#علي_نعمان_المقطري / #لا_ميديا -

في السطور التالية نحاول التأمل في قضايا التحرر الوطني في اليمن والوطن العربي خلال المسيرة التحررية القومية الطويلة في مواجهة الاستعمارين التركي والغربي الأوروبي من القرن السادس عشر وحتى القرن العشرين وإلى الآن.

خيانة النخب الإقطاعية العميلة
من بين القضايا التي أفرزها الصراع والكفاح الوطني ضد الاستعمار والتبعية في بلادنا قضية الخيانة الذاتية للنخب السياسية والمالية المسيطرة على البنية الفوقية للمجتمع، وكيف أدخلت بيديها وأرجلها المستعمر وفتحت له الأبواب والقلوب والدروب ليصل إلى الداخل ليجوس خلال الديار، ويسيطر ويتسيد ويهيمن على البلاد والعباد، بعد أن شكلت هذه القوى رديف جيوشه من المرتزقة المحليين.

الاحتلال التركي جسر الغزو الأوروبي
تعرض العرب للغزو التركي العثماني الذي جاء باسم الخلافة الإسلامية السنية والدفاع عن المملكة الإسلامية ضد المطامع الأوروبية البرتغالية والإسبانية، أولاً خلال القرن السادس عشر الذي كانت تتنافسان فيه على السيطرة البحرية وعلى طرق التجارة العالمية في الشرق. ثم تكشفت الجيوش التركية المتأسلمة عن برابرة متوحشين لا هدف ولا غاية لهم سوى السلب والنهب والعبث والفساد في بلاد العرب والمسلمين.
وكما استثيرت الثورات والانتفاضات الأوروبية في البلاد التي ابتليت بالغزو التركي باسم الإسلام المغولي المتوحش القاسي، فقد تعرضت البلاد العربية إلى الاحتلال التركي المغولي باسم الإسلام أيضاً، لكنها كابدت الطغيان والقهر والعذاب والأهوال التي يجعلها تكفر بالأتراك وإسلامهم ذاك وترى النصارى وعيشهم أكثر رحمة.
وقد هبت الشعوب في مختلف أنحاء العالم المقهور في انتفاضات وثورات ضد المظالم التركية القاسية. وقد تحررت العديد من البلاد الأوروبية والشرقية الإسلامية، وبقيت البلاد العربية تقاتل الأتراك دفاعا عن كرامتها وحقوقها ووجودها. ولم يكن الأتراك يفكرون بغير فناء الأمة العربية والحقد والكراهية لها واحتقارها واحتقار لغتها وثقافتها وآدابها وأخلاقها، فلم يبقَ من الإسلام إلا اسمه ورسمه.
فهل كان الفرس والعرب ثواراً أحراراً أم كانوا عملاء للإنجليز كما تصورهم الدعاية العثمانية البريطانية الاستعمارية وأتباعها، لأنهم ثاروا في وجه الغزو التركي المتوحش البغيض؟!
وهل كانت السلطة العثمانية تجسد الإسلام حقيقة في جوهره، أم هو الملك السياسي العضوض الذي عرفناه في عصر الأمويين ثم العباسيين والمماليك وغيرهم، وامتداد لهم في صورته الأقسى والأكثر غلظة وتخلفاً وتأخراً وخشونة وتوحشاً؟!
ألم يسألوا أنفسهم اليوم لماذا لم نشهد مواجهة واحدة بين العثمانيين والإنجليز (النصارى) المحتلين لجنوب اليمن؟! فإذا كانوا مسلمين ويقاتلون النصارى والطامعين الغربيين، فلماذا يبيعون لهم الأراضي الإسلامية العربية واليمنية مقابل مغانم ومخادم متبادلة؟!
قد يقال إن الحرب العالمية الأولى شهدت مواجهة بين الأتراك والإنجليز في بلاد الدردنيل، مع محاولة بريطانيا السيطرة على الموانئ التركية واحتلالها عسكرياً. نعم، حدث ذلك نهاية الحرب، ولكنها حرب من أجل الأتراك والألمان، وليست من أجل العرب واليمنيين، وخسروها رغم ذلك، وهذا كان يختم قرناً كاملاً من التفاهم التركي الإنجليزي على العرب، حتى تم استئجار الألمان للجيش التركي في بداية الحرب العالمية، وانضم الأتراك إلى جانب الألمان ودول المحور، لأن تركيا كانت منذ قرن تقريبا قد أصبحت تابعة عسكريا واقتصاديا وصناعيا وسياسيا لألمانيا العظمى التي أجرت لها مليون عسكري تركي في جيوشها المحاربة من أجل الاستعمار والتوسع الامبريالي، وتوظيف تركيا كسوق للمنتجات الألمانية ومصدر مضمون للمواد الخام والأيدي العاملة رخيصة الثمن، مقابل الأموال والمغانم التي وعدتهم بها ألمانيا العظمى الصاعدة آنذاك في وجه الإنجليز وسيطرتهم الاستعمارية.
لقد كان نزاعا بين مستعمرين إمبرياليين ولصوص ونهابين حول الغنيمة والفريسة، ولم يكن له علاقة بالشعوب المسلمة المقهورة وحقوقها إطلاقا، بل كان صراعا من أجل إعادة اقتسام الكرة الأرضية كمستعمرات بين المتصارعين الكبار، وتحولت السلطنة المؤسلمة زورا إلى قوة من قوى الامبريالية والاستعمار.
ألمانيا آنذاك لم تكن الحمل الوديع أو النعجة المسالمة في أوروبا، بل كانت طليعة الحرب الكبرى الاستعمارية المتوحشة التي حملت الخراب والدمار للعالم كله خلال حربين عالميتين، كانت ألمانيا طليعتها المتوحشة. وخلف تلك الآلة المتوحشة سارت تركيا الحديثة وسلاطينها.

اتفاقيات خيانية لتقاسم البلاد العربية
وعندما دب الفساد والاهتراء والضعف والفسق والانحلال في القصور العثمانية المترفة، وضعفت هيبتها وتراجعت، سرعان ما ارتمى الخليفة التركي في أحضان النصارى الألمان، ثم الإنجليز والمرابين اليهود الصهاينة أعداء الإسلام وخصومه، وانعقدت تحالفات تبعية واضحة بين السلطان العثماني والإمبراطور الألماني القيصر الشهير، ثم بين السلطان العثماني والمملكة الإمبراطورية الإنجليزية العظمى ضد محاولات الاستقلال العربي في مصر واليمن والشام والمغرب العربي.
وفي العام 1839 انعقدت اتفاقيات خيانية بين العثمانيين والإنجليز لاقتسام البلاد العربية فيما بينهم، وهو ما عُرف باتفاقيات لندن الاستعمارية الشهيرة.
وبموجبها قُسمت اليمن، الجنوب للإنجليز والشمال للعثمانيين، وهكذا ظهرت السلطنة العثمانية المتدثرة بالإسلام طويلا، وكانت أكثر ما تكون وقاحة استعمارية بغير حياء ولا خجل.
إن سلطنة الخلافة الإسلامية تقتسم اليمن الإسلامي مع النصارى الاستعماريين، رغم ادعائها أنها جاءت لتخلصها من النفوذ البريطاني والغربي الاستعماري. وبهذا الموقف الجلي في صراحته ووضوح خيانته سقط في نظر الشعوب العربية النفوذ الروحي القديم للسلطنة العثمانية التي خُدعت بها لقرون باسم الإسلام والخلافة المقدسة، إذ تحولت إلى ستار لشرعنة الاستعمار والاستعباد والاستبداد.
فلم يكن يعني السلاطين العثمانيين في الحقيقة سوى أن تصل إلى خزائنهم ثروات الشعوب وأموالها وجباياتها، ليواصلوا حياة العيش الرغيد والمترف المقرون بالفساد والفسق الذي فاق تصورات العقل والمنطق، وتجاوزوا به من كان قبلهم في الفجور والمظالم، لذا كانت اليمن أول الدول التي كسرت سلاسل القوة التركية في العصر الحديث.

إفناء الشعوب المقهورة
إن الحروب التي أشعلها الأتراك لاستعباد العرب والمسلمين طوال قرون راح ضحيتها ملايين المواطنين الأبرياء في عموم الوطن العربي، وخاصة في الشام واليمن ومصر، ودمرت كل إمكانات التقدم والتطور، وحولت البلاد العربية إلى خرائب وأطلال، وكان القتل والحرق والخوازيق هي الأساليب المفضلة للأمراء والحكام الأتراك خلال بقائهم في البلاد العربية. ومع ذلك فإن الدعاية المأجورة لأتباع العثمانيين الجدد من الإخوان تردد أن العثمانيين كانوا مجاهدين وليسوا غزاة، وتطالب بوضع النصب التمجيدية للغزاة في قلب بلادنا المغدورة بدلا من أنصبة الجنود المجهولين وشهداء المقاومة التحررية الوطنية والقومية، فإذا كان العثمانيون ليسوا غزاة ولا احتلالاً، فما هو الغزو والاحتلال إذن؟!
لقد أُفنيت أمم بحالها من قبل العثمانيين في مجازر يندى لها الجبين والضمير الإنساني.
هؤلاء الأوباش ما الذي حققوه لنا سوى البؤس والفقر والخراب والجوع والإفناء بالجملة؟! ومن يحاولون تصويرهم كمدافعين عن بلادنا ضد الاستعمار الغربي الطامع فيها تفضحهم الوقائع التي تكشفها المعلومات والاتفاقات التي تمت بين الأتراك والإنجليز في عموم البلاد العربية والإسلامية، وكيف انتقلت السيطرة من الأتراك إلى أيدي الإنجليز والفرنسيين والإسبان مقابل دريهمات وأموال وتحالفات وخدمات متبادلة بين الطرفين.
 
السلطان البريء الساذج 
سيقولون إن السلطان العثماني كان رجلا طيبا، ولا يعلم ما يفعله أمراؤه وحكامه من خلف ظهره ونظره. غير أن تلك ليست سوى تبريرات جوفاء وأكاذيب لا تصدق في ظل سلطنة مركزية استبدادية قهرمانية لا يستطيع فيها الغراب أن يتنفس دون إذن من السلطان نفسه وتحت رقابته وإحصاء أنفاسه، وهل ما كان يجري داخل الأستانة نفسها لا يعلمه السلطان؟!
وهل هناك في عقيدة وشريعة الإسلام وحدوده وعقوباته عقوبة الخوازيق أو سلخ جلود الأحياء؟! 
 
لماذا ثار اليمنيون طوال قرنين ضد الأتراك؟!
هناك رسالة تاريخية أرسلها الإمام يحيى حميد الدين إلى السلطان العثماني خلال الصراع الوطني ضد الوجود العثماني في اليمن، وقد أوردها العديد من المؤرخين، أتراكاً وعرباً، وهي رسالة تنطق بالآلام والجراح والمظالم التي دفعت اليمنيين إلى الثورة على العثمانيين وسلوكهم وسياساتهم في الرعية. وقد عدد الإمام مجموعة من التصرفات والسلوكيات التي مارسها العثمانيون في اليمن، وخاصة في صنعاء كمثال، وذكر فواحش مخجلة تمارس في وضح النهار وبالعلن دون أي مراعاة لأبسط حرمات الدين والقيم والأخلاقيات الإسلامية والشرف والكرامة. وفي مقدمة تلك الفواحش الإجرامية الزنا واللواط والخمر والنهب وانتهاك الأعراض والتعدي جهارا نهارا في بلاد يدعون أنهم جاؤوا ليدافعوا عن إسلامها ويحموا دينها وأخلاقياتها ويصونوا شريعتها. وقد أكد الإمام في رسالته أن اليمنيين لم يقاتلوا الأتراك إلا دفاعاً عن الأعراض والكرامة والشرف والحرية والدين. وكانت ممارسات الأتراك أشد قسوة ورذيلة من ممارسات المستعمر الإنجليزي المحتل النصراني لعدن والجنوب آنذاك. 
وتعتبر تلك الرسالة وغيرها وثيقة تاريخية مؤكدة وواضحة تبين بجلاء حقيقة الاستعباد العثماني للشعوب المقهورة، واليمن أحدها.

حاميها حراميها 
هل حقا حمى السلاطين العثمانيون أرض فلسطين من الصهيونية، أم فتحوا الأبواب أمامها للسيطرة على الأرض الفلسطينية الزراعية الخصبة والثروات الداخلية قبل مجيء الإنجليز لإنجاز الوعد البريطاني الاستعماري بإقامة المركز الاستعماري المتقدم ممثلاً بالكيان الصهيوني في قلب البلاد العربية؟!
إن الوقائع التاريخية تكشف صراحة الدور الذي مارسه العثمانيون الأتراك في التمهيد الصامت لاستعمار فلسطين لصالح الصهاينة واليهود والإنجليز. وأكثر من يعترف بذلك رجب أردوغان، السلطان العثماني الجديد، في لقاءاته مع القادة الصهاينة، وفي خطاباته وتصريحاته المتوالية بأن العثمانيين أجداده وأسلافه هم من فتحوا الأبواب لهجرة اليهود إلى فلسطين وبلاد العرب والمسلمين، أو كما قال: "إلى أرض الإمبراطورية العثمانية بعد طردهم من أوروبا خلال العصور الوسطى ومحاكم التفتيش". فماذا كان اليهود يفعلون طوال تلك القرون في بلاد المسلمين؟! هل كانوا يصنعون السلام ويوزعون الزهور أم يتآمرون ويسيطرون على الذهب والأرض والثروات الوطنية ضمن مخطط دولي طويل المدى يتمتع بحماية دولية تركية رسمية بفرمانات سلطانية عليا.