#علي_نعمان_المقطري / #لا_ميديا -

قلنا إن الوقائع التاريخية الفلسطينية تكشف صراحة الدور الذي مارسه العثمانيون الأتراك في التمهيد الصامت لاستعمار فلسطين لصالح الصهاينة واليهود والإنجليز، وهناك الكثير من الدلائل بهذا الخصوص.
ألم يكن اليهود الصهاينة أدوات الحرب الصليبية الداخلية ضد المسلمين وجواسيس الصليبيين ضد العرب والمسلمين؟ ألم يكونوا عونا للاحتلال الصليبي في كل مكان؟
فكيف تقوم السلطنة التركية الإسلامية بحمايتهم والسماح لهم بالتوغل في إمبراطوريتها الاسلامية؟ هل ذلك كان جهلا بنواياهم أم تآمرا قبيحا ضد الإسلام والمسلمين والعرب قام به ومارسه سلاطين بني عثمان ويواصله أحفادهم الجدد اليوم ضد الإسلام والعروبة والحرية والاستقلال؟

تمهيد تركي طويل لتمكين الصهيونية
لم تأتِ مطلع القرن العشرين إلا وقد مهدت حملة طويلة نقل الأراضي الخصبة من أصحابها السابقين إلى أيدي الأتراك ثم عبرهم إلى أيدي الشركات الصهيونية واليهودية والغربية.
ويعرف الإخوة الفلسطينيون جليا الدور التركي عبر النخبة التي أقامها السلاطين العثمانيون حكاما على الشام ومصر والعراق وغيرها، وكيف نقلوا الأراضي الخصبة إلى أيدي اليهود في غفلة من الجميع. كانوا يفعلون ذلك طوال قرون وفقا لمنهج منتظم متواصل يريد الاستحواذ أولاً على الأراضي الفلسطينية والعربية ونقلها تدريجيا إلى أيدي الصهيونية ووكلائهم من عائلات النشاشيبي والجعبري والمصري وغيرها من العائلات التركية المالكة للأراضي الفلسطينية بإقطاع من الباب العالي وأمرائه وسلاطينه الذين استولوا عليها من أملاك الشعب العربي نفسه وحولوه إلى مأجورين يحرثون الأرض لقاء أجرة.
جردوهم من أراضيهم ولم يعودوا يملكون شيئاً، فعادوا يتركزون في أراضي الأحراش والجبال والمناطق الشحيحة الجافة بعيدا عن الأراضي الخصبة لفلسطين، وكل ذلك جرى وفق مؤامرة طويلة شارك فيها الباب العالي ووكلاؤه من النخب المحلية.

بداية التحرر العربي من الصليبيين
كانت الهزائم التي تكبدها الصليبيون أمام الجيوش العربية بقيادة السلطان صلاح الدين الأيوبي، الذي جعل من مصر والشام واليمن والجزيرة والعراق قاعدة انطلاقته الموحدة لتحرير البلاد المقدسة المحتلة من قبل الصليبيين الذين استمروا لأكثر من قرن من الزمان سيطروا فيها على فلسطين وسواحل الشام وأقاموا مستعمرات على طول الساحل الشامي لمدة قرن من الزمان، وكان قرنا للجهاد والكفاح القومي الإسلامي ضد الاحتلال الغربي، البريطاني الفرنسي في المقدمة باسم المسيح وإنقاذ بيت المقدس. جاء المستعمر الإقطاعي القديم وكان الصهاينة هم طابوره الخامس وجواسيسه ومقاوليه وخدمه ومعاونيه وموجهيه إلى عورات المسلمين ودلائله إلى مراكزهم ونقاط ضعفهم وقوتهم، وقراء أسرارهم وشبكاتهم الاجتماعية الاستراتيجية والجغرافية والقبلية والعقيدية وصراعاتهم وخلافاتهم وثاراتهم التي لم يكن يمكن للغربي معرفتها واستغلالها، وبسببهم طال الاحتلال الغربي قرنا من الزمن، فقد كان العون المالي الربوي والذهب اليهودي الحاقد وتجارة الفسق والتجسس والتخريب الداخلي والحرب الناعمة، كلها كانت أسلحة تضرب في الصميم إلى جانب المحتل الأجنبي الغربي وتدك في بنية المقاومة العربية التحررية.
وبعد الانتصار المحقق للعرب المسلمين وجيوشهم الموحدة ضد الصليبيين تعامل معهم السلطان الأيوبي بتسامحه المعهود كما تعامل مع عملائهم الداخليين، أي اليهود، وأبقاهم في البلاد العربية، وكان هذا خطأً استراتيجيا وقع فيه الحكام المسلمون الذين كانوا في الأصل من القوميات غير العربية، كانوا أكراداً أو أتراكاً، وكانوا رجال سيف وحروب وجيوش ولم يكونوا مماليك في أصولهم، فقراء في ثقافتهم الدينية والقومية، ولاؤهم لسادتهم ورعاتهم لا لمبادئ واضحة من العقيدة والقومية والوطنية. كانوا جاهلين باللغة العربية وأسرارها وفي اغتراب ذاتي، فهم كانوا ثمرات استرقاق وخطف منذ الطفولة يجري بيعهم في أسواق الرقيق الحربي والسياسي وفقا لمتطلبات خاصة من مخايل وطباع وقدرات تشير بها خلفياتهم التاريخية والقومية، وكان أغلبهم آنذاك من الأقوام التركية المغولية التترية التي كانت تجارة الرقيق والاختطاف البشري رائجة في مناطقهم النائية تلك.
وهذا العامل كان من البداية يحدد ويهندس شخصياتهم التالية، حيث يتم حبسهم في معازل خاصة لتربيتهم على الحرب والخدمة، وتحيط بهم حتما كل الظروف المؤلمة والخطرة التي يمكن أن تصادف أطفالا غرباء لا يعرفون من أين جيء بهم. ويمكن أن نتصور تلك الآلام والمعاناة التي تحيط بهم وبحياتهم القاسية التي لا ترحم الضعفاء والمساكين والصغار، فتجبرهم على أن يكبروا قبل الأوان وتحرمهم من التطور الإنساني الطبيعي.
وكانوا يحشون رؤوسهم بأفكار محددة كلها تدو حول الولاء والإخلاص لسيدهم الأمير الحاكم الذي اشتراهم لخدمته وخدمة دولته، مثل المماليك في الشرق، كانوا في السلطنة العثمانية قد واصلوا نظام المماليك الرقيق المخطوفين من البلاد المغلوبة من قبل جيش السلطان العثماني الفاتح خلال حملات فتوحاته في أوروبا، أي من الأطفال المسيحيين الأصل، ومن هؤلاء أنشأ السلاطين جيوشا خاصة بحمايتهم من منفذي أوامرهم الفتاكة بدون تردد أو مناقشة، وقد عرفوا بالقسوة والتوحش والتخريب والانتقام بغير رحمة.
ومن هؤلاء تكونت الإدارة العامة للدولة العثمانية السنية التي لا يدينون فيها إلا لمصالحهم الضيقة المباشرة.
وكانت النتيجة بقاء الشوكة الجارحة في جنب ومؤخرة العرب والمسلمين، وخالفوا السنة النبوية التي أقدمت على إبعاد اليهود الخونة عن البلاد العربية الإسلامية في مطلع الدعوة، وواصل الحكام المسلمون اللاحقون إبعاد الخونة عن مراكز العرب والمسلمين وأراضيهم المقدسة. أما فيما بعد فقد تشكلت كتلة من كارهي العروبة والإسلام ومن الماسونية من الأتراك واليهود الصهاينة وبقايا الصليبيين المندسين، كتلة مشتركة متعاونة لاحتلال الأرض العربية مجددا والسيطرة على الإدارة العثمانية لصالح أهداف الاستعمار الغربي وتوسعه، وحدث تزاوج تركي يهودي غربي صهيوني مشترك راح يكبر ويتسع وينتشر على هامش الاقتصاد الريعي الربوي والتجاري الطفيلي والوكيلي والعقاري الإقطاعي والمعادن النفيسة واحتكار أسرارها وصناعتها.
وكانت هذ الحالة في تطورها اللاحق في العهد العثماني المسيطر تعكس ما يجري في قلب العاصمة السلطانية وقصورها وحاناتها واسطبلاتها، فقد أصبح المال اليهودي الذهبي هو الذي يمول القصور والسلاطين بما يحتاجونه سريعا من أموال لمواجهة سفاهة مصروفاتهم الباذخة ومتطلباتهم المترفة التي تتزايد وتتسع، وتمويل حروبهم الاستنزافية الاختلاسية التي يثيرونها لتبرير إنفاق المزيد من الأموال والنفقات العامة. كان المرابي اليهودي المنتفخ الجيوب جاهزا دوما للعطاء المشروط المتمثل بالإقراض المجاني بدون استردادها من الدولة مقابل تنازلات سياسية معينة بسيطة وجزئية متفرقة ومتباعدة.
وقد أتى التنازل لليهود المساكين في الانتشار النشط في ربوع السلطنة العثمانية وحمايتهم رسميا في سياق تلك التنازلات اليومية لليهود والصهيونية مقابل توفير الأموال ورشوة المسؤولين في البلاط العثماني والإمارات الإقليمية.
كان الفساد والانحلال والرشوة هو القانون الأول في إمبراطورية بني عثمان وخلفائها الميامين. وكان اليهود سادة الاستغلال والفساد والانحلال وتجاره ومروجيه وزبائنه المدربين. وعبر هذا الأسلوب تحققت أغرب القرارات المزلزلة والمهلكة وأكثرها ضررا وتوحشا بالمسلمين والعرب. ويكفي استعادة الوقائع التاريخية التي سبقت وصاحبت انتقال قناة السويس وحقوق مصر فيها إلى أيدي الغرب الأجنبي عبر المناورات الفاسدة للنخبة التركية المسيطرة في مصر والأستانة، وقد أفاض المؤرخون العرب في هذا الأمر وغيره ويمكن الرجوع إليها.
وقد ذكر الجبرتي في تاريخه حول مصر أيام الغزو الفرنسي كيف أن نابليون حين وصل إلى مصر كان أول عمل قام به هو أن ذهب إلى قصر السيدة «أم المصريين»، وهذا لقبها، لشكرها ومكافأتها بالذهب لقاء تعاونها ضد بلدها مصر وقيادتها، ومراسلتها له بكل المعلومات والأخبار التي تكشف له خطط المقاومة الوطنية المصرية وتمهد وتسهل وتعين على انتصاراته على المقاومة المصرية الملوكية بقياده زوجها الأمير أبي الذهب، أمير وحاكم مصر، آنذاك لم تكن إلا أميرة كبرى من أمراء الأتراك والمماليك الحاكمين لمصر، إنها زوجة قائد مصر وحاكمها آنذاك المعني بتنظيم الدفاع عنها إزاء الاستهداف الاحتلالي الأجنبي الغربي الفرنسي للبلاد، وكانت تسمى أم المصريين في مقابل زوجها المسمى أبا المصريين وحاكمهم.
ومثل هذه الظاهرة مذكورة كثيرا في التاريخ المقزز للنخب التركية الحاكمة والمالكة التي مهدت وسهلت وهيأت للاستعمار الغربي والصهيوني المشترك بعد أن جعلوها استثمارا إمبرياليا ماليا مشتركا بينهم خاليا من قداسات الدين والقيم والإسلام والعروبة المزورة.

خيانة الذات وتحالف الشر
يجب الاعتراف الآن بأن ما جرى كان خيانة ذاتية كابدها العرب والمسلمون نتيجة خيانة الأتراك العثمانيين والطورانيين والقوميين، وتحالفهم غير المقدس مع الصهيوني والغربي الاستعماري ضد العرب والمسلمين وانقسامهم وتوزعهم على الجبهتين.
إن التأكيد على هذه الحقائق المؤلمة هو الخطوة الأولى للتحرر القومي الوطني الإسلامي واجتثاث مفاعيلها الباقية ونتائجها في الجسد العليل، لأنها كانت سبباً رئيسياً لعلله وأوجاعه، وهذا أمر ملح من زاوية التحرر العقلي والنفسي والفكري. والوضوح هو بداية ومدخل كل تقدم ونهوض وطني وقومي تحرري وإنساني، فقد أكد المؤرخون للسيطرة العثمانية على البلاد العربية أن السلطنة المركزية الاستبدادية في تعاملها مع العرب ومع نهضتهم أنها أمرت بإرسال كل فنان أو مبدع أو مهندس أو صناعي أو حرفي أو خطاط أو نجار أو ناشر في أي فن كان أو مهنة صناعية حديثة إلى الأستانة وفرضت الإقامة الجبرية عليهم هناك بعيدا عن مدنهم ووطنهم.
وكان هذا يتضمن تنفيذ العقوبات على الإبداع العربي ومنع تطوره وحصره في تطور الأستانة وبلاد الترك وحدها. ولم يعرف التاريخ محنا كهذه واجهت العرب ونهضتهم وعيشهم وآذتهم في كل شيء من حياتهم ووجدانهم وضمائرهم. وكل من يقرأ هذا القول اليوم قد لا يتصوره أو لا يصدقه، ولكنه واقع يملأ كتب وأوراق المؤرخين العرب والترك وغيرهم.
وقد أوردنا هذ المثال الواقعي على نوع السياسة التي كان الأتراك يسوسون بها مواطنيهم العرب والمسلمين، وما هي الأهداف والغايات الخفية، الشريرة والشيطانية، خلف تلك السياسات.