بعد سقوط المشاريع الإخوانية تولت ثورة المعلومات والإعلام مهمة تحشيد مناصرين لها
العثمانية الجديدة.. حنين العجوز لامبراطورية ضائعة
الدراما تصور زوال الاحتلال التركي كـ«نقمة على العرب والمسلمين»

غازي المفلحي / لا ميديا -

يقول أحدهم: «أصبح خطر الطلاب اليمنيين الدارسين في تركيا كخطر الطلاب الذين درسوا في أفغانستان». في مشهد آخر، تجد بائع خضار في أقصى زاوية من مدينة صنعاء يحدثك بحماس وفائض إعجاب بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان وبالدولة التركية الحاضرة وسياساتها وسلوكها وبتاريخها العثماني عندما كانت تحتل الوطن العربي. يتكرر هذا المشهد عديد المرات مع شريحة كبيرة للغاية من الناس البسطاء، حيث قد استلب النموذج التركي عقولهم، وبات هناك إعجاب تطور لحب وولاء لدولة أجنبية لها مطامع استعمارية غير سرية، دولة كانت في ما مضى محتلة لليمن. فما الذي يجند ويحشد عقول وقلوب اليمنيين خلف الطامع التركي؟ وكيف ذلك؟ وما الهدف منه؟

احتلال عثماني بقوة ناعمة
قبل البحث عن الإجابة، من المعروف أن وسائل التسويق لحزب العدالة والتنمية الإسلامي الإخواني الحاكم في تركيا التقليدية، لم يعد لها وجود حقيقي في اليمن منذ عام 2014. فالرداء الإخواني الذي بدأ يتلبس الجمهورية اليمنية بقوة تمزق في 21 أيلول/ سبتمبر 2014، فتوقفت مقرات وجامعات ومعاهد حزب الإصلاح عن المحاضرات والندوات والفعاليات، وتوقفت الأنشطة في ما كان يسمى دور تحفيظ القرآن، وهرب الزنداني وصعتر واليدومي، ولم يعد محمد الحزمي يستطيع أن يغني في حشود طلابه الإصلاحيين: «ذاك أردوغان ومشعل، صوتهم بالحق زلزل، حبهم في القلب جلجل، إنهم جند محمد!».
نجد الإجابة المبدئية للعودة القوية لحالة السطو الفكري الإخواني للعقول العربية ومنها اليمنية لصالح النموذج الاستعماري التركي، من وزير الخارجية التركي مولود شاوش أوغلو الذي صرح عام 2018 أمام حشد من الطلاب بجامعة أيدين في إسطنبول، أن بلاده هي البلد الذي يستخدم القوة الناعمة أحسن استخدام.
فلم تعد تركيا بحاجة لحشد المؤيدين والمحبين الذين يصبحون جنودا وعملاء ومندسين ضد أوطانهم وضد أي كان ممن لا تحبهم تركيا عندما يحتاج أردوغان لذلك، لأنها فعلاً قد قامت بذلك مستخدمة الأساليب التنظيمية التقليدية والتلقينية لجماعة الإخوان المسلمين. فنظام حزب العدالة والتنمية الإخواني الحاكم في تركيا يتوسع في الوطن العربي منذ أكثر من 10 سنوات بانتهاج دبلوماسية «القوة الناعمة’’، بصورة معاصرة -دينية- جديدة- عثمانية، ولها جوانب ثقافية وإنسانية ودينية؛ لتسويق نفسه وتقوية نفوذه في منطقة الشرق الأوسط.
ولأن تركيا تدرك حجم قوتها المحدود في منطقة مليئة بلاعبين إقليميين طموحين وآخرين دوليين أقوياء ومخاطر الحروب العسكرية وتكاليفها الباهظة، توجهت للحرب بالقوة الناعمة، عبر توظيف ثورة المعلومات، ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي.

الحظيرة الضائعة
تتحدد مرتكزات القوة الناعمة أو مواردها لدى تركيا بـ3 ركائز، حسب الكاتب المصري كريم محمد، وهي الماضي الحضاري الإسلامي، والنموذج الأتاتوركي للدولة، والسياسة الخارجية المتعلقة بالأزمات الشرقية (المشرق العربي).
حيث يرى الكاتب المصري أن الماضي الحضاري الإسلامي دعامة رئيسية في التعامل التركي مع الجوار المشرقي؛ حيث كانت الخلافة العثمانية تحتل معظم العالم العربي، وبالاستناد إلى هذا الامتداد التاريخي، والذي يمثل أساساً في المخيال السياسي للإسلاموية التركية الحاكمة، يتم التعامل مع المشرق باعتباره «الحظيرة الضائعة» لتركيا «الجديدة». فكانت الخطة استعادتها عبر مشروع جماعة الإخوان المسلمين في المنطقة، بتصدير نسخة من الإسلاموية الديمقراطية، بإجماع غير مدروس وأيديولوجي على أنّ سكان هذه المنطقة لا بدّ من أن يحكموا بالدين، وبالتالي لا بدّ من دعم تيار ديني له رافعة سياسية ممثلاً في مشروع جماعة الإخوان المسلمين.
أما ما يسميه الكاتب النموذج الأتاتوركي الدولتي، فهو الدمج بين فكرة الإسلاموية والقومية التركية، وعند النظر إلى الإسلاموية التركية؛ وهذا ملموس في المزج بين الديني والقومي، وبالتالي يأخذ شكل العداء لـ»الأكراد» مثلاً بعداً دينياً.
المورد الثالث للقوة الناعمة التركية هو الاستثمار في السياسة الخارجية، فبالنسبة للقضية الفلسطينية والنزاع مع الكيان الصهيوني، فقد قدم أردوغان نفسه وحزبه باعتباره مناصراً لفلسطين وغزة.
ويتم توظيف هذه الموارد عن طريق الإعلام التركي والقوة الدبلوماسية والمواقف السياسية والدعم الاقتصادي والإنساني، والمعاهد الثقافية واللغوية، والمنح الدراسية المقدمة للطلاب من الدول العربية. وخلال تراجع تيار الإخوان المسلمين وسقوطه في أكثر من دولة عربية، تولت الدراما التركية الجزء الأكبر من مهمة تسويق وتمجيد النظام التركي الحالي، وحققت نجاحاً كبيراً في ذلك، وكانت المسلسلات التركية الشهيرة الحديثة والتاريخية اليد الطائلة للقوة الناعمة التركية الموجهة للعقل العربي.

اللص العثماني وعنصريته تجاه العرب
بدأ السطو الدرامي التركي بشكل تدريجي، فجذب الجمهور بقصص اجتماعية مثيرة تصور جمال ورقي تركيا، ثم بدأ التشويق بالدراما السياسية والبوليسية التي تظهر قوة تركيا الاجتماعية والأمنية والسياسية كمسلسل «وادي الذئاب»، بعدها تم الترويج للتاريخ التركي والسلطنة العثمانية، ومن ضمن ذلك مسلسل «حريم السلطان». لاحقا قدمت تركيا العمل الأقوى والأخطر، مسلسلي «قيامة أرطغرل» و»السلطان عبدالحميد»، وهما أقوى أسلحة القوة الناعمة التركية لأسر عقول العرب والمسلمين المتدينين البسطاء، حيث صورت زوال الاحتلال العثماني بأنه نقمة حلت بالعرب. يقول الكاتب المصري محمد الدسوقي رشدي، في مقال له حول الموضوع، إن هذه الدراما تقوم بتزييف الحقائق والتاريخ، وترفع من شأن فكرة الخلافة التركية. ويرى أن الأعمال الملحمية التركية التاريخية لها هدف واحد يقول بأن الإسلام لن يكون في أمان أو عز إلا تحت لواء الخلافة العثمانية أو التركية، ومسلسل السلطان عبدالحميد يروج لهدف واحد على لسان شخصية السلطان عبد الحميد الذي يقول بأنه لا إسلام بدون تركيا ولا تركيا بدون إسلام. وعلى المستوى الرسمي الحقيقي فإن رئيس البرلمان التركي السابق (بن علي يلدريم)، يؤكد هذه الفكرة كما قال في كلمته، خلال الدورة الـ11 لاجتماع «الجمعية البرلمانية الآسيوية»، في إسطنبول: السلام والاستقرار انتهى، واختفت الأخوة في المنطقة بعد انتهاء الدولة العثمانية.
يضيف رشدي أن هذه المسلسلات تُلمع السلاطين العثمانيين بأكاذيب ومبالغات تاريخية، كما أن لمشاهد المسلسلات هدفاً مهماً، وهو نفخ وتعظيم فكرة قوة وكرامة الفرد التركي، وأنه هو حامي الإسلام الذي كان يذل أعناق الرجال في بريطانيا وأمريكا وروسيا وفرنسا وألمانيا.
من جانب آخر، تصور تلك المسلسلات العرب كخائنين، وهذا الأبرز في الأفلام التي تتحدث عن هزيمة العثمانيين خلال الحرب العالمية الأولى، وتم وصفهم بـ»المتواطئين العرب» مع بريطانيا، وأقرت بهذه الصورة مسؤولة تركية حيث قالت: «لقد طعننا العرب في الظهر خلال الحرب العالمية الأولى»، وأكدها الباحث التركي سونر جاغايتاي، في مقال منشور لدى معهد واشنطن لدراسات الشرق الأوسط، بأن العديد من المواطنين الأتراك يُضمرون مشاعر عنصرية تجاه العرب.

تعامٍ عربي إسلامي لحقيقة الدور التركي
الأعمال الدرامية التركية تعمل على تزييف التاريخ، وتلمع حكاماً ظالمين للأتراك أنفسهم، وتزرع في نفوس العرب حب المحتل القديم، أما سياسات وخطابات تركيا وأردوغان المتصدرة مشهد الدفاع عن قضايا العرب والمسلمين، فهي فقاعات إعلامية لا أكثر.
والغريب أن العلاقة التركية الإسرائيلية غير مرئية من قبل العرب والمسلمين المعجبين بالوالي العثماني الجديد، أو يتعامون عنها بالأصح، بالرغم من أن تركيا أعلى دولة شرق أوسطية في تعاملها وتحالفها مع إسرائيل. والدعم التركي من الحزب الحاكم للقضية الفلسطينية، وبعدها المعارضة في سوريا، الإرهابية في معظمها، ما كان غير استثمار كبير للقوة الناعمة في المشرق العربي، وحاول الخطاب التركي تقديم نفسه باعتباره «صديقاً» للعرب، وتطور ليكون حامي الإسلام وتحديداً شقه السني.
وفي هذا الاتجاه لتركيا الكثير من التصريحات الفارغة تجاه القضية الفلسطينية، وكذلك تصريحات كثيرة حول جملة من القضايا التي يهتم بها الرأي العام الإسلامي بغض النظر عن حقيقتها، كقضية مسلمي الإيغور في الصين، والروهينجا البورميين، وكشمير، وقدمت تركيا مساعدات ومعونات في كثير من الأماكن عن طريق الوكالة التركية للتعاون والتنسيق (تيكا)، التي تعد ثالث أكبر مانح للمساعدات التنموية على الصعيد العالمي، بعد الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ونظيرتها الصينية.
الاقتصاد التركي المبهر الذي تبتغيه الشعوب العربية، اقتصاد محمي فقط بالرضا الأمريكي، والليرة التركية تتهاوى كلما برز خلاف أمريكي تركي، كما أن رؤوس الأموال الإخوانية الهاربة من اليمن وسوريا ومصر وغيرها من الدول العربية تمثل جزءاً كبيراً من مقومات الاقتصاد التركي، ولا يمكن إغفال العدوان على سوريا الذي تشكل تركيا يداً رئيسية، فيه والذي أعاق مسيرة النمو فيها ودمر أكبر المدن المنتجة والمصنعة على مستوى الوطن العربي.
المنح الدراسية التي تقدّم لطلاب من الخارج ومهاجرين، تعد أحد أسلحة تركيا الناعمة، إذ أنفقت تركيا على المنح الطلابية عام 2014، 96 مليون دولار، وفي 2015 بلغ عدد الطلاب الأجانب في الجامعات التركية ما يُقارب 88 ألفاً. وتحرص تركيا على أن تعيد الطلاب الذين يأتون إليها لبلدانهم وقد بالغوا في الامتنان لتركيا حد الولاء والتبعية والمساهمة في المشاريع التي تستهدف بلدانهم من قبلها أو من قبل تابعيها السياسيين والحزبيين وحتى الإرهابيين.

وَهْم التفوق التركي
تملك تركيا اليوم على أرض اليمن وكثير من الدول العربية، محبين ومؤيدين وناشطين ومتعاونين ومقاتلين. ويتناسب الحب والانبهار بالنموذج التركي طرديا مع الاستخفاف بالوطن والكفر بقدراته ومعاركه وطموحاته التي لا تنتمي للحظيرة التركية، ووقع الكثيرون في وهم الفوقية التركية فصاروا إما حالمين بالذهاب للعيش في النعيم التركي الممجد أو متمنين مجيئه إلى أوطانهم بأية وسيلة حتى لو كانت دبابة. ووصل الأمر أن بعض العرب يحاولون إثبات أنهم ينحدرون من أصول تركية، حيث قامت الوكالة التركية للتعاون والتنسيق (TIKA) باختبارات مجانية للحمض النووي (DNA)  من أجل الإثبات للسكان المحليين في مناطق الأقليات التركمانية في العراق وسوريا ولبنان، أن أصولهم تركية، بعد أن قامت بتقديم بعض المساعدة لهم، مثل توفير الماء والكهرباء في بعض القرى.
وفي اليمن إن كان كثير من الإخوان وقواعدهم الشعبية المؤيدين للعدوان الفاعلين والجامدين، قد خاب ظنهم وبدأوا ينفضون من حول لواء التحالف السعودي الإماراتي، فأغلبهم إن لم يكن كلهم يمتلئون بحماسة وأمل كبير للبحث عن راعٍ جديد يقودهم كالقطعان. وراعيهم المفضل هو النظام الحاكم في تركيا وقائده أردوغان، الذي لو شن عدواناً على اليمن من أي نوع لتجمهروا معه حشودا بلا تردد. وقد اتهم الإخوان، أواخر العام الماضي، من قبل بقية المرتزقة، بمحاولة إنشاء تحالف جديد يهدف للاستقواء العسكري والسياسي بتركيا، في استنساخ للتدخل التركي في سوريا وليبيا.
وطالب المرتزق المعين عضو مجلس الشورى في حكومة العميل هادي، علي البجيري، قيادة المرتزقة بتوقيع اتفاقية دفاع مشترك ومصالح مشتركة فورا مع تركيا، بحسب تغريدة له على «تويتر»، وكشف في تغريدة أخرى عن لقاء ضم سياسيين يمنيين وأتراكا قال إنه تضمن طلبا يمنيا بتدخل تركيا في اليمن وتكوين تحالف مع قطر وسلطنة عمان لمواجهة التحالف العربي.
وليس مستبعدا أن نشهد حراكاً تركياً في اليمن، سيكون له مؤيدون كثر، خصوصاً وأن للأتراك مطامع حقيقية في اليمن، وقد صرحوا عبر وزير الخارجية تشاووش أوغلو أن «تركيا أدرجت أزمة اليمن ضمن أولوياتها».