيه وتثمر، تتعنقد فينا إبداعاته الفنية أشواقاً ومحبة.
حنيناً ولقاءً..
أنيناً وصفاءً..
ترانيم وجد، وألحاناً آسرة.
تغسل الأرواح، وتنقي القلوب، وتشفي أوجاعها.
تشجي النفوس الحائرة، وتطهر أحزانها.
مع كل نغمة حب، هفت أرواحنا، سفراً ورحيلاً، وفي كل ترنيمة شجن، هامت قلوبنا فرحاً وحزناً، تحملها تقاسيم لحونه الماطرة، نحو مدارب فيوضها، حين يشدو بجمال الكلمة وعذوبتها، ويزيدها عذب صوته الآسر رقة وانسياباً، وتمنحها رخامته رونقاً وبهاءً، ليسافر بنا نحو فضاءات الكلمة وعوالم رحابه، وصلاً وانكساراً، بوحاً وجرحاً، بلسماً وهياماً، تباريح عشق، وتسابيح محبة..!
ذلك أيوب الفنان والمبدع. ولن أضيف إليه شيئاً من عندي مهما أضفت أو وصفت من حلاوة القول أو عسل المحبة التي يتوجه بها غيري، ويتوحد ويتربع بها في قلوب الملايين من محبيه..!
ولكن ماذا عن أيوب الإنسان؟
أيوب المسافر إلينا بروحه البسيطة وبساطة إنسانيته عبر كل هذا الجمال الفني وكل هذا الثراء الإبداعي..!
من أي ينابيع قد جاءت وتفجرت كل هذه الأشجان..؟!
ومن أي شلال حب قد تهادت إلينا بانثيالاتها؟
أي حب، أي حزن، وأي قلب، حمل إلينا كل هذا الثراء الوجداني، وجواهر هذا الإرث الإنساني الجميل، بزاخر فنونه وتقانة تناسقه وبزهو ألوانه؟!
أي تفاصيل، وأي تشعبات، وأي مسارات، وأي مدارب، وأي شعاب، قد فاضت فيوضها وتجدولت جداولها وانسابت في نهر أيوب الخالد..؟!
وأي فرات إنساني هذا الذي قد احتواها؟!
عن كل ذلك وعن هذا الفنان سأروي..
عن أسفار أيوب الإنسان، الآن فقط سأكتب..
بدءاً من لحظة الميلاد ومكانها في النصف الأول من أربعينيات القرن الماضي، في منطقة المحرابي بالأعبوس محافظة تعز، حيث جبل الريامي يورق باخضرار أشجار (الأثاب)، والعم محمد عبدالله التعلي يصدح بشبابته جوار قطعان أغنامه وهي ترعى وتمرح في تلك الربا على وقع أنغامها ولحونه؛ سأبدأ..!
من حيث كانت الأطيار تغني معه بألحان الحياة، وتتمايل أغصان المحبة، وتخفق لترانيمها قلوب كل العذارى.
من حيثما غنى كل قلب طروب حباً صباحات تلك الروابي، وتغنى بها صبابة في نهارات مواسم البذار والصراب..
من حيث تتنفس عشقاً أنداء مساءاتها كل روح في ليالي القمر والسمر..
من حيث مرح وتغريد القمارى وزغردات وأفراح العذارى حين تنبض قلوبهن المعلقة بحبها على سفوح وسطوح تلك القرى النائية والقريبة من الله، والله محبة..
سأكتب الآن..
وبين لحظة الميلاد تلك وأفراح تلك الربا، ولحظة حديث العمر هذا هنا في صنعاء؛ امتداد عمر أيوب.. وأسفار أيوب الممتدة.
في لحظة الميلاد كان ليل البلاد من أقصاها إلى أدناها، أكثر ظلمة، وكانت كل قراها ومدنها تحبو منه نحو صباحاتها، وكانت كل أصوات البلاد مازالت تغني.
وفي لحظة ميلاد حديث العمر هذا في صنعاء، مازالت البلاد تقاوم الظلم والظلام، وكل مدنها وقراها تنشد أغاني انتصاراتها، وتغني أيضاً..! وكأن التاريخ يعيد نفسه، ويعيد الزمن دورته ودورة الحياة نفسها، بين صبر الطفل أيوب وصمته لهدهدات لحظاتها الأولى، وبين صبر أيوب الفنان والإنسان وصمت اللحظة، بعد زهاء 70 عاماً وهو يصغي لكل أغاني الحياة ولكل صوت جميل وكل لحن شجي فيها، حين يغني ويلامس جوارح روحه الرائعة، ويبلسم جراح صمته.. أو صمت جراحاته.. كما لو أنه مازال يستلهم ذلك الصبر ويعيشه منذ تلك اللحظة الأولى.
حين أصغى الطفل أيوب لأول أصواتها.
حين استجاب الطفل لأولى أغاني الحياة، لهدهدات صوت الأمومة الحنون الذي أسكت معدته الجائعة.. وسكنت روحه الطرية مع أولى هدهداته، في بلاد ترضع الأمهات أطفالهن الجائعين، حليب الأغاني ودندنات الصبر ومواويل التسلي، حين يعز الحليب في العروق، وتشح أنهارها!
مازال ذلك الطفل يعيش في قلب أيوب حتى اللحظة، ومازال صبر ذلك الطفل يعيش في صدر أيوب!
كبر أيوب، وذلك الطفل لم يكبر.
على أسفار أوتار دمعه حمل دموع أسفارنا.
على أكتاف صبره نقش شجون أوجاعنا.
ومن نبع كل كلمة وحرف ارتوت أشجاننا واقتاتت صبرها.
ومع كل ترنيمة وترجيعة نغم شربنا دمعه.
دمعة بعد دمعة وصبراً بصبر.
وآه ما أحلى دموع أيوب وما أمرّها، وآه ما أمرّ صبر أيوب وما أجمل صبره!
لم يذهب إلى المدرسة. ففي تلك الفترة، يقول الأستاذ أيوب، لم تكن في قريته من مدارس. وطفلاً اتبع فطرته، وبدلاً من تعلم أبجديات الحرف، حمل شبابته البدائية التي صنعها لنفسه من النحاس، ونحو الحقول راح يشدو بها للصبايا ولأغنامه.
وكانت (صنعاء) أحبها إلى قلبه.. بجوارها داعب بأنامله الصغيرة شبابته، ومنحها أولى نفحات روحه الرائعة، وبدء أنفاسه، ليسلي ويصبِّر بها نفسه، ويتعلم بها أولى نغمات الحياة.
عزف عليها كل ما يلامس روح وإحساس جذله الطفولي، وجرب عليها كل ما حفظته واستساغته نفسه، وألفته وتغنت به روحه من أشجان وجمال تلك الأصوات والأنغام من موروث المهاجل والأهازيج والملالات والتواشيح الروحية في نهارات الأفراح والأعياد ومواسم الرعي والسقي والبذار والصراب، ومما كان يتردد على مسامعه من مواويل الصبايا ودندنات عشق العذارى، وما تغني وتلالي به العجائز في ليالي الأنس والحب والجوع والفراق والتوق للُقياء ومواعيد الأحبة.. وغيرها من تلك الأغاني والأناشيد والألحان الجميلة والأصوات الصوفية الشجية في ليل تلك القرى المعلقة في ذرا الأعبوس وسفوح جبالها ووهاد وديانها التي كانت تصغي لها روحه الطرية، وحاكاها الطفل أيوب بفطرته نغماً جميلاً ولحناً شجياً، وسرح بها مع قطعان أغنامه في سنوات طفولته الأولى في تلك الروابي..
(صغيرين نرعى البهم ويا ليتنا
لم نكبر ولم تكبر البهم).
أصغي إلى صوته العذب وهو يحدثني عن بدايات شظف الحياة في تلك القرية النائية، وسط أسرة فقيرة. وأستعيد معه في حديث العمر هذا أسفار أيوب الجميلة سفراً سفراً ومحطة تلو أخرى، وجمالاً يتبعه جمال، وتعب يليه تعب، وذكرى جميلة مازالت تفاصيلها عالقة هنا في قلب هذا الإنسان الطيب، وأخرى تجاوز مرارتها النسيان والتسامح، وطوى الزمن انكساراتها!
(رعيت الأغنام لأمي رحمها الله في سنوات عمري الأولى، وتقاضيت أجراً مقابل رعيي لأغنام الآخرين، وكنت أعطي كل ما أحصل عليه لأمي، وأشعر بمدى فرحتها وحبها وحنانها الذي كانت تغمرني به..).
حين يتحدث أيوب عن طفولته وسنواتها الأولى في قرية المحرابي، يتذكر أدق تفاصيلها بحب وسعادة، رغم المنغصات وشظف العيش الذي كابده فيها، بما فيها تلك المواقف الصغيرة والمؤثرة التي لازالت عالقة في ذاكرته، كأن يتذكر إحدى أحب أغنامه إلى قلبه، والتي كان - كما أسلفت - يطلق عليها اسم (صنعاء)، ولحظة موتها بعد ولادتها الأولى، وصغيرها بجوارها يرضع منها دون أن يدرك أن أمه قد فارقت الحياة.
يتذكر الأغاني والأهازيج والمواويل الشعبية وألحانها الشجية التي أصبحت في ما بعد مادة خصبة لألحانه الجميلة بعد أن طورها وأضاف إليها جمال روحه ورحيق موهبته وتجربته الإبداعية.
يتذكر الألعاب الشعبية ومسمياتها (القدة والمعداية والغميضة) وغيرها التي كان يلعبها مع أقرانه وأصحابه، في نهارات القرية ومساءاتها، ويتسلى بها بفرح طفولي وسعادة غامرة تنسيه مرارة الأيام وشظف العيش.
حنين دائم لمراتع الصبا وأمكنة المحبة تلك التي تغنى وارتبط بها وجدانياً، وأثرت إبداعاته الفنية، وتأنسنت مسمياتها عبر صوته العذب وألحانه الشجية مع جمهوره إلى حد الامتزاج حباً بها، والتماهي معها عشقاً وحنيناً دائماً إليها وإلى ربوعها.
(طل القمر وأشرق بنور وضاح
على المدارة والقباعة والجاح
لو كان لي بين الضلوع أجناح
لاطير لك ويا قمر بحيفان
حيفان حياة يرعى الحبيب فيها
سعد المنى يوم السفر إليها
قد زاد شوقي والحنين إليها
إلى رباها سهلها ووديان)
(هنا في هذه الربوع بداية الحب ومنابعه.. بداية العشق وينابيعه..)..
يحدثني أيوب العاشق عن بدء أسفار العشق والمحبة.
عن نبع الأمومة الدافق الذي احتواه، وتشرَّب أيوب حنانه في نهارات العطش، وارتوت منه طفولته الظامئة؛ ومن جنة عطفه وطيب ثمارها جنى أيوب فاكهة صبره في قيظ نهاراته، واقتات دفء المحبة في شتاءات لياليه!
(كانت أمي في ظل غياب أبي بحكم ظروف عمله في عدن، بفطرتها وطيبتها وصبرها، هي معلمتي الأولى، ونافذتي التي نظرت عبرها إلى العالم، وتعاملت معه).
من هذه المنابع، ينابيع الأمومة الدافئة؛ محبة وطيبة، صبراً وحناناً وعطفاً، جاءت إلينا أنهار أيوب الدافقة، وشلالات إنسانيته وعذب مداربها.
وعبر أثير إذاعة عدن التي بدأت تبث برامجها منذ 17 أغسطس 1954م، تعرف أيوب على أصوات جديدة، غير ذلك الموروث الفني الشعبي من الأهازيج والأغاني والملالات الشعبية التي تعوَّد على سماعها وحفظها من أفواه نساء القرية وشيوخها وصباياها، كفنٍّ متوارث بين الأجيال في القرى النائية، ويتناقلونه جيلاً بعد جيل، ويتغنون به، ويعبرون من خلاله عن مشاعرهم الإنسانية فرحاً وحزناً، نعيماً وشقاءً.. في لحظات التعب حين يسرحون في أعمالهم في الحقول، أو في لحظات الاسترخاء بعد يوم من الشقاء في السقي والرعي أو حراثة الأرض أو في أعمال البناء.
(بدأت إذاعة عدن تبث أغاني جديدة غير التي اعتدنا سماعها، مثل أغاني محمد صالح حمدون سألت العين، وفنانين كبار أمثال القعطبي، وغيرها)..
ومثلما أنصتت فطرته الإنسانية لروح الألحان وأغاني الموروث الشعبي، أنصتت روحه وذائقته الفنية للألحان وللأغاني الجديدة.
(حفظت ألحان تلك الأغاني، وفي أثناء رعيي للأغنام كنت أحاول أن أستعيد هذه الألحان وأطبقها على نغمات شبابتي.. إلا أنني كنت أجد صعوبة في تطبيق ذلك، لأنها كانت غير التي اعتدت عليها.. ومع ذلك استمررت في محاولاتي، وشجعني على ذلك زوج أختي، وكنت أختلي بنفسي بعيداً عن أعين الناس، إلى أن أجدت ذلك.. كان عمري حينها قد بلغ 11 أو 12 سنة، وهو سن كبير على موعد ذهابي إلى المدرسة، ولكن أن تأتي متأخراً أفضل من ألا تأتي.
وفي إحدى زيارات أبي (رحمه الله) إلى القرية، أخذني معه إلى عدن، وهناك بدأت حياة جديدة غير التي عشتها بالقرية..