استطلاع/ بشرى الغيلي / #لا_ميديا -

وسط ساحة التحرير بالعاصمةِ صنعاء تنتصبُ أوتاد خيام سوق الخميس الأسبوعي التي تضم تحتها منتجات صُنعت بأيادٍ يمنية لأسر منتجة تحدّت الحصار الاقتصادي وتغلبت عليه بأفكارٍ راقية جدا.. عند دخولك ساحةِ السوق سيصافح أذنيك صوت عيسى الليث: «قوم شعب الجزيرة ما اعتراه اليأس.. الفرج بايجي والخير وصالي».. وتستقبلك لوحة ترحيبية بكلماتٍ كُتبت بعناية: «أهلا وسهلا بكم في سوق الخميس للأسرِ المنتجة.. منتجات بأيدٍ يمنية.. بجودة عالية.. وأسعار مناسبة».

هنا ستقف وجها لوجه مع أسرٍ تختصر قصة كفاح كبيرة تعيل بها عشرات الأسر في ظل وضعٍ اقتصادي فُرض من قبل تحالف العدوان العالمي على الإنسان اليمني للعامِ الخامس ومحاربته في أبسطِ حقوقه بالعيش الكريم.. صحيفة «لا» تجوّلت في السوق والتقت عدداً من الأسر المنتجة التي تقوم بعرض منتجاتها، وتحدث إليها القائمون على السوق وتنظيمه.. ما شد انتباهنا أن هذا السوق يضم ابن حضرموت، وابن صعدة، وبنت عدن، وبنت صنعاء جنبا إلى جنب.. لحظات تشعرك بالوحدة المتأصلة في الروحِ اليمنية دون أي تمييز، وكل منهم يأتي بما تتميز به محافظته من منتجات.. تفاصيل أكثر ضمن السياق.

اكتفاء ذاتي
ولاء صادق الجنيد (ربة بيت وخريجة كلية الإعلام قسم إذاعة وتلفزيون جامعة صنعاء)، لم تقف مكتوفة اليدين حتى تدر عليها السماء بوظيفة، بل أعملت عقلها ليخرج بفكرة جميلة، تمثلت في طريقة تركيب العطور وصناعة البخور في المنزل، تقول: قمت بعمل مشروع خاص، فالمشاريع الخاصة أفضل بكثير من أن أشتغل تحت إمرة شخص محدد أو مؤسسة معينة، أو شركة.. إلخ. فأدير نفسي بنفسي، وقد بدأت مشروعي هذا قبل 4 سنوات، منذ بداية العدوان وأنا أشتغل على تركيب العطور وطبخات البخور في البيت، وحاليا بدأت أدخل على مشروعي أشياء جديدة، وهي العُلب الكبس بالآلة.
تضيف الجنيد أن ما دفعها لهذا المشروع سببين، الأول الموهبة، والثاني تغطية عجز اقتصادي لتوفير الاحتياجات اليومية للأسرة وخلق اكتفاء ذاتي، وهنا مع سوق الخميس وعرض منتجاتنا خلاله بدأت تتغير كثيرا نظرة المجتمع للمنتج المحلي، فنحن نستطيع أن نصل لجودة المنتج الخارجي وننافسه.

العسل والتمر الدوعني
على إحدى طاولات العرض في سوق الخميس، وجدنا أشهر أنواع العسل اليمني على مستوى العالم، العسل الدوعني، وأيضاً التمور الدوعنية.
محمد سعيد الغثمي الذي يتحمل عناء السفر أسبوعيا إلى حضرموت ليوفرها لزبائنه في صنعاء، يقول: الإقبال في سوق الخميس على العسل الدوعني كبير جدا، ولله الحمد، ونحن نأتي به من مزارعنا وحقولنا في حضرموت، وعندما بدأ سوق الخميس قلت لنفسي بدلا من بيعه للخارج، أبناء البلد أولى به، ففي حال كنّا نبيع عبوة بـ75 ريالاً سعودياً، أبيعها حاليا للزبون اليمني بثلاثة آلاف ريال يمني فقط، وذلك لمساعدتهم في الحصول على هذه النوعية من العسل ذي الجودة العالية، فأبناء الوطن هم أحق بذلك.

قهر الظروف الاقتصادية
أم نصر (نازحة من عدن) تشارك في السوق بعرض أشغالها اليدوية من حقائب جلدية جميلة، ترى أن فكرة سوق الخميس ساعدتها كثيرا في التغلبِ على الظروف الاقتصادية الصعبة التي تعاني منها، بالنظر إلى كونها مطلقة تعيل 5 أطفال.
أما وفاء مبارك الحائزة على شهادة من منظمة وآم كسيدة أعمال متميزة، فتعرض في سوقِ الخميس مشغولاتها من الإكسسوارات، التي تمتهنها كهواية منذ الصغر، مما جعلها تتفنن في صنعها.. وتضيف وفاء أن هدفها من هذا العمل هو التغلب على الظروف الاقتصادية التي تعانيها، «والحمد لله الإقبال كبير جدا على إكسسواراتي في السوق». مؤكدة أنه لا أحد في السوق يستطيع تقليدها، لأنها تشتغلها بإضافات ليست موجودة في الأسواق، وهذا سر تميزها.

«زق زاق» للخياطة
زيد جحوش (كلية المجتمع ـ قسم التكنولوجيا) يتحدث عن مشروعه المتمثل في مشغل خياطة يحمل اسم «زق زاق»، والذي يقوم من خلاله بتدريب من لديهن الرغبة بتعلم الخياطة واكتساب حرفة من ذلك، وبعد أن يتم تأهليهن ينتجن للمركز، حيث يتم توزيع الأرباح بنسب محددة بين الفتيات والمشغل، بحسب قوله.
ويضيف جحوش: نحن اليوم نقوم بعرض منتوجاتنا من أعمال الفتيات اللاتي يعملن في المشغل.

حلويات «أم الحسين»
أم الحسين (ربة بيت)، تقوم بإعداد حلويات في المنزل بمساعدةِ بناتها، وتعرضها في سوقِ الخميس، تقول: أهوى صناعة الحلويات منذ الصغر، ومع الأوضاع الاقتصادية حولتها إلى حرفةٍ تساعدني في تأمين احتياجات عائلتي في هذه الظروف الصعبة.
وتمدحها إحدى زبوناتها بالقول: ما يميز أم الحسين أنها تسعى لتطوير حرفتها وتبهر من يأتون لشراء حلوياتها، فكل يوم بمذاقٍ مختلف.

«أشغالي» لتحسين حياة أسرتي
نور محمد (ربة بيت)، التي تحمل منتجاتها من التحف والهدايا مسمى تجارياً هو «أشغالي»، تشير إلى أن ما دفعها لعرض منتجاتها في سوقِ الخميس، هو الوضع الاقتصادي للوطن بشكلٍ عام، والأسرة بشكلٍ خاص، وما كانت تعانيه أسرتها بعد خروج زوجها من المصنع الذي كان يعمل فيه.
ووجهت نور شكرها للقائمين على فكرة سوق الخميس، لأنها ساعدتها كثيرا في تحسين وضعها، حيث كانت في البداية تضع مشغولاتها في محل خاص بشقيقها.

زيارة واحدة لا تكفي
أثناء تجوالنا في سوقِ الخميس، وجدنا إحدى المستهلكات (أم رضوان) تعود إلى قسم المنظفاتِ مرة أخرى، فسألناها عن السبب، فقالت: اشتريت شامبو الشعر في المرةِ السابقة، وعندما وجدناه ممتازاً جاءتنا الرغبة بتكرار شراء المنتج، كذلك المنظفات لا تقل عن جودة المنظفات الخارجية.
أما غادة علوس (صاحبة مخبز)، فقد وجدناها في قسم الطحين المركب من الحبوب التي يتم زراعتها محليا، تقول: الطحين المركب صحي وذو جودة عالية، كل شيء أقوم بإعداده من هذا الطحين يكون له مذاق خاص وشكل رائع، سواء الكعك، أو الملوج.. وكنت قد اشتريت كمية قليلة منه للتجربة، وبعد أن جربت جودته عدت مرة أخرى لأشتري كميات كبيرة منه.
عبدالفتاح المداني (رب أسرة)، يتردد هو الآخر على سوقِ الخميس كل أسبوع لشراء ما تقوم بإنتاجه الأسر المنتجة، فهو يعتبر ذلك تشجيعا لها ودعماً للمنتج المحلي، الذي يتمنى أن يتطور أكثر لينافس المنتج العالمي.
ودعا المداني للاهتمام بالسوقِ من قبل وسائل الإعلام، وتسليط الضوء عليه لكي يزداد الإقبال، بما فيه من تشجيع للأسر المنتجة على الاستمرارية.

الطحين المركب والأمن الغذائي
أثناء تجوالنا في السوق لاحظنا عديد المستهلكين يترددون على طاولة عرض الطحين المركب والمنتج محلياً، فتحدثنا عن هذا المنتج مع المهندس عبدالله النمري (مختص الهندسة الزراعية في مؤسسة قنوان للتنمية والخدمات الزراعية)، حيث يقول: مؤسسة قنوان تهتم بالجانب الزراعي بشكل كبير جدا، وتعمل في إطار ترجمة توجيهات قائد الثورة السيد عبدالملك الحوثي للوصول لمرحلةِ الاكتفاء الذاتي.
ويضيف: الطحين المركب واحد من ضمن مشاريعنا الزراعية الكثيرة، ويدخل ضمن الأمن الغذائي، حيث وجدنا أموالا طائلة تدفع في الحصول على الطحين المستورد، وهذا الشيء سبب الكثير من الأعباء على الاقتصاد الوطني، كما أن ما يدخل إلينا يحمل أضرارا كبيرة، بخاصة الدقيق الأبيض الذي قد يعطل عمل البنكرياس، ويؤدي إلى السكر وغيره من الأمراض، ولذلك قمنا بإعداد جملة من الخطط الصحية والاقتصادية، بحيث يتم دعم المزارعين وتشجيعهم للعودة إلى الزراعة وتفعيل الجانب الزراعي على مستوى اليمن.
أما عن أنواع الحبوب التي تدخل في الطحين المركب، فيقول النمري: الطحين المركب هو عبارة عن تركيبة من الحبوب التي تزرع في اليمن مثل القمح والذرة الحمراء والبيضاء ونسبة قليلة جداً من الدقيق، ويتم تركيبها من قبل متخصصين ودكاترة في جامعةِ صنعاء في جانب علوم وتقنية الأغذية، وقمنا بـ60 تجربة، وهذه التجربة رقم 1.
ويستطرد: نقوم بعرض منتجنا المحلي في سوقِ الخميس كنوعٍ من التعاون بين مؤسستي قنوان وبنيان، بحيث يتم دعم الأسر المنتجة وتشجيع المزارعين على العودة للزراعة لخلق الاكتفاء الذاتي في ظل الحصار الاقتصادي للعامِ الخامس على التوالي.

تنوع في المنتجات
عن فكرة سوق الخميس لعرض منتجات الأسر المنتجة، ودور مؤسسة بنيان في دعم الأسر المنتجة تحدثت لـ»لا» أروى حميد الدين (نائب المدير التنفيذي للمؤسسة لشؤون المرأة) بالقول: تسعى بنيان لإعانة الأسر المنتجة عبر تقديم دورات تدريبية في عدةِ مجالات، وذلك من أجل أن يكون لهن حرفة تدرّ عليهن دخلا وتعينهن على الاكتفاء الذاتي، وتستهدف بالدرجةِ الأولى أسر الشهداء والأسرى والمفقودين، واللواتي ينفقن على أسرهن وبيوتهن.
وتضيف: من خلال سوق الخميس حرصنا على التنويع في المنتجات عبر اختيار المتفوقات في حِرَفهن، وإبداء الملاحظات والتعديلات التي على الأسر العمل عليها، وإن استلزم الوضع، فلديهن الفرصة لطلب دورات متخصصة لتطوير مهاراتهن في مجالِ منتجهن.
عن الصعوبات التي تواجه مشروع سوق الخميس والحلول المستقبلية لتجاوزها، تقول حميد الدين: منذُ انطلاقةِ فكرة السوق، والإعلان عنها، أقبلت العديد من الأسر المنتجة على التسجيل وحجز طاولات للبيع عليها في السوقِ، وكل أسبوع تأتينا أسر جديدة للتسجيل، وهذا يستوجب توسيع مساحة السوق في ساحةِ التحرير، وهو ما نسعى إليه بإذن الله بالتعاون مع مديريةِ التحرير وأمانة العاصمة.
وتواصل: كما أن من التحديات متابعة جودة المنتجات للارتقاء بجودة التصنيع المحلي وكسب ثقة المستهلك، لذا فقد اتفقنا مع أخصائية جودة لتنزل إلى السوق في كل خميس وتتفحص جودة الأطعمة وتبدي ملاحظاتها للأسر، وتنبههن للالتزام بالمعايير لضمان استمراريتهن في السوق بحيث من تخالف التعليمات سيتم استبعادها من السوق، وبحمد الله كانت الاستجابة عالية منهن، بل نجد في كل أسبوع كثرة التنويع والإبداع.. أما في ما يتعلق بالمنظفات والتصنيع الغذائي، فقد بادرت مؤسسة بنيان بالاتفاق مع وزارة الصناعة والتجارة وهيئة المواصفات والمقاييس لإيجاد آلية لضبط الجودة لهذه المنتجات، وقريبا سوف تحدد المعايير بالتعاون وتضبط آلية الفحص لاعتمادها وتعميمها على الأسر للالتزام بها.

زوار السوق في تزايد
غدير الحوثي (متطوعة في السوق) تقول: بدأ سوق الخميس في أواخر 2019، حيث كان لدينا المعرض الدائم للأسر المنتجة، ولبعد المكان الأول اقترحت ضابطة المشروع أروى حميد الدين فكرة «سوق الخميس»، فتم اختيار المكان والموقع ليكون قريباً من الجميع للأسر المنتجة وللزوار.
وعن مدى الإقبال على السوق تقول: كل خميس يزداد الزوار عن الذي قبله، ويصل العدد بين 700 و800 زائر، ومعظم الأسر تعود وقد باعت منتجاتها.
أما أكثر المنتجات إقبالاً عليها، فتقول الحوثي: المنظفات المصنّعة محليا، والمأكولات التي يتم إعدادها من قبل الأسر، وانضمت إلى السوق مؤخرا مؤسسة «قِنوان» المتخصصة في إنتاج الطحين المركب.

إيجاد آلية مشتركة لفحص المنتج
عبير المغلس (مختصة فحص الجودة في سوق الخميس)، تتحدث عن أسلوب وآلية عملها بالقول: في 2019 كنا نواجه صعوبة في فحص منتجات الأسر التي تقوم بإنتاج منتجاتها في المنازل، وبالتالي كنّا نركز أن يكون المنتج خالياً من الشوائب، كذلك الأشكال المتعارف عليها بين الزبائن، ونقوم بضبط جودة حسي كــ(الطعم، والشم) بالنسبة للمأكولات التي تقوم الأسر بإعدادها.
وتضيف: أما في 2020 فقد غيرنا تلك الآلية، بحيث نقوم بفحص البيت الذي يتم فيه إعداد تلك المأكولات، والتأكد من نظافته، والأدوات التي يتم استخدامها.
وتستطرد المغلس بأن الفحص الحسي غير كافٍ هنا، لأنه يركز على الأشياء الظاهرية، أما من ناحية المنتجات الحساسة كالعصائر، والمربى بأنواعها، والمنظفات، فقد أشعرنا الأسر التي تريد أن تعرض منتجاتها في السوق وطالبناها بأن تأتي لنا بشهادة أو تقرير فحص يثبت أن هذا المنتج تم فحصه من قبل هيئة المواصفات والمقاييس وضبط الجودة، إلى أن نوجد آلية مشتركة مع الجهات المختصة.
وتبقى مقولة «شعب يأكل مما يزرع، ويلبس مما يصنع» متجسدة هنا في سوقِ الخميس، بل هي صفعة قوية على وجه تحالف العدوان الذي يسعى لتركيع اليمنيين وإذلالهم في مصدر قوتهم ودخلهم من خلال قصف المزارع والأسواق، وحصار البلد اقتصاديا، إلا أن اليمنيين معروفون منذ القِدم بأنهم لا يركعون ولا يستسلمون لغازيهم مهما جارت عليهم الظروف، لأن لديهم القدرة على التكيف مع كل الظروف الصعبة، بل قهرها بالخلق والإبداع، ويحولون الشراب المر إلى مستساغٍ للشاربين.. فقط هي دعوة عبر «لا» لزيارة السوق وتشجيع المنتج المحلي من قبل الجميع، وبهذا نكون يدا واحدة لا يكسرها الحصار؛ بل يزيدها قوة ومتانة.