حاوره/ نشوان دماج -

من أشهر الفنانين التشكيليين اليمنيين، تتلمذ على يد الفنان الكبير هاشم علي. 
حائز على ماجستير فنون - تخصص جداريات- من أكاديمية الدولة في موسكو بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف. مدرس مادة الرسم الحر في جامعة صنعاء - كلية الهندسة - قسم العمارة. يشغل الآن منصب وكيل وزارة الثقافة لقطاع الفنون. من الصعب تقديم فنان بحجم حكيم العاقل في نبذة تعريفية كهذه، كما أنه من الصعب حصر خبراته وسيرته الفنية ومعارضه المحلية والدولية في مجموعة أسطر. . مرافئ «لا» التقى العاقل في حوار حول الفن التشكيلي والقضايا التي يتناولها، والإشكاليات الحقيقية عند الفنان التشكيلي في اليمن، فإلى الحوار:

ما يميز الفنان عن اللافنان
  في البداية لو تحدثنا أستاذ حكيم عن بناء اللوحة عند الفنان التشكيلي.. على ماذا يقوم؟
يعتمد ذلك أساساً على موضوع اللوحة وعلى التكوين، وهو الشيء الذي يميز الفنان من اللافنان. وأقصد بالتكوين مجموعة الأحاسيس والمشاعر التي تكون الكتل الشكلية داخل الفراغ في اللوحة. أما البناء فيعتمد على اللون والشكل ورسم الكتل نفسها، وهي تقنية لا تتحصل إلا بالدراسة. 

الموهبة وحدها لا تكفي
 هل معنى ذلك أن الفن التشكيلي لا يتأتى من خلال الموهبة؟
الموهبة تلعب دوراً؛ لكن لا بد من الدراسة. فالذي يدرس يختلف عن الهاوي، فهذا تنقصه أشياء كثيرة جداً. فبالنسبة للفنون التشكيلية من الضروري أن تتم دراسة شيء اسمه تشريح ومنظور وتاريخ نظرية الفن وعلم جمال ومقدمة في علم الاقتصاد... الخ. أما نظرية الهواة فمهما ظل المرء يرسم يظل هاوياً.
 ما مدى إيمانك بحيادية الفن وبنظرية الفن للفن؟
هذه نظرة مثالية قديمة أفرزتها أرستقراطية أوروبية، وهذا ليس صحيحا. فالفن تاريخياً هو للمجتمع، للإنسان. وعلاقة الفن بالمجتمع علاقة وطيدة جداً. 

مدننا بلا ذاكرة مكانية
  وهل انعكست تلك العلاقة الوطيدة للفن في المجتمع اليمني أيضاً؟ 
مشكلتنا أن الفن عموماً ليس متجذراً في مجتمعنا، ولذا تجد أسماء شوارعنا مرتبطة بأسماء مطاعم أو شركات. وقليلة هي الشوارع أو الأحياء المرتبطة أسماؤها بشخصيات مجتمعنا البارزة. ومعنى ذلك أن الذاكرة المكانية مفرغة عند الإنسان اليمني، وبالتالي هو بلا ذاكرة مكانية. فبدل أن يكون هناك جولة باسم البردوني مثلاً، وأخرى باسم أبو بكر سالم، وثالثة باسم علي الآنسي، وغيرهم من الفنانين والشعراء، نرى جولة كنتاكي وجولة المصباحي وجولة الرويشان... الخ. ما أقصده هو أن مدننا جرداء، لأنها مفرغة من الذاكرة المكانية. وبدلاً من أن يكون هناك مجسمات وجداريات تحاكي ذلك التاريخ المجيد، هناك تلوث بصري مخيف يغطي شوارع مدننا بدعايات الحفاظات والصوابين والمنتجات الغذائية وشركات الاتصال وغيرها. وأسميه تلوثاً بصرياً لأن الإنسان يشاهد تلك الدعايات ولا تثير فيه أو تعني له شيئاً. بينما لو أن المرء خرج إلى ساحة ما وشاهد مجسماً تاريخياً مثلاً يحكي جزءاً من مآثره كيمني، بالتأكيد سيجعله ذلك أكثر قوة وحصانة. وإذا لم يكن الشيء الذي يربطك بالمكان موجوداً فإنك ستكون هشاً.

عين الطائر
  ما هي الزاوية التي يتناول فيها الفنان حكيم العاقل أعماله؟
هناك زوايا متعددة، فأنا كل سنة أقوم بتناول لوحاتي من زاوية مختلفة. على سبيل المثال اشتغلت فترة طويلة على مشروع «عين الطائر» استكملته بسلسلة من المعارض في الأردن والبحرين وفي صنعاء. و«عين الطائر» هي المشاهدة الأعلى نحو الأسفل، أي أن تتخيل نفسك طائراً وتشاهد المناظر الطبيعية والمدن والناس من عل، ثم صياغتها من جديد. وآخر معرض لي كان في البحرين بعنوان «تعويذة الأرض»، بمعنى من الضروري عمل تعويذة لهذه الأرض مما تشهده من حروب ومآس، وهي بمثابة رسالة عالمية وليست خاصة باليمن فقط.

«الحرب والسلام» رسالة إلى العالم
  ما الذي أحدثته مشاهد العدوان على اليمن من أثر في أعمال الفنان حكيم العاقل؟
لا شك أحدثت أثراً كبيراً. في 2015، أي في بداية العدوان، أقمت معرضاً تحت عنوان «الحرب والسلام»، ضم 30 لوحة، كلها تناولت العدوان وضحاياه ومآسي الحرب، خصوصاً مآسي النساء والأطفال باعتبارهم الضحايا الأساسيين الذين لا حول لهم، وكذلك مآسي النازحين. فأنا أول فنان تناول الحرب من ذلك المنظور. صحيح أنه موضوع شائك ومتعب، لكن أردنا بشكل أو بآخر نقل صورة ما، ذات رؤية مختلفة ورسالة إلى العالم مفادها أننا مازلنا موجودين على هذه الأرض ومتمسكين بها، وأن هذه اللوحات هي ضحاياكم، ضحايا التكنولوجيا والطائرات التي تقتل، بدل أن تخدم البشرية. 

الجداريات فن الشعب
  ماذا عن البطولات وملاحم الصمود.. أليس من حقها أن تتجسد هي أيضاً في أعمال فنية؟
بالتأكيد. لكن اللوحة لا تكفي هنا، بل نحن بحاجة إلى عمل جداريات ضخمة. وذلك لا يتأتى بين يوم وليلة، بل يحتاج إلى وقت طويل. لأنك تريد نقل تلك البطولات إلى الشارع، والسور الذي هو عبارة عن إعلانات للهامبرغر وغيره يتحول إلى ملحمة كبيرة جداً. وهنا يأتي دور الجداريات لأنها فن الشعب. إنما ليس جداريات بألوان تسقط بعد أيام، بل يجب أن تكون مصنوعة من البرونز أو المعادن، وتحتاج إلى وقت ودراسات. فهي تخليد للملاحم والبطولات، وبالتالي لا بد أن يكون العمل بحجم ذلك. أما تعليق الصور ورسمها على الجدران فلا يؤثر في الناس ولا يجعلهم أكثر قوة. بل يصبح أشبه بالدعاية والإعلان أكثر من كونه فناً مؤثراً.

النقل الصوري ليس فناً
  يشاع أن المسافة بدأت تنمحي بين العدسة والريشة.. كيف تعلق على ذلك؟
لا يمكن لتلك المسافة أن تنمحي على الإطلاق. فالريشة تظل ريشة والعدسة تظل عدسة. الكاميرا تسجل الواقع، بينما اللوحة تقدم رؤية جديدة لذلك الواقع، بأبعادها النفسية والاجتماعية والثورية... الخ.
  لكن يقال إن الفنانين التشكيليين تحولوا إلى عالة على الفوتوغرافيين، بحيث تراهم يترصدون لكل صورة يلتقطها الفوتوغرافي...!
هذه كارثة بطبيعة الحال. ويجب على المصور تقديم شكوى بأي تعدٍّ من ذلك النوع. فمن قوانين الفن التشكيلي أو أعرافه أنه يمنع منعاً باتاً النقل من صور، لأن ذلك ليس فناً. بل هو أمر يسيء للفن وللتصوير معاً. فالذي ينقل من صورة يكون قد عرف النتيجة مسبقاً، ومهما كانت دقته في النقل لا يمكن أن يكون في عمله أي إبداع على الإطلاق، بل لا يسمى ذلك العمل فنا، وإنما حرفية لا أكثر، حرفية تستخدم في الدعاية والإعلان. فالشيء المهم في الفن التشكيلي هو الخيال، وأنت هنا قمت بتعطيله تماماً. أما الاحتفاء بهذا النوع فهو جهل عند الفنانين التشكيليين أنفسهم. وهنا يتبين الفرق بين الدارس وغير الدارس.

لم أرسم في حياتي امرأة محجبة
 تسيدت الفلسفة الغربية في حقوق الإنسان وانعكس ذلك على الفن في مجتمعاتنا بحيث يتعامل الفنان التشكيلي في تعاطيه لموضوع المرأة مثلاً من منطلق ضيقه ببعض الزوايا التي ينظر من خلالها إلى ذلك الموضوع، كالشرشف أو الستارة... من أية زاوية تقارب أنت موضوعات كهذه؟
هذا موضوع مهم. فاللوحة التشكيلية هي نتاج إبداع فكري ينعكس بشكل اجتماعي. وإذا تحدثت هنا عن تجربتي فأنا لم أرسم في حياتي امرأة محجبة، ليس لشيء، وإنما لأن المرأة التي تسكن ذهني شيء مختلف. هذا الحجاب بالنسبة لي هو بمثابة قشور، أو هو قناع مجتمعي سيسقط يوماً ما. فالمرأة هي أم وأخت وزوجة... الخ. وبالتالي إذا سجنا المرأة داخل ستارة مزخرفة أو برقع أسود فأنت لا ترى شيئاً، وإنما أنت ترسم السواد لا أكثر. أين تجد المرأة اليمنية الحقيقية؟ هل في لوحة هي عبارة عن برقع أو ستارة لا أكثر، أم في لوحة لامرأة صبرية مثلاً تبيع في سوق من الأسواق بكامل زينتها؟ أي المشهدين هو الذي يمكن أن يشكل لوحة جمالية تأسر خيال الفنان فيقوم برسمه وترجمته عن المرأة الحقيقية؟ 

الرؤية تصقل الإبداع
 لماذا التركيز من قبل الفنانين التشكيليين على فتوة المرأة وشيخوخة الرجل؟
هذه وجهات نظر مختلفة ومتباينة من شخص إلى آخر، وذلك بحسب توجه الفنان ورؤيته. إذ ليس كل الفنانين يحملون الرؤية نفسها والثقافة ذاتها. هناك فنانون ثقافتهم محدودة، مثلما أن هناك شعراء وموسيقيين ثقافتهم محدودة. وبالتالي الأمر يعتمد على الثقافة التي تكون رؤية الفنان في ما بعد، لأن الرؤية هي التي تصقل الإبداع.

الأدب والفلسفة يخدمان التشكيلي
 هل يمكن للفنان التشكيلي إذا قرأ نصاً أدبياً أن تتخلق عنده صور ما لرسم لوحات؟
كثيراً ما يحدث ذلك. فأنا على سبيل المثال قمت برسم 300 إلى 400 غلاف لكتب أكون قد قرأتها بالكامل، سواء دواوين شعر أو روايات أو غير ذلك، بحيث أستلهم مما قرأته صوراً أرسمها على الغلاف. النصوص الأدبية والفلسفية تخلق آفاقاً لا بد أنها تفيد الفنان التشكيلي أكثر من غيره. لكن للأسف الشديد معظم الفنانين التشكيليين في اليمن لا يقرؤون، ولذا تجد ثقافتهم محدودة. لا يكفي أن تقرأ في الفن التشكيلي وحده، بل لا بد من القراءة في مختلف المجالات حتى يكون لديك ثقافة موسوعية طالما أنك تعتمد على الفكر والخيال.

شرح اللوحة يقتلها
 لماذا هناك على الدوام شعور لدى الكثيرين بأن الفن التشكيلي غير مفهوم؟
لأن هناك مفهوماً خاطئاً جسده مبدأ أن اللوحة ينبغي أن تُشرح. اللوحة لا تشرح، أشباه الفنانين هم وحدهم من يقومون بشرح لوحاتهم. هناك كمية هائلة من التجهيل البصري بحيث ينتظر الناس منك أن تشرح لوحاتك. اللوحة انطباع: أعجبتني أو لم تعجبني. تماماً كالموسيقى. إنك عندما تقوم بشرح اللوحة لشخص ما، تكون قد قتلت اللوحة وقتلت ذلك الشخص، لأنك تجعله حائراً كأنه أمام طلسم يريد فك رسومه ويبحث عن الشيء الذي لا يوجد. وبالتالي مفهوم أن الفن لا بد أن يشرح هو مفهوم خاطئ، ولا يمارسه إلا الهواة من الفنانين غير المثقفين الذين كلما جاء مسؤول أو شخص ما، قاموا يشرحون له بأن هذا يعني كذا وذاك يعني كذا... بينما المطلوب هو الوقوف أمام اللوحة وتأملها لا أكثر، وأن يدعها المرء تتغلغل فيه وتسحبه إليها.