مجاهد الصريمي / #لا_ميديا -

تتقارب مخرجات الروح ومثقلات البوح وتتباعد، ولكنها بمختلف مراميها تروم توثيق الإنسان وتأكيد وجوده. وقد تكفل الأدب، بمختلف مبانيه وتعدد مناحيه، بالحفاظ على الإنسان ككائن كان كل هذا الكون الذي يعيش فيه على الرغم من سعته نقطةً جوهرية يختزنها كيانه ويعتمل وفقها عقله ويبنيها ويهدمها فكره ويغير ويخلق ويبدأُ ويعيد ويمحو ويشكل في عالمه كما شاء، لأنه المخلوق الوحيد الذي طبع الله الطبيعة على الانقياد لحركته، والانضباط على ما استخلصته مسيرته... 
وهكذا يمكننا معرفة مدى أهمية ما تشكله الكلمة، ومستوى ما يكتنف الإبداع، ويختلج الثقافة، وينسبك به الشعر، وتستوي على صرح الكمال القائم على حيازة كل موجبات الوعي ومسوغات الهدى ومتممات النور، قصيدةً شعرية تنزع صوب الحقيقة، تغذي جذوة إرادة، تتبنى صوتاً ضرب التاريخ عن استغاثاته المبحوحة صفحاً، واكتفى بمزاولة نشاطه في القصور، والتمرغ في تربة دروب تعاقبت فيها مصائر السلطات بين ذهاب ومجيء...
نعم، قصيدة شعرية جلّت عن فيوضات الفلسفة وعزلتها ومعطياتها الحالمة وعزّتْ، لأن كل ما اتسم بالعظمة واكتسب الفضيلة وحاز العلو لا بد أن يحيلك إلى أنساق ومحددات غايات وجوده وأبعاد وموجهات شرفه وخلوده.
من هنا اكتسبت القصيدة ميزتها، وحازت مزيتها، لأنها بوح المظلوم، ونحيب المحزون، وصيحة المقاتل، وعدة الثائر، وشدو العاشق، ورفيق المسافر، وأنيس الوحيد، ونجي السجين...
وباختصار نقول إن الشعر وسيلة إعلام المسحوقين والكادحين والمستضعفين. الشعر مقام غنى النفس الذي امتاز به الفقراء ولم يتحصل عليه المترفون والأغنياء.
وها نحن في محراب «لا» نلتقي من جديد، وباعتبار هذه الصحيفة نتاج ما اشتملت عليه كلمة التوحيد، وخلاصة ما بلغته ثمار التضحية من نضج، ونتاجاً حقيقياً لكل ما نشدته وسعت إليه كل ثورة حق في مواجهة الباطل، فسنزرع بين صفحاتها جدول حياة لذات شاعرة تنساب أحاسيسها سحراً وبيان حكمة استوفت معاني الجمال حين استنزفت دفق المآقي ونزيف الأنامل مفصحةً عن وجه شعري مغمور بكثافة العتمة، لاح بعدها في فلق صبح صحيفة «لا» متحدا بمدار شمس لاءاتها ومحتضنا قبلات الرفض التي تبعثها أشعتها ويرتوي بانصباباتها النهرية التي توحي بأن «لا» لا شريك لها في ما تمثله وتنبني عليه، وهي وحدها دلتا الحرية والعزة. إننا اليوم في رحاب الشاعر أكرم عبد الرحمن أحمد جحاف.
ولد شاعرنا في العام 1980، وهو من أبناء مديرية مبين، التابعة إدارياً لمحافظة حجة، وقد ترعرع فيها وتفتحت مداركه ولامس الشعر في نفسه ممكنات توهجه، فكتب بدايات صلته به في سن السادسة عشرة. حصل شاعرنا على البكالوريوس (لغة إنجليزية) في العام 2005 بكلية التربية ـ جامعة صنعاء، وعمل في قطاع التربية والتعليم ردحاً من الزمن في محافظة حجة. كما عمل مترجماً في عدد من الرحلات البحرية للسفن التجارية التي تمكن خلالها من أن يتعرف على العديد من دول العالم. 
له شخصية رسالية دفعته إلى مزاولة الإعلام بدءاً من مكتب قناة «المسيرة» بمحافظته، حيث عمل مراسلاً للقناة مدة عامين. حالياً يعمل في «إذاعة 21 سبتمبر». هو متزوج وله ثلاثة أولاد وبنت. والذي يهمنا هنا هو الجانب الشعري في حياته، لأن الشعر بالنسبة له وعلى الرغم من كثرته ظل مخنوقاً ومنحبساً بين تقاطعات الصورة التلفزية ومدارات موجات الأثير الإذاعي.
ويمكننا عزيزي القارئ تقديم ملمح بسيط نستطيع من خلاله أن نوضح صورة شبه تقريبية لأبرز ما زخر به شعره وانتظمت وفقه أغراض قصائده. وسنقدم بين يدي القارئ ثلاث قصائد نظنها تفي بالغرض.
الأولى بعنوان «تعاويذ» ينطلق فيها الشاعر بصيغة دعاء مستعيذاً بخالقه من شر النفس والشرور التي تحيط به. والقصيدة على الرغم من اسمها ومنطلقها الذي يوحي بأنها لن تكون إلا صيغاً بنائية جامدة وكلمات منظومة ليس لها من الشعر سوى الإيقاع والموسيقى العروضية، إلا أن هذا الحكم الانطباعي المبني على حكم مسبق قبل الدخول في القصيدة والتوحد بدوالها ومدلولاتها سرعان ما ينكمش، لأننا نكتشف ومن خلال الانطلاق مع النص أننا أمام ثورة وعي ورؤية ثاقبة تكشف الزيف، تحارب النفاق، تعيش للحقيقة، تعري المتنطعين، تكبح جماح المتسلقين، وتوضح عوار العاجزين.
إنها في كل ذلك تعيش القرآن كزاد وثقافة، لتضعنا أمام شاعر وعى طبيعة الصراع واستوعب مكامن الانحراف بنفس شاعري واضح الألق، كامل الجمال، دقيق في التصوير، داعٍ للتصويب.
وهذا ما تحتاجه المرحلة من أساس ثابت تتكامل فيه وتتداخل خلاله ضربات ذي الفقار مع صيحات أبي ذر، فلا يبقى للضبابية مكان، ولا تحل الانتهازية في موضع. يقول في مطلع القصيدة:
أعوذُ بخالقي مِن شرِّ نفسي 
ومن شرٍّ تأبَّط بالشرارِ
ومن شرّ معي في عُقر داري 
ومن شر الذين إلى جِواري 
ومن شر الحديث على انفرادٍ
ومِن صمتي ووسوسةِ الجدارِ
ومن شر الذين هنا، وهذا
وذاك... وشر بيّاع الخُضارِ
ومن شر الذي هو آدميٌّ
وداخل رأسهِ عقلُ الحمارِ
 ومن شر الذين يمجدوني 
وشر العاكفين على احتقاري
ومَن ضحِكَت ثناياهم أمامي 
وخلفي هُن أنيابُ الضواري
ومن شر القلوب إذا استحالت 
حديداً وهي في جوف الفخارِ
ومِن شر التّهيّبِ من قرارٍ 
ومن شر اتخاذي للقرارِ
ويختتم القصيدة بهذه الأبيات:
ومن شر السياسة حين تغدو
سبيلاً بين أقنيةِ المَجاري 
ومن شر الذكاء الانكماشي
ومن شر الغباء الانتشارِي
ومن شر الأبالسة الصغارِ 
ووسوسة الشياطين الكبارِ
ومن شر الأبالسة القُدامَى
وتكتيك الشياطين الحضاري
ومن شرّي إذا أصبحتُ جسراً 
لِمن يتسلقون على انتصاري
ومن شر القصائد حين تَهمي 
رُموُزاً قد تُصيبك بالدوُارِ 
ومن شر الذينَ فسروها 
بعيداً عن أبي ذر الغِفَاري
في القصيدة الثانية نجد الشاعر منغرساً في سويداء الألم، منطلقاً من حشاشة الداء، وقد امتلك سبل إيضاحه وآليات تشخيصه، سارداً له بمعمولات تمت من خلالها مباني عوالم هذه القصيدة المحفوفة بطابع السخرية اللاذع بقصد الإيقاظ والتنبيه. ومن واقع مهنته الإعلامية ومهمته الرسالية وحساسيته المفرطة الجياشة التقى بهذه القصيدة مع الشاعر البردوني (رحمه الله) في قصيدته «بين الرجل والطريق». وهذا اللقاء بين القصيدتين لا يعني اجترار إحداهما للأخرى أو أنها تكرار لما سلف ومراوحة في الماضي، بل إن الشاعر باستحضار نَفَس البردوني واستخلاص نكهته الساخرة واجتذاب بعض سياقات وصيغ قصيدة «بين الرجل والطريق»، يستدعي جحاف قاضياً بحكم صادر عن محكمة استوعبت الفروق بين زمنين: الزمن الأول: زمن ما قبل 21 سبتمبر/ أيلول وهو ما اصطلح عليه بردونياً بالزمان المزيف المليء بالبراميل والمفعم بالقذارات والملبد بالأوبئة التي تنم عن الجهل والخواء الفكري؛ والزمن الثاني: زمن ثورة 21 أيلول وما بعدها من سني التعزيز للهوية والتدعيم للصمود بوجه العدوان وتحقيق للحرية والسيادة والكرامة والاستقلال، لأنه زمن كشف الحقائق. وهذا الزمن قطعاً لا يحتاج في ميدان الكلمة والثقافة والفكر إلى ما تحتويه البراميل، بل يحتاج إلى تمكين الأساطيل الإعلامية والفكرية والثقافية من دورها بعيداً عن الانجذاب لطنطنات الأواني الفارغة وطنين الذبابات المقززة. قال الشاعر في مطلع هذه القصيدة:
شكرا على الشغل النظيف 
لنا وحسن الاستضافةْ
شكرا على التشهير والتبرير
من دار الخلافة ْ
شكرا على الدهس اللطيف 
لنا بأحذية النظافةْ
شكرا على هذا الثناء العذب
موفور اللطافة 
لا نستحق ثناءكم
فنحن مدعاة السخافة
إن لم يكن هذا الجهاد 
فما الإذاعة؟! ما الصحافة؟!
ويختتم القصيدة بهذه الأبيات:
ماذا نقول لكم سوى 
شكرا عباقرة الحصافة
بلسان برميل الرصيف 
صديق برميل الثقافة
سأظل أشكركم وأمدحكم
إلى أقصى مسافة
حتى يجف رصيد شكري
من محلات الصرافة! 
وأعود منكفئاً على 
نفسي بقوقعة السخافة
متسائلا بيني وبيني 
يا براميل النظافة
ماذا اقترفت لكي 
أُصنّفُ داعشياً بالإضافة؟!
وقبل الختام نضع بين أيديكم هذه القصيدة، وهي من الشعر الشعبي جاءت رداً على أحد أصدقاء شاعرنا بحيث طالت مدة مرابطة صديقه المجاهد بالساحل الغربي مدة سنتين دون أن يسمح له المعنيون بالمزاورة. والقصيدة لطيفة، وهي من الشعر الحميني، وتحتوي بين جنباتها الكثير من لطائف الدعابة وبدائع التسلية التي لا تخلو من هدف رسالي سامٍ. يقول فيها:
جات منك رسالة حامية نار تلكع
حارقة خارقة الحرف منها شظية
قالت انزل صليك او أنت في الحال تطلع 
أو في الخشم نتلاقى نحل القضية 
بس، يكفي، خلاص، الاحمر النور ولّع
ولاقد النور والع جاك طعم المنية
لانت حانب بجبهة واحدة شافتح اربع 
واحشد الموت يزحف لك سرية سرية
ويختتم القصيدة بهذه الأبيات:
وإن سمح لك تزاور أسأل الله يجمع 
بين قلبه وخله في الجنان العلية
يحفظه من رصاص ومن طواير ومدفع
والصواريخ ودبابات والمروحية 
وان رجع يعفس الدنيا ويدحس ويمنع 
طلعتك أو يسوي ألف لية ولية
قوم روِّح اقلّك وانقض الحبل وابكع 
دام بيدعمموا ما عد لها إلا كذية