علي نعمان المقطري / لا ميديا -

ليس المعبد أو الكنيسة أو الجامعة أو مركز البحث أو المدرسة هو نموذج الأمريكي الثقافي المقدس، بل الحانة هي النموذج المقدس لدى الأمريكي منذ تكونت الجماعات الأولى للغزاة، فقد كانت الحانة مقدسه الأول، بما فيها من خمور وقمار وبنات ليل ولهو وزنا، كجزء أساسي من الحانة واقتصادها وثقافتها. ويكاد الفكر الإباحي الفاشي الاستعبادي الإجرامي أن يكون قد نما في سقف الحانة، فالحانة هي مركز النفسية الأمريكية، وتصور أمريكا الكبرى أو الدولة والمجتمع هو قبل كل شيء تجسيد حي دائم للحانة الأمريكية، فالأمريكي كان ومايزال يقضي أغلب سنين عمره في الحانة، حتى السياسيون والاقتصاديون والمثقفون ومن مختلف الأشكال والمستويات، بل إن تعلق الأمريكي بنمط الكاوبوي (راعي البقر) هو تعلق بالحانة ومسرحها اليومي.
المسجد والمعبد بالنسبة لشعوب معينة هو ما يتم عبره وفيه يوميا إعادة إنتاج نمط العيش الاجتماعي والفكري. لكن فإن الحانة بالنسبة لأمريكا تعتبر الملهى والبغاء والمباريات العنيفة والمقامرات الكبرى والصفقات التجارية، كل ذلك يتم في الحانة في الأصل، كما أنها معبد شيطاني من نوع خاص أيضاً.
الحانة هي مركز الحياة اليومية للأمريكي المكدود من تعب المغامرات والبحث عن الذهب وقطع الطرقات والقرصنة المائية البحرية ونهب البنوك والقطارات المحملة بالذهب والبضائع ونهب الأراضي ومطاردة القبائل الهندية التي ما تزال باقية في أرضيها.
الحانة هي مرجع الأمريكي وفندقه وبيته ومعبده ومركز نشاطه الاستثماري الطفيلي ومصدر معلوماته وفيها يتم تعلم كل ما يلزم للاندماج في المجتمع الأمريكي، فمبنى البنك ملاصق للحانة، ومبنى الشرطة أيضاً ملاقا لها، وكذلك مبنى الكنيسة ليس بعيدا عنها.
وإذا راجعنا قليلا مسار الأفلام الأمريكية الوسترن، وهي أصدق ما يصف حقيقة الحياة الأمريكية في الغرب الأمريكي خلال القرون الأخيرة، سنجد أن المدينة التي تجسد المجتمع الأمريكي الناهض هي مجموعة مبانٍ تقوم في وسطها جميعا الحانة كمركز للحياة الأمريكية وبجوارها مباني المؤسسات الخادمة والتابعة لها.
إذا فتشنا في الأفلام الأمريكية، وهي نوعية هامة للروايات التاريخية تعكس تطور وتكون للشخصية العامة للأمريكي وثقافته ونفسيته وسلوكه وقيمه، فسنلاحظ أننا أمام تكرار دائم للشخصية نفسها التي تكرس العنف والعدوانية والوحشية والنفاق والتآمر واللصوصية والقتل وجمع المال بكل الوسائل، كما أنها كلها تعكس صراعات تدور في الحانات وصالات القمار (أندية الليل) ومسارح الجريمة، وسنجد اللص والمجرم والزانية المومس هم الشخصيات الرئيسية في المجتمع وأبطاله، هم أساس وبيئة الأبطال، حيث البقاء يكون أضمن لمن يسحب مسدسه أسرع ويطلق النار على الآخرين، وهكذا نرى سلاسل لا تنتهي من القتلة، الأسرع والأكثر سرعة، وأرصفة المدن تتناثر عليها الجثث كل دقيقة، أعمال القتل متواصلة على مدار الساعة، وبعد كل عملية قتل، يتوجه القاتل إلى الحانة التي تستقبل كل من يتغلب على غيره ويبادر إلى إبادتهم بالسرعة المطلوبة، وفي الوقت نفسه يبدأ الغالبون الاستعداد لمفاجأة جديدة من عصابات جديدة تبحث عن القتلة السابقين. وهكذا تدور أحداث الحياة اليومية في المجتمع الأمريكي: قتل، سرقة، سكر، عربدة، قمار، مومسات... وغيرها من الممارسات. 
وإذا اتسعت دائرة نشاط الأمريكي الجغرافية فإن مناطق المكسيك جنوب القارة هي ميدان ألاعيبه وجرائمه ومطارداته ومراكز هروبه من جرائم ارتكبها شمالاً. كن قويا في عصابة مسلحة تستطيع أن تفعل كل شيء يخطر على البال، ولكنك سرعان ما تقع أسيرا لعصابة أقوى وأكثر تسليحاً وحنكة وسطوة، وقيادة أكثر خشونة وسلطة وسيطرة تبيد العصابات السابقة... وهكذا تتكرر الحكاية بصوره مختلفة.
وعندما قامت المؤسسات الحاكمة بعد قيام الدولة الأمريكية إثر الانفصال عن التاج البريطاني لم تتغير الصورة في الجوهر كثيراً، وإنما أخذت أبعاداً أوسع وأكبر.

البيت الأبيض ليس أبيضا من الداخل
أليس البيت البيض الأمريكي مبنياً على جوهر أفكار وعقائد الحانة وأخلاقها وقيمها؟
بلى هذا ما تؤكده الكثير من الحوادث التي شهدها العالم أجمع، مثل وقائع كلينتون ومونيكا جيرنوفسكي، نيكسون وجونسون، كيندي ومارلين مونرو، ترامب وجماعته... كلها وقائع صادمة تفضح مدى التفسخ الأخلاقي لدى النخبة العليا ومحيطها الاجتماعي.
وفي دراسة علمية هامة قدمها أحد كبار القادة الفكريين للإمبريالية الغربية، وهو باحث بريطاني كبير في الاقتصاد السياسي، كانت الدراسة باسم الإمبريالية وقد استشهد بها الثوري الروسي العظيم فلاديمير لينين في كتابه الشهير "حول الرأسمالية والاستعمار" عام 1916م، والذي يقول فيه إن الإمبريالية الاستعمارية آخر درجة من مجتمع الرأسمالية.
وفي تصور الباحث الإمبريالي البريطاني، وكنتيجة لاستخلاصاته البحثية، فإنه ليس هناك بعد الآن في عصر الثورات الشعبية الكبرى والانفجار السكاني الهائل والثورة الصناعية الغربية وتنافساتها سوى الاستعمار والإمبريالية، استعمار البلاد والشعوب الشرقية أو السقوط المحتم في جحيم الثورات الاجتماعية الداخلية للمجتمعات الأوروبية، وأن الصراع الاجتماعي الثوري في الداخل سوف يفتك بالرأسمالية والإقطاع ليكمل ما بدأته الثورات الفرنسية الكبرى نهاية القرن الثامن عشر والتاسع عشر.
وكانت الجماعات الرأسمالية الكبيرة المتنافسة في السيطرة على مصادر المواد الخام الرخيصة للصناعة الغربية وعلى الأسواق الخارجية لتصريف البضائع بعد أن ضاقت الأسواق الداخلية عن استيعاب ما تنتجه الثورة الصناعية من أدوات ووسائل ومعدات ومخترعات تصب في زيادة المنافسة والاحتكارات وسعة ميادين الصناعات وصناعة الأسلحة الحديثة، وقد انتقلت إلى أمريكا كل القيم والأفكار الأوروبية جاهزة دون جهد كبير.
كان الدهاء السياسي الاستراتيجي البريطاني والغربي الرأسمالي الإقطاعي الإمبريالي الصاعد القوي قد تجلى في جعله القارة الجديدة أو العالم الجديد مستعمرة عظمى، ترسل إليها أوروبا جميع نفاياتها الداخلية من المجرمين والمعارضين والشيع الدينية المتطرفة والمخالفة، والحالمين الباحثين عن الحريات، وأصحاب تجارب الإصلاح الإنسانية، والمغامرين والقتلة المحترفين، والمطاردين والمقامرين والباحثين عن العمل والمال والذهب، والعنصريين الذين يتوقون إلى تصفية الأجناس الأخرى والاستيطان في أراضيهم بدلا عنهم، والباحثين عن إرواء الشهوات والملذات والمتع بلا حساب، والقراصنة من كل صنف... كل هؤلاء تم تصديرهم إلى العالم الجديد لاستعماره وتعميره ونهبه والسيطرة عليه. ومن هؤلاء تكونت النواة الصلبة لمؤسسي أمريكا الحديثة، وهي النواة الأنجلوساكسونية الإنجليكانية، والبرتانية التوراتية، والإنجيلية اليمينية العنصرية، التي هي أساس الرؤساء الأمريكيين والنخب الحاكمة هناك.
والبارز هنا أن أمريكا لم تتكون بشكل طبيعي كمجتمع له ثقافته وكينونته ودوره وإسهامه الحضاري وتاريخه وتطوره الأخلاقي.

جذور الاستعباد  الأمريكي للمستضعفين 
كل ما كانت بريطانيا وفرنسا تخجلان وتخافان من فعله في شعوبهما، كانتا تقومان بتنفيذه بالوكالة في أمريكا من بشاعات في حق الإنسانية.
فقد نظمت الشركات الرأسمالية الغربية والبريطانية الأمريكية حملات اصطياد بشرية واسعة للأفارقة هي الأكبر في التاريخ البشري كله، ونقلتهم إلى المستعمرات الأمريكية لاستخدامهم في العمل البدني المجاني، وأجبرتهم على البقاء تحت القيود طوال حياتهم، وتعاملت معهم كالحيوانات. فالإقطاعيون والتجار الزراعيون الأوروبيون والإنجليز اخترعوا طريقة مربحة للزارعة وإنتاج البضائع الزراعية في أمريكا.
هكذا قضى ملايين البشر وهم يكدحون كالحيوانات في حقول الرأسماليين الإنجليز والأمريكيين لعدة قرون، وراكموا ثروات هائلة في جيوب الملاك هي أساس جميع الثروات الكبرى التي تكونت في أمريكا وبريطانيا. وإذا كان الذهب المنهوب من مناجم الشعب الأحمر في أمريكا (السكان الأصليين) وأساس النهضة والثورة الصناعية في القرن السادس عشر فإن نهب الأفارقة المستعبدين هو أساس النهوض الزراعي والصناعي الواسع لأمريكا لتصبح أكبر منتج للحبوب والغذاء في العالم.
إن عقيدة استعباد الناس حسب اللون والجنس والملكية واعتمادا على القوة المالية للبيض الأوروبيين، واستخدام الإنجيل التوراتي لتبرير العمل البشع وشرعنته، هو أساس تكوين العقلية الأمريكية الاستعبادية العنصرية، وبما يفوق ما فعله هتلر الذي لا يختلف في أساسه عنهم.
وبمراجعة تاريخ رؤسائها وقادتها السياسيين منذ الأربعينيات وإلى الآن لم تعرف أمريكا لحظات حكمة سياسية إلا في حالات نادرة جدا أجبرت عليها وليست طبيعة فيها. فالظاهرة العامة في السياسة الاستراتيجية الأمريكية اتسمت بالطيش والعنف في التعامل مع الشعوب الضعيفة المحيطة بها منذ نشوئها السياسي الحديث وطوال قرون خلت، وأكثر الشعوب التي عانت من جنونها وطيشها وفاشيتها وغطرستها التي كانت شعوب أمريكا الجنوبية والوسطى والهندية والدول المستقلة هي الضحية الأكبر، وتأتي المكسيك في طليعتها، فقد شنت الولايات المتحدة العديد من الحروب التوسعية لتضم إليها أراضي مكسيكية واسعة، أراضي ولايات بأكملها، مثل ولايتي نيومكسيكو وكاليفورنيا، إضافة إلى ولاية ثالثة، كما سيطرت على أراضي ألاسكا، غرب كندا، والتي كانت تتبع القيصرية الروسية. أما المناطق الأخرى في جنوب القارة ووسطها فقد أعلنت عليها الحروب المباشرة وغير المباشرة بهدف السيطرة على أراضيها وخيراتها الطبيعية، ووضعت فيها حكومات عميلة تابعة لها بعد أن أقامت لها قواعد عسكرية فيها، وسيطرت على المناطق الهامة منها، فمثلاً كوبا تعرضت لاحتلال أمريكي في القرن قبل الماضي، وما يزال فيها إلى الآن قواعد عسكرية أمريكية أشهرها قاعدة جوانتنامو، التي تقيم فيها أمريكا معتقلات خارج القانون الأمريكي.
كما تعرضت جميع دول أمريكا اللاتينية لتدخلات عسكرية أمريكية مختلفة. وقد أحسن معدو برنامج "إمبراطورية من الأشلاء" في الإذاعة اليمنية إحصاء وتتبع تاريخ التوحش الأمريكي في القارة منذ قرون، وكيف أن الأمريكيين أبادوا أكثر من 150 مليون هندي أحمر من الشعب الأصلي باستخدام شتى وسائل القتل والإبادة وبأبعاد واسعة شملت القبائل والعشائر بصورة جماعية ودون رحمة. 
واستنادا للتوسع الصناعي والتطور العسكري لأوروبا وأمريكا فقد تقاسم المستعمرون القدامى والجدد النفوذ والهيمنة، حيث تفاهم المستعمرون الكبار على توزيع المستعمرات فيما بينهم، فتبقى أمريكا داخل حدود المحيط الأطلنطي وتطلق يدها في أراضي شعوب أمريكا اللاتينية الملونة لتكون محمية وحديقة خلفية لها، بينما تواصل بريطانيا وأخواتها الأوروبية التوسع خارج أوروبا والأطلنطي، أي أن حصة أمريكا من العالم الثالث الفقير كانت أمريكا اللاتينية، بينما حصة بريطانيا وأخواتها كانت أفريقيا وآسيا وأستراليا وغيرها.


1 ـ 3 ـ 2020