علي نعمان المقطري / #لا_ميديا -

إن القوة الأمريكية مازالت تواجه معضلات استراتيجية لا حل لها في ظل الوضع الإمبريالي الراهن، لأنه لا حل لتلك المعضلات إلا إذا ألغت كيانها الاستعماري الراهن، أي إذا انتحرت، وهو أمر من المستحيل أن يتم إراديا وبرغبتها هي وقيادتها، ومن هنا أزمتها واستحالتها الوجودية التي تطوقها.
فهي لا يمكنها أن تكون إمبريالية إذا تخلت عن روحية العدوان والهيمنة، وكذلك لا تستطيع أن تتخلى عن تشتيت قواتها عبر العالم لأنها تسيطر بها على العالم وعلى أقسام كبيرة منه، ولو توقعنا سحبها فإن نفوذها سيتراجع على تلك المناطق والقارات وترخي قبضتها عنها وهذا مستحيل، ولذلك هي محكومة بخيارات محدودة جدا، فلا يمكنها أن تواصل سيطرتها من جهة، وفي الوقت ذاته تسحب تلك القوات منها إلى مناطق نزاع جديدة، من جهة أخرى.
إذن، الولايات المتحدة تطوقها الاستحالات من كل جانب، ومن هنا ينبع نهر فشلها وهزائمها وانكساراتها مهما ظهرت بصورة القوة العملاقة التي لا تهزم، لأن هذه الصورة مجرد هراء.
في ظل كل هذه المتغيرات ليس أمام أمريكا سوى اللجوء إلى استراتيجية حروب المرتزقة عبر ما تسميها الحرب بالوكالة من الأجيال المختلفة، وهي حروب محدودة المردود أمام قوى عسكرية شعبية ووطنية قوية الإرادة، شديدة التماسك.

الغرب وحروب المرتزقة
لو راجعنا تاريخ الاستعمار الغربي في العالم الثالث منذ الاستعمار البريطاني في الهند مرورا بالأمريكيين والفرنسيين والهولنديين والنمساويين والإيطاليين والإسبان والبرتغاليين والصهاينة، سنجد أنهم جميعا استمروا لبعض الوقت في الماضي بواسطة حروب المرتزقة التي استخدموها استغلالا للخلافات والصراعات المجتمعية والإقليمية بين الفئات والشعوب المحلية عبر سياسة "فرق تسد"، ولكن كان هذا في الماضي، أما الآن فقد تغيرت التوازنات والقوى والأوضاع منذ انفجار حركات التحرر الوطني والثورات الاستقلالية ونشوء دول قومية كبرى تواصل النهوض والترقي والتطور بوتائر لا تستطيع دول الغرب اللحاق بها.

معضلة طبيعتها البحرية العسكرية
كل قوة هي مقيدة بطبيعتها الأصلية التي تكونت في سياقها وفي إطارها ووفقا لقواعدها ومنطقها المتميز وخصوصياتها.
ومنذ ولادة تلك القوة الظاهرة فإن طبيعتها الكامنة فيها، أي جوهرها، تشكل نظامها الثابت، ومنه تتشكل منظومات القوى والوظائفية التي تعيد إنتاج النظام، والتي تظهر من خلال دورات حياتها المتواترة التكرارية أو نمط عيشها أو أسلوب حياتها اليومي أو روتينها العام ونشاطها، وتتنامى أجهزتها الوظيفية الطبيعية وفقا للمهام التي يحددها تصورها للدور التاريخي العام الذي تؤديه ورسالتها، وجميع الكائنات مقيدة بهذه الحقيقة، فلا يوجد كائن طبيعي إلا يخلق وهو مسلح عضويا بالأجهزة التي يحتاجها لبقائه وتطوره واستمراره وحمايته وتغلبه على البيئة المحيطة وقدرته على التكيف الإيجابي معها، والأمر نفسه ينطبق على الإمبراطوريات والدول والمجتمعات.
ولا تملك أية قوة على الأرض -مهما حاولت- أن تغير من طبيعتها الأصلية أو تلغيها واستبدالها بطبيعة جديدة، لأن ذلك غير ممكن، فهي عملية تشبه محاولة الإنسان تغيير طبيعته الإنسانية واستبدالها بطبيعة أخرى، ونعني بذلك أن الولايات المتحدة منذ أن تشكلت كقوة عسكرية في العالم، فقد تشكلت في الأصل كقوة بحرية، وهذا ليس باختياراتها الذاتية، وإنما هي استجابة لشروطها الجغرافية المحيطة ولدورها الاستعماري، وكوارثة للإمبراطوريات البريطانية والإسبانية والبرتغالية البحرية.

 قاعدة هامة
إن كل قوة محكومة بطبيعتها، وطبيعتها محكومة بجغرافيتها وموقعها ومحيطها، وهذه الثوابت تحدد شكل ومحتوى القوة، وهذه تحدد أسس الدور التاريخي للدولة والقوة والاستراتيجية والتنظيم والعقيدة العسكرية لها.. إن التطابق أو التعارض بين الدور والتاريخ والجغرافيا هو ما يتحكم بمصير الامبراطوريات والقوى الحربية ويحدد مآلاتها سلبا وإيجابا.. إن التحديات القديمة هي التي شكلت أسلوب ممارسة الدور الاستعماري وطريقته البحرية، ونتيجة لموقعها خلف المحيط، وتفصلها عن البلاد المستعمرة التي تستهدف السيطرة عليها محيطات وبحار واسعة وعديدة، ولا يمكن الوصول إليها إلا عبر البحار، وكان العصر هو عصر صعود التجارة البحرية العالمية ورواج السلع التي أنتجتها الثورة الصناعية والسيطرة على مستعمرات لجعلها أسواقاً استهلاكية، والهيمنة على المواد الأولية الرخيصة التي تحتاجها لصناعاتها، وكان النهب والقرصنة البحرية والقهر والاستعباد للفقراء والضعفاء والمسالمين أهم مصادر مراكمة الثروة الرأسمالية الغربية الكبرى، وكان السلاح الرئيسي هو مدافع السفن البحرية خلال عصور النهضة والتنوير والتطور، وبهذه القوى وحدها أمكن إزاحة الإمبراطوريات القديمة الإسبانية والبرتغالية والإيطالية والعثمانية والألمانية، واحتكار السيطرة على دول العالم الثالث وامتصاص ثرواتها وقواها الحيوية ومنعها من التقدم والاستقلال.

العصر الراهن.. قوى البر تزيح قوى البحر
نهاية الإمبراطوريات البحرية ونهوض الإمبراطوريات البرية هو سر العصر الراهن الذي بدأ حديثا ومايزال في بدايته، ولذلك تقف الإمبراطورية الأمريكية البحرية السابقة مذهولة وعاجزة أمام صعود الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية، وهي قوى مارقة عنها وعن هيمنتها، وبالنسبة للصين وحدها فهي تعد الآن أخطر تحدياتها، ناهيك عن بقية الدول والقوى الصاعدة، لأنها قد وصلت إلى مرحلة تآكل وتراجع لقوتها وقدراتها، وهي الآن تنفق من الرصيد المكشوف المثقل بالديون الفلكية.
إن سلاح الإمبراطورية للسيطرة والهيمنة العالمية هو الاحتكار المالي والتجاري والاقتصادي والعسكري والطاقة ومنابعها والمواد الخام والأسواق واحتكار تملك القوى ومنابعها كمدخل لتحقيق السيطرة والهيمنة، فالسلاح الأساسي هو الاقتصاد، وما إن تفقد إمبراطورية ما السيطرة الاقتصادية والمالية الدولية فإنها تكون قد دخلت مرحلة الاحتضار، لأن جزءاً أساسياً من سيطرتها ناتج عن حقيقة هيمنتها المالية العالمية السابقة.
والولايات المتحدة هي الآن في مرحلة الاحتضار، حيث بدأت تفقد سيطرتها على اقتصاد العالم بسبب تراجعها الاقتصادي وأزماتها وتحول اقتصادها من الاعتماد على الإنتاج إلى الاعتماد على الخدمات الطفيلية، ومن أكبر منتج في العالم إلى أكبر سمسار مثقل بالديون يعيش على التطفل على أموال الآخرين المودعة في بنوك الغرب، وبدلا من إنقاص مستوى نفقاته لتتطابق مع مستوى دخله فإنه يواصل مضاعفة النفقات المرتفعة على الإدارة ويغطي العجز السنوي الهائل بالديون من الدول الصاعدة التي يراها متمردة عليه، وهي سياسة لم يقم بها أحد من قبل، ومن الممكن أن تؤدي هذه السياسة إلى انهياره في أي وقت.
ومن ضمن الديون الأمريكية البالغة أكثر من 60 تريليون دولار، هناك 35 تريليون دولار ديون خارجية على أمريكا للدول الصاعدة اقتصاديا، أي للدول التي تعتبرها مارقة، وأكبر دين خارجي هو للصين واليابان وألمانيا، لذلك تواجه أمريكا خطرا مباشرا يتمثل في اختلال الموازين المالية مع الدول المارقة، خصوصاً دول البريكس وشانغهاي التي تسعى إلى إقامة نظام تعامل اقتصادي جديد مختلف، وإلغاء التعامل بالدولار كعملة دولية واستبدالها بالعملات الوطنية بين الدول الأعضاء للمركز الجديد الذي يتشكل الآن، وهو ما يعني بداية طرد الدولار الأمريكي عن عرش الهيمنة المالية التي لا يستحقها أو التي لم يعد يستحقها واقعيا.
وضعت الحروب الكورية والفيتنامية والسورية واليمنية والعراقية واللبنانية والأفغانية والإيرانية التي خسرتها الولايات المتحدة ووكلاؤها، وضعت نهاية للإمبراطوريات البحرية الغربية، خصوصاً الأمريكية، وتدشين عصر القوى البرية الجديدة الناهضة والصاعدة، وفي مقدمتها الصين والهند وروسيا وألمانيا والبرازيل وجنوب أفريقيا وإيران وكوريا وغيرها، وما يميز العصر الجديد هو أنه يختم حقبة هيمنة القوى الغربية الإمبريالية على العالم ويفتح لحقبة جديدة هي حقبة صعود القوى البرية الآسيوية واللاتينية وزحزحة القوى الغربية عن زعامة التطور والقوة والاقتصاد والتوسع السكاني والاستقلال والتحرر والسيطرة على الثروة الوطنية في ظل تواصل المواجهة مع إمبرياليات الغرب بأساليب متعددة متنوعة (باردة وساخنة) وعبر آماد طويلة تؤشر نتائجها إلى أنها في صعود مستمر وأن الغرب في تراجع مستمر في الوقت نفسه.
القوة والطاقة في الأرض ذات كمية ومقدار محدود متوازن، وبالتالي فكلما سحبت نحو اتجاه من اتجاهي طرفيها تناقصت من الطرف الآخر بنفس المقدار، وإذا كان هذا قانوناً في الطبيعة فهو أيضاً قانون فاعل في الحياة البشرية وفي نزاعاتها وتدافعاتها. وانهيار الإمبراطورية اليابانية البحرية أنموذجا.
الاستثمار التكفيري الإرهابي الأمريكي
إن ضعف الولايات المتحدة يتجلى ميدانيا في ضعف قواتها البرية وتشتيتها وافتقارها إلى التركيز أو القدرة على تهديد البلاد المستهدفة عبر البحر والهجوم البحري والإنزالي قد أفقدها احتكار القوة البحرية القديم، وهي معضلة الآن لا يمكنها معالجتها، ولذلك تتجه الولايات المتحدة إلى الاستثمار في استغلال طاقات القوى الإرهابية والتكفيريين والمرتزقة الأجانب والمحليين الذين تخلقهم لهذا الغرض كجزء من كيانها المتهالك في مراحل انحداره والسير نحو انهياره المحتم لتقليل كلفة الانهيار والتراجع إلى تموضعات دفاعية جديدة مناسبة لها وتتفق مع قدراتها وإمكاناتها.
وقد واجهت هذه المعضلة دولة عظمى سابقة قبل انهيارها في الحرب العالمية الثانية، وهي اليابان، فقد كانت بطبيعتها دولة بحرية بحكم موقعها القاري، وكدولة استعمارية أرادت اليابان إقامة إمبراطورية لها في آسيا بالسيطرة على آسيا بدلا عن الغربيين كأمريكا وبريطانيا وفرنسا، لكنها اصطدمت بالاستعماريين الأوروبيين وبالشعوب التي استهدفت احتلالها في آسيا، وكانت أهم قوة اصطدمت بها هي الاتحاد السوفيتي السابق الذي سرعان ما دمر قواتها البرية كاملة في معارك منغوليا ومنشوريا وشمال الصين، وكانت جيوشها قد نقلت عبر البحر إلى الساحل الآسيوي، وما إن دمرتها القوات السوفيتية فقدت كل الآمال في البقاء كدولة مستقلة، وقبل أن يتم ضربها بالقنابل الذرية سارعت إلى الاستسلام والقبول باحتلال أمريكي، وهكذا انهارت قوتها ومقاومتها بعد أن كشفت عن طبيعتها البحرية واعتمادها على البنية البحرية وافتقارها إلى الجوار الجغرافي وحرمانها من الامتدادات البرية لآسيا بحكم وضعها الجغرافي البحري الذي كان من أسباب قوتها ومنعتها عبر التاريخ، إلا أن تحولها إلى استعمار عسكري بري وقاري تناقض مع طبيعتها البحرية، وكشف نقاط ضعف كبيرة، نقاط ضعف عضوية وتركيبية بنيوية فيها لا تستطيع الشفاء منها، وهو ما سهل من انهياراتها وهزيمتها المدوية، لأنها بوضعها الأساسي الطبيعي لا تملك الجوار الجغرافي الممتد كشرط لأي تمدد عسكري جاد وكبير.
وكان أحد أهم عوامل تدميرها عسكريا هو انكشاف ضعف اتصالاتها بقواعدها البعيدة في الشواطئ اليابانية، وحركتها صارت تحت مراقبة وسيطرة أعدائها بأبسط الوسائل والأساليب، وفي ظل توفر قوى جوية وصاروخية تكون معرضة أكثر للتقطيع والتمزيق انطلاقا من خطوطها البحرية الإمدادية الرخوة جدا والطويلة والبعيدة عن ميدان المعارك وعن قواعدها.
وتتكرر المعضلة الآن مع الإمبراطورية الأمريكية، وقد جربتها في غزوها لفيتنام وفي حربها الكورية وفي جميع حروبها الاستعمارية السابقة، إذ كانت دوما بحاجة لقواعد عميلة في المنطقة للتخفيف من هذه المعضلة، لكن هذه القواعد العميلة لا تلغيها ولا تلغي مفاعيلها ونتائجها، ولأنها بحرية الطبيعة واستعمارية منهكة متآكلة فسرعان ما استنزفت وسرعان ما ظهر الوهن الحربي عليها وعلى قواتها في جميع حروبها الاستعمارية خلال النصف الأخير من القرن الماضي وبداية القرن الحالي.
ففي الحرب العالمية لم تواجه عدوا برياً حقيقياً وجدياً في أوروبا، بل اختفت خلف حملاتها الجوية القاصفة وخلف القوات الحليفة الأخرى الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والمغربية والعربية، وهذا يظهر بوضوح من خلال خسائرها المحدودة التي لا تزيد عن 30 ألف جندي أمريكي فقط.
أما في الشرق فقد جندت مرتزقة محليين وبالملايين في فيتنام ولاوس وكمبوديا وكوريا، واختفت خلفهم على خط المدن الساحلية والمراكز الرئيسية، وكل خسائرها في الحرب الفيتنامية كانت 56 ألف جندي، رغم أن الشعب الفيتنامي تلقى كميات من القذائف من الجو أكثر مما قذفت به أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية.
وبدون روسيا وبريطانيا كانت الولايات المتحدة عاجزة عن الصمود لبعض الوقت في الميدان الآسيوي أو الأوروبي في وجه اليابان أو ألمانيا، وهذا الضعف الذاتي لأمريكا يتضاعف، وهو واقع ثابت وقديم في أصل تكوينها وشخصيتها العسكرية والاجتماعية النفسية، فهي شخصية انحلالية رخوة وبدون قيم أخلاقية، باطشه إن توفرت القوة لديها، لا تعرف الرحمة أبدا، لكنها ذليلة جبانة إن وقعت في الحصار أو الضيق أو تعرضت لخسائر بشرية بين صفوفها، ولا يمكن مقارنة الجندي الأمريكي مع أي جندي آخر.
لقد رأيناها في الفلوجة وقبلها في بيروت وفي الصومال وفي العراق وأفغانستان، والآن في سوريا واليمن والعراق أيضاً، نراها والرعب يسكن جوانحها، ذليلة أمام تحدي الصواريخ الإيرانية.

هل لأمريكا جيش بري حقيقي؟
الجواب لا، لأن ما لديها هي قوات إسنادية، طيران وصواريخ ومدافع وبحرية وأساطيل وحاملات طائرات وأسلحة نووية وجرثومية، لكنها لا تملك جيشاً برياً حقيقياً يوازي أو يكافئ مثلاً الجيش الصيني أو الروسي أو السوري أو اليمني أو الإيراني أو الكوبي أو الفيتنامي أو الفنزويلي والكوري أو الأفغاني أو المصري أو حزب الله. 
30/1/2020