حاوره/ عيسى القادري - مرافىء لا -

كان منذ صباه مريداً في الصوفية، ثم ارتقت مرتبته ليكون معلماً وشيخاً جليلاً. 
وإلى جانب نهجه الصوفي، كان عالماً في اللغة العربية، وأستاذاً للبيان، وحريصاً على تعليمهما لكل راغب وطالب. بعد 70 عاماً من تلك الحياة التصوفية الزاهدة، خلص إلى أن كل العلوم تصب في معنيين: الحب والتسامح. حارب الوهابية بكل السبل المتاحة لشاعر وخطيب، حاثاً الناس على محاربتها لأنها وبال على الدين والإنسان معاً. 
إنه العالم الصوفي والشاعر والمناضل إسماعيل حسن إسحاق.
«مرافئ لا» التقى الأستاذ عباس إسماعيل إسحاق، نجل الشاعر، في حوار شيق، متحدثاً عن حياة والده، ومتناولاً بعضاً من جوانب حياته الحافلة بالإبداع والنضال.. فإلى الحوار: 

تعليم الأجيال
  أستاذ عباس.. حبذا لو تعطون القارئ في البداية نبذة تعريفية عن الشاعر والمناضل الكبير إسماعيل إسحاق؟ 
- أولا أتقدم بالشكر لصحيفة «لا» وطاقمها الإعلامي المتميز، وعلى رأسهم الأستاذ صلاح الدكاك، كما هو أيضاً للأستاذ عيسى القادري الذي أعد هذا الحوار. الوالد إسماعيل إسحاق علم من أعلام إب، بل من أعلام الجمهورية اليمنية. ولد في قرية الظرافة بمديرية السياني محافظة إب، عام 1340هـ، بدأ تعليمه الأولي في القراءة والكتابة وحفظ ما تيسر من القرآن الكريم على يد جده، ثم انتقل إلى مدينة جبلة، ناهلاً الكثير من العلوم على يد كوكبة من مشائخها وعلمائها في علوم الفقه والفرائض والعقيدة والقرآن الكريم وعلوم الشريعة واللغة. ولم يكتف بذلك بل ذهب إلى زبيد وتلقى فيها الكثير من العلوم، ومن أبرزها علم الفلك وعلم الجفر وغيرهما من علوم البلاغة والصرف. كان يقصد كل من عنده فنّ من فنون العلم ليس لديه، فيلازمه ملازمة الطالب والمريد. وخلال هذا التطواف والترحال كان يقصد كثيراً من الأماكن، وحيثما حط رحاله تجده حريصاً على أن يؤدي رسالته في تعليم الأجيال، واهباً نفسه لتنويرهم. حيث علم في كثير من المدن والقرى، ومن أهمها ذي سفال والقاعدة والسياني ويفرس وماوية وموزع وغيرها، شعاره في كل ذاك:
ولقد فرضتُ إرادتي  فرضاً على المتعلمِ
 ووهبْتُهُ قَلَمي وعـاطفتي وفكْري وفمي
 كان يشيد بالناس، ويحثهم بشدة على التعليم والتعلم:
اطلبوا العلم أيها الناس من عـــــــاش على الجهل مات أعمى الجنانِ
كما أنه كان يتغنى بالفضيلة وينادي الآخرين إلى التحلي بها، مقابل محاربة الرذيلة والابتعاد عنها:
فإذا نظرت إلى نتائج فكرتي
وقرأت ما سطرته بمدادي
ترني على باب الفضيلة واقفا
أدعو إلى تجديدها وأُنادي
أو آمرا بالعرف أو آتي به
أو ناهياً عن منكر وفسادِ
 كيف كانت حياة شيخنا وشاعرنا المتصوف مع الناس من حوله؟
- كان إسماعيل إسحاق، على الرغم من رتبته التي وصل إليها بعلمه وبلاغته، إلا أنه ألزم نفسه بخدمة الناس والسعي لقضاء حوائجهم وحل مشاكلهم، متلمساً همومهم، آخذا بيد البسطاء ومدافعاً عن حقوقهم وخادماً لهم. كما كان المرشد والموجه يقدم النصيحة للآخرين بأسلوب راقٍ، فيتقبلونها منه. 

ثراء معرفي
  ما الذي كان يتميز به إسماعيل إسحاق عن غيره من معاصريه؟
- كان الوالد يتمتع بتنوع وثراء حيث تجده الفقيه المفتي والناقد ذا الذائقة الممتلكة معايير النقد، خبيرا بساحة الأفلاك في مجراها، يجتلي حقائق التاريخ من ثناياه، ويفعلها في إدراك الحاضر وأبعاده.. بمعنى آخر إن أردته في علم الفقه تجده فقيها ولكن من الطراز الأول، وإن أردته سائسا فهو سائس حكيم بارع: 
أقول لمن يدير شؤون قوم
بغير دراية في كل حالِ
تلَّطفْ بالأمور وكن حليما
فإن الحلم من صفة الكمالِ
أما كونه حاكما، فكان يؤدي دور الحكم والصلح بين الناس بحرص وعدل، حاكم يقضي على نفسه ما يقضي على غيره، فينظر إلى قضايا الناس نظرة البصير، ويفصل فيها وينظم ما يقوم به من الأحكام شعرا.

امتلاك أسرار اللغة
 الوالد كان كاتبا حذقا يمتلك ناصية البيان، يأسر الألباب بسحر وعذوبة فنونه الشجية الممزوجة المسجوعة.. هلّا حدثتنا عن هذا الجانب؟
- نعم.. لقد كان الوالد يمتلك أسرار اللغة وقواعدها القادرة على صياغة الأبيات الشعرية بتراكيبها وتطريبها وصورها البديعة ومعانيها الأصلية:
أنا صانعُ الشعرِ البيلغ وربُّهُ
وأنا ابنُ أفصحِ ناطقٍ بالضادِ
فإذا سكتُّ فإنني متكلمٌ
بالفكر عمّا دار في الآبادِ
وإذا نطقتُ ملكتُ أكباد الورى
والسحر يستولي على الأكبادِ
أما في النثر فقد كان الوالد إسماعيل إسحاق يمتلك أسلوب سجع آسراً، واقتطفنا هذه المقطوعة من مقال «جلال السيرة النبوية»: «كان صلى الله عليه وسلم يسير في الناس كأحد الناس لا يميزه عنهم إلا ذلك الخلق العظيم الذي أحدث ضجة في الأرض لفتت الأنظار، وحولت مجرى الليل والنهار، كان عنصرا لطيفا خارقا للمألوف البشري وهو من جنسه وعنصره، لأنه كان قلبا لهذا الكون، مليئاً بالرحمة والجبروت، يساومه القوم بدعوته فلا ينحني، ويقاومونه فلا ينثني».

ثائر على الظلم والطغيان
 الأستاذ المناضل إسماعيل إسحاق عاش في عصر ساد فيه تكميم الأفواه وتقييد الحريات، هل تعرض للسجن أو الاعتقال؟
- نعم.. تعرض الوالد للاعتقال أكثر من مرة؛ حيث سجن 3 سنوات على التوالي، فقد كان ثائرا على الظلم والطغيان، مناصرا للضعفاء إلى أن ينتزع لهم حقوقهم من أي غاصب، أيا كان منصبه أو رتبته العالية، بالإضافة إلى أنه يعمد إلى إرشاد الحكام وتوجيه النصائح إليهم:
أنا حربٌ على الرذائل حرٌّ
طالما عشتُ ناطقاً بلساني
وإذا لم تزل فمني ومنها
شأنها الذل والشجاعة شاني
ثم بين إقدامه وصموده في مواجهة الظلم قائلاً:
وبرزتُ عملاقاً يصول على العدا
فيطأطئون لصولة العملاقِ
الشعب نشوان يروح ويغـتدي
والقوم أسرى شقوة وشقاقِ
وهناك قصيدته المشهورة التي عبر فيها عن مدى تأييده لثورة سبتمبر المجيدة:
غيرتَ مجرى الدهر يا سبتمبرُ
والدهر عن مجراه لا يتغيرُ 
وثَلَلْتَ عرشاً ضارباً أطنابه
وعليه كسراه العنيد وقيصرُ 
وحملت في فلك السلامة أمةً
ليلج في طوفانك المتجبرُ
كما أنه لم يكن يقبل الثنائية في المواقف، ويستند باليمانيين عبر التاريخ:
هذا هو الوطن الذي أشدو به
وعليه طول الدهر منه يغارُ
شق الظلام وقد تجسد حوله
وتكاثفت من حوله الأسفارُ
حيث اليمانيون كانوا عزة
وهدى الحياة يسير أنَّى ساروا
وناشد إخوانه في الجنوب آنذاك من مكان إقامته في قرية الظرافة، قائلاً:
فيك إب منابر الآمالِ
بشريات تمر عبر الليالي 
قلعة تحرس الجنوب وتدعوه
بصوت من فوق شمسان عالي
يا رجال الجنوب حلوا الوثاق
عنكم والحقوا بركب الشمالِ 
اطمسوا عن بلادكم وصمة 
العـــــار وكفوا جرائم الأنذالِ 
كيف نرضى لغاصب يتولى
حكم أوطاننا بسوء الفعالِ

مساندة قضايا الأمة
 لا شك أن الأديب والمناضل إسماعيل إسحاق كان مهتماً بقضايا الأمتين العربية الإسلامية.. فما أبرز القضايا التي حظيت باهتمامه؟
- كان هم الوالد وصوته الثائر يمتد إلى الأرض العربية بكلها، وكانت رؤيته وموقفه تجاه القضية الفلسطينية أنها تمثل المحور الأم والرئيس لكل قضايا الأمة:
 وهناك أجزاء تئن كئيبة
في الشرق أثقل ظهرها المستعمرُ
وغزا فلسطين اليهود وشردوا
أبناءها وتحكموا وتسيطروا
كُبتوا كما كُبتَ الأُولى من قبلهم
لما علوا في أرضنا وتكبروا
كما أنه أعلن موقفه وصوته أمام الهيمنة الصليبية على العراق، حيث قال في إحدى قصائده:
أتُباد العراق والعالم الملــــــــــعون في حقده القديم يساقُ
ما الذي قوض الحضارة فيها
وهي والأنجم السواري سباقُ 

صوت صنعاء فوق الرياض
 هناك قصيدة للوالد يقول فيها: 
إننا ثائرون حتى نرى الـــــــكعبة يبدو جلالها والجمالُ 
يوم لاذوا بالإنجليز وأمريــــــــكا فدلّت الأصول الفعالُ
عندما نغوص في هذه القصيدة نجدها كأنها تصف بني سعود اليوم وهم يستعينون بأمريكا والإنجليز.. هل كان يستشرف بها واقع الأمة، أم أن لهذه القصيدة تفسيراً آخر؟
-  كما ذكرت سابقاً كان الوالد ذا بصيرة يقرأ بها الواقع ويرى من خلالها المستقبل. وهذه القصيدة هي بمثابة استشراف لحاضرنا، حيث تقول: 
كلنا اليوم ثورة واشتعالُ
وحماس وكلنا أبطالُ
نحن أبناء حمير ومعين
لم يرعنا يوم النزال النزالُ
هذه أرضنا ونحنُ لها 
شــــــــــرقٌ وغربٌ جنوبها والشمالُ 
نحن أنصارُ كل داعٍ إلى 
الـــــــحق وجند للمصلحين وآلُ
نحن في هامة السحاب صواريخ
وفي قاعة التراب جبالُ
نحن شرٌّ على العدا مستطير
ودمار لأرضها ونكالُ
صوت صنعاء فوق الرياض 
وطهران رعودٌ وتحتها زلزالُ
يا ملوك الفساد لا تفزعوا من
ثورة الشعب فالحروب سجالُ
إننا ثائرون حتى نرى الكعبة
 يبدو جلالها والجمالً
يوم لاذوا بالإنجليز
وأمريـكا فدلّت الأصول الفعالُ
أيها المسلمون شدوا رحالاً
أذِنَ الله أن تُشَدَّ الرحالُ 
كان الوالد صاحب مبدأ لا يحول عنه ولا يساوم فيه، متحلياً بشخصيته وثائراً على نفسه. تجده يحارب كل سوء ويحارب كل ظاهرة تريد أن تعطل الدور الريادي للأمة. لقد قال في فترة من الفترات:
حاربوا هذه «الوهابة» كي لا
تتفشى في الأرض فهي بلاءُ
حاذروا  كل ما بها من ضلال
فالضلالات ما لهن دواءُ
فهي تندسّ في صدور بنيها
جند إبليس هنالك جاؤوا
وهمُ الآن في الصفوف ولا نــدري
 إلى أين تذهب العشواءُ
علمهم كله على العلم شتمٌ
وعلى الدين محنة وشقاءُ
كما أنه صاحب القصيدة الشهيرة التي تقول:
يا سبتُ حدِّث عن يهود الجمعةِ
الناشرين ضلالهم في الأمةِ
العالمين الجاهلين بدينهم
الباغضين الصالحين بشدةِ
الخارجين عن المذاهب كلها
وعن العقائد ما انتهوا بعقيدةِ
الجاعلين من الكوافي واللحى
رمز الكتاب ومظهراً للسنةِ

الوصية الأخيرة
 أستاذ عباس.. هل هناك من وصية للوالد لمن يريد أن يمضي في الطريق الذي مر به هو؟
- نعم.. الوالد كان له وصية أخيرة قال فيها: «بعد 70 سنة من العلم خلصت إلى أن كل العلوم تصب إلى معنيين هما الحب والتسامح». وكانت آخر وصاياه حينما زاره «الحبيب المشهور» إلى قريته، هي: «هيا نطمس ما علمنا، فإن العلم الحقيقي من لدن الله». وقد ضمن هذا المعنى في إحدى قصائده حيث يقول:
ومن ترقى إلى مقامٍ
ورثتُ منه أجَلَّ سَهْمِ
وقبلهم من له كتابٌ
ومن علوم الكتاب علمي