علي نعمان المقطري / لا ميديا -

كثيرا ما نسمع الرؤساء الأمريكيين وهم يخطبون مكررين نفس الجمل التي يرددها سابقوهم من الرؤساء باعتبارهم مدافعين عن القيم الأمريكية والغربية المتحضرة الخاصة، وتحضر هذه الجمل دوما في الحديث عن الحرب ضد الذين يهددون القيم الأمريكية والغربية، وهم يشيرون صراحة إلى أولئك الذين يحملون قيما مغايرة لأنماط عيش الغربيين وأساليب عيشهم وممارساتهم اليومية وسلوكهم المنمط، فهم أعداء في نظرهم، كما أنهم لا يكتفون بأن يدافعوا عن أنماط عيشهم في بلادهم، وإنما يشنون الحروب العدوانية على الأمم الأخرى لإجبارها على قبول القيم الأمريكية الغربية في العيش والتفكير والاعتقاد والاقتصاد والسياسة والعلاقات الدولية والفردية والبشرية والاجتماعية.

إنهم يقدمون أنفسهم بصورة المبشرين الأخلاقيين الكونيين، فهم من يشرع للأمم الأخرى ماذا وكيف تأكل وتشرب وتعيش وتنجب وتعاشر، وما هو الحلال والحرام، وكل ما هو مختلف عنهم يعتبرونه مروقاً عن الدين وعن الصراط المستقيم، وأية دولة تخرج عن الصراط الغربي الأمريكي وتسعى للتحرر من هيمنتها وسيطرتها، أو تفكر بالاستقلال والتقدم والكرامة والحرية والعزة والسير في الطريق الخاصة بها، تطلق عليها صفة الدولة المارقة.
وفي نهاية كل خطابات الرؤساء الأمريكيين يهمسون بأن الرب معهم ويحميهم ويوجههم ويوحي إليهم بأعمالهم، بمن فيهم أكثرهم بشاعة في التاريخ، قاتل أطفال اليابان والعالم، الرئيس ترومان، صاحب أول قنبلة نووية، كان يهمس بنفس التقوى الظاهرة بعد كل خطاب له، بما فيه خطاب العدوان النووي الفظيع نتذكره وهو يقول: "ليرحمنا الرب وليحفظنا ويحمنا ويحم أمريكا".

نصارى وما هم بنصارى
فهل هم نصارى يدعون ويبشرون بالنصرانية والمسيحية الغربية ويدافعون عن قيمها كما يخطر على البال؟ أم هم نصارى وما هم بنصارى، أي لا إيمان لهم بخالق أو بقيم؟
إنهم لا يخفون القيم الحقيقية التي يبشرون بها ويحيون على مناهجها رغم التمسح المنافق العقيم بالنصرانية وبالرب في ذيل كل خطاب.
عند الحديث عن القيم الأمريكية والغربية يضيع كل حديث عن الدين والنصرانية وقيمها، ويعزل الدين عن المجتمع والسياسة والحياة والاقتصاد وكل شيء يخص الدولة والمجتمع المدني.
إن الكفر بالدين وبالخالق وبالقيم والأخلاقيات هو الواقع الحقيقي القائم في الغرب وفي أمريكا، إنهم يكفرون بكل شيء إلهي وأخلاقي وقيمي وينفرون منه، ومع ذلك هناك كنائس وبيوت للعبادة يرتادها الناس العاديون (المساكين) وهم من يمول أنشطتها وليس لها أي حق في التدخل في شؤون الناس الاجتماعية والعامة والفردية، هو دين واقع تحت رحمة الكافرين به.. فلماذا يبقى صوريا إذن؟ لأن الحكام يحتاجون أن يستخدموه لتزوير إرادة الناس البسطاء المؤمنين وتضليلهم وإقناعهم بسلامة قراراتهم وسياساتهم وحروبهم، ولإضفاء القدسية على حروبهم العدوانية ضد الآخرين، سواء نصارى أم غيرهم.
إن المجتمع الأمريكي والغربي هو مجتمع الرذائل، فالكفر والإباحية السلوكية والاستباحة والاستغلال والقهر للآخرين والرذائل والعدوانية، هي القيم الكبرى للأمريكي والغربي، الكفر هو عقيدتهم الحقيقية الباطنة والظاهرة التي لا نراها في كتبهم وخطاباتهم، بل في سلوكهم وتصرفاتهم وسياساتهم وأفعالهم وقوانينهم ودساتيرهم وتشريعاتهم وأنماط معيشتهم وحلالهم وشهواتهم ورغباتهم ونزواتهم وثقافاتهم اليومية وإباحاتهم واستباحاتهم ولهوهم ومتعهم وفنونهم وألعابهم ومسرحهم وأفلامهم وقنواتهم.

قوة العقائد تحدد قوة الجيوش
الانتشار الإنساني للقوى والدول يعتمد على نشر عقائد إنسانية عالمية جديدة، وبالتالي فإن جميع القوى الطامحة إلى الانتشار العالمي أو الاجتماعي لا تستطيع ذلك إلا إذا كانت تحمل عقيدة ثورية جديدة تستهوي قلوب الأغلبية البشرية المقهورة المظلومة، وهذا ما شهدته الدعوات الدينية الكبرى، وما شهدته الدعوات الإنسانية التحررية العظيمة في العالم أجمع، وهذا ما حدث في الثورات البريطانية والفرنسية والروسية والصينية.
لقد انتشرت الجيوش الفرنسية للسيطرة على القارة الأوروبية بكاملها خلال بضع سنوات، ساحقة في طريقها كل الجيوش والتيجان والممالك والإمارات الأقوى منها.
إن نابليون كان نتاجا لتلك الثورة الفرنسية العظيمة، وليس منفصلا عنها وعن القيم التي تبنتها الثورة. لم تكن عبقرية نابليون وحدها التي هزمت الأوروبيين في الجوهر، بل هي العقائد الثورية التي كونتها، وعندما كفت تلك الأفكار عن أن تشع وأن تكشف جوهر الثورة وتستبدله بقفاز الإمبراطورية الاستعمارية الرأسمالية، سرعان ما انهارت تلك العبقرية الحربية التي خسرت جوهرها الثوري الأخلاقي، وخسرت محتواها القديم الأصيل، فسهلت هزيمته والقضاء عليه وعلى عصره وإعادة الرجعية إلى فرنسا وإلى أوروبا بعد أن تعلمت دروس الثورة القديمة الجديدة.
ولم تكن عبقرية جوكوف أو ستالين هي وحدها التي هزمت ألمانيا ودمرتها واستأصلتها من الوجود في الحرب العالمية الثانية، بل إن القيم التي بشرت بها ثورة البلاشفة الشيوعية والاشتراكية في روسيا هي التي هزمت الألمان واليابانيين، واستطاعت القيام بما يشبه المعجزات والخوارق من التضحيات والثبات الوطني الحربي، وأن تصطف الشعوب السوفيتية خلف قيادتها، وأن تقدم عشرات الملايين من الشهداء على مذبح حرية وكرامة الإنسان في العالم كله، ويصدق هذا على الثورة الصينية والفيتنامية التي واجهت أقوى جيوش العالم وأكثرها تطورا.
ليست عبقرية الزعيم ماو تسي تونغ أو عبقرية الزعيم هوشي منه أو الجنرال جياب أو عبقرية الزعيم كيم إيل سونغ وحدها التي صنعت الانتصارات ضد العدوان الفرنسي والياباني والأمريكي، ولا هي الأسلحة وحدها التي صنعت ذلك، وإنما قبل كل شيء وأهم شيء كانت القيم العظمى التي فجرتها الثورات الشعبية الوطنية التحررية.
وليست عبقرية الخميني وحدها التي هزمت الشاهنشاهية والأمريكيين وعملاءهم والصداميين والإرهابيين، وإنما قبل كل شيء القيم التي فجرتها الثورة الشعبية الوطنية الاستقلالية والتحررية العظمى في عقول ونفوس الشعب والناس العاديين والمقهورين.
ولم تكن عبقرية كاسترو لتفعل الكثير وحدها بدون القيم التي فجرتها الثورة الكوبية في نفوس الشعب الكوبي المظلوم وفي نفوس اللاتينيين المقهورين المستعبدين طيلة قرون من الولايات المتحدة.
لقد هُزمت أمريكا أينما اتجهت، وسوف تهزم أينما تتجه الآن ومستقبلا، لأنها لا تحمل أية قيم أخلاقية حقيقية تملك بها قلوب الشعوب وملايينها المقهورة المحرومة والمستغلة من قبل أمريكا وحلفائها، وروسيا والصين وكوبا وفنزويلا ولبنان والعراق واليمن وفلسطين وتايوان وهونج كونج وكوريا والفلبين وباكستان وأفغانستان وإيران وغيرها نماذج تؤكد تلك الحقيقة، حيث شهدت أكبر الإخفاقات للأمريكي، إخفاقات هائلة وفاضحة، خصوصاً أنها كانت قد حققت سيطرة سياسية وأمنية كاملة وشاملة على بعض الأنظمة المذكورة وغيرها، والتي ظلت تابعة لها لبعض الوقت، فلماذا يحدث هذا الانحدار لأمريكا بعد أن وصلت إلى أعلى مستوى لها من الهيمنة العالمية، والتي لم تدم طويلاً على عكس واقع ومنطق وتاريخ الإمبراطوريات الأخرى في التاريخ القريب والبعيد؟ وإلى أين يقودها هذا الانحدار الجاري؟ وما هي دلالاته؟

عالم بأكمله ينسل عن قبضة السيطرة الأمريكية
لنلاحظ الظاهرة التالية الداعية إلى التأمل العميق في مجرى التراجع والهزائم الأمريكية استراتيجيا، وهي:
1 ـ إن جميع الدول والشعوب التي كانت تحت السيطرة الأمريكية والغربية قد شرعت تنسل واحدة تلو الأخرى عن ميدان الهيمنة الأمريكية والغربية.
2 ـ إن جميع الدول التي انسلت عن الهيمنة الأمريكية لم تفلح أمريكا في إعادتها إلى بيت الهيمنة مجددا.
3 ـ إن هناك دولا أخرى تبحث عن طريق خاص بها بعيدا عن الهيمنة الأمريكية، وإن عبرت عن ذلك السعي بأساليب ملتوية وغير مباشرة، ويمكن أن نورد عدة دول من هذا النوع، مثل: الفلبين وباكستان وتركيا ولبنان وفلسطين وأفغانستان وأوكرانيا وقطر والكويت وعمان.

الحكمة الأمريكية الغائبة
حين لا تكون الحكمة جزءاً طبيعياً من تطور شعب أو أمة، فإن البحث عنها يطول، ويقود إلى لا شيء، يقود إلى فراغ هائل تملأه رياح العدوان وعواصف القهر والعبودية والإجرام والإباحية الشاملة أمام شهوات وأطماع ونزوات ومجون وعهر يلازم كل تصرفات الأمريكي في الأغلب الأعم، ومن هذا الجو والمناخ المشروع يولد الرجال الأمريكيون والقادة الطامحون للسيطرة على العالم ونهبه واستعباده.
إن عزل الدين عن الدولة والمجتمع كانت حيلة ذكية لمنع تسرب القيم الدينية الأخلاقية إلى النفسية الأمريكية والأوروبية، ويجب ألا تتسرب إليها قيم الرحمة والأخوة الإنسانية وحب الخيرات والأسرة والجيران والآباء والتسامح إزاء البشرية، فذلك يتعارض مع النفسية الصهيونية الرأسمالية الشرهة الجشعة والتواقة إلى الاستحواذ والتملك لعرق الغلابى والشغيلة والمساكين بغير حساب ولا رقيب أو وازع.
لأن تلك القيم الدينية تشكل عقبات كأداء أمام مشاريع الاستعمار والتوحش الإمبريالي، فالآباء المؤسسون لأمريكا، كما يسمونهم، قد صاغوا لها ما يناسبها من قيم تتفق مع الوظيفة الاستعمارية، ومن القيم والصفات التي تناسبهم وتناسب الرجل المتوحش الذي يقتل الهنود الحمر بدم بارد ودون شفقة أو رحمة، ويقتل كل الشعوب الأخرى التي يجب أن تباد في نظره، دون أن يرمش له جفن أو تطرف له عين، نفسية صلبة لاترحم أحدا، متفوقة على غيرها من الأعراق والأمم.

رؤساء حانات مجانين
إن غياب الحكمة السياسية يعد مرضاً مزمناً للنظام العدواني الأمريكي، ولذلك تتضاعف مخاطر التدمير الذاتي والانتحاري السائر عليه بحماس قل نظيره بين الرؤساء والسياسيين ورجال الدولة في العالم، ويعتبر ترامب أخطر رئيس أمريكي في تاريخ أمريكا، أي أكثرهم جنونا، بحسب وصف النائب الديمقراطي بيرني ساندرز للرئيس دونالد ترامب، وهو تقييم صادر عن منافس كبير لترامب، وواحد من أبناء المؤسسة الأمريكية نفسها، وأحد الطامحين في منصب الرئاسة الأمريكية الذي بدأت عجلته في الدوران باكرا.