لا تعنيني الشهرة ولا أسعـى لهـا، وأطمح أن أقدم فناً يليق بتراثنـا
تعلمـت العـزف علـىأوتـار صـيد الأسمـاك وعلبــة صفـيح

حــاوره: عبدالرقيب المجيدي / لا ميديا -

الفن بالنسبة له التزام وقضية. لا يعنيه أن يقال عنه فنان ولا أن يحتشد للظهور والشهرة. يبقى كامنا في الأعماق تاركا للزبد أن يظهر.
للوطن الذي يُخلص له كل أمانيه متسع أكبر من زمن وأوسع من جغرافيا.
علاقته بعوده أقرب إلى صداقة حميمة منها إلى علاقة فنان بآلة. تراه يسهر عليه إن اشتكى شحوباً، حتى لو كلفه ذلك ليالي بأكملها. أعواده الثلاثة يكاد يسميها لك: هذا الآنسي، وذاك رياض (السنباطي)، وذاك أنا. كل عود منها له بوحه الخاص عنده، وطريقة أداء تختلف عن الأخرى. أما قريته (مريت) في مديرية السياني بإب فأقرب إلى تحفة في حضن جبل؛ وربما كان لها أثر كبير في اخضرار عوده وصوته ونقائهما على الدوام.
صحيفة "لا" التقت الفنان الرائع نشوان الحجري في هذا الحوار:

 في البداية أهلا بك في صحيفة "لا"!
- أهلا بكم، وأشكرك أخي عبدالرقيب على هذه الاستضافة وهذه الفرصة والتي من خلالها سأطل على جمهور هذه الصحيفة لعلي أقدم لهم شيئا يروق لهم.

أعمال غير مكتملة
 لك أعمال غنائية مائزة وراقية جدا وتعتبر لونا خاصا بك.. لو تعطينا نبذة عنها!
- في الحقيقة هي ليست أعمالا مكتملة، وإنما هي محاولات ينقصها الكثير من الترتيبات لإظهارها إلى الجمهور كما أحب وكما يجب أن تظهر عليه.. وهي عبارة عن قصائد لقامات أدبية وشعرية يمنية، أمثال الدكتور عبدالعزيز المقالح والأستاذ عبدالله البردُّونِي والأستاذ عبدالإله القُدسي والأستاذ أحمد المعرسي والأخ الصديق حسام الإدريسي وآخرين.. منها ما هو بالفصيح ومنها ما هو بالعامي الحميني إذا صح التعبير.

جــيل الفــن الهابــط
 ألا ترى أن هناك هبوطا في مستوى الأغنية اليمنية خصوصا في هذه المرحلة؟
- هذا بلا شك.. وهذا نتيجة طبيعية لما مرت به بلادنا من ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية على الأقل في الثلاثين السنة الأخيرة. وهذا الهبوط والتدني ليس مقصورا على بلدنا فقط وإنما على المستويين العربي والعالمي. ولو تأملت ما يقدم الآن من فن عربيا وعالميا لوجدت أن العالم بشكل عام يعاني من وباء فني هابط ومتدن.

شـروط تلحـين القصــيدة
 ما المعايير التي يشترط توافرها في القصيدة لكي تلحنها؟
- برأيي أنا، وهو غير ملزم لأحد وإنما هو رأي نتيجة تعامل وممارسة أصبحت إثرهما خبرة إلى حد ما -إذا أمكن القول- وهي ليست شروطا وإنما يحبذ توافرها في أي نص يراد قولبته في لحن يليق به، وهي كالتالي: 
أولا فكرة القصيدة والتي يجب أن تكون ذات مضمون هادف.
ثانيا أن تحمل القصيدة رسالة إيجابية الهدف منها رفع مستوى الذوق العام للمجتمع.
ثالثا صدق التجربة الشعرية في النص.

ثلاثـي النجـاح
 برأيك.. الكلمة أم اللحن من منهما يوصل الأغنية إلى النجاح؟ 
- هذا سؤال بحاجة إلى رابط ثالث وهو الصوت الذي يؤدي هذا العمل الإبداعي ككلمات رائعة ولحن رائع وصوت رائع يتمثل روح هذا العمل الإبداعي.
حينها يكون هذا الثالوث الإبداعي يجعل أي عمل غنائي يمكنه أن يحوز على إعجاب الجمهور ويلقى ردة الفعل المأمولة والمرجوة والتي توقعها الكاتب والملحن والمطرب. وهنا أقول المطرب وليس المغني أو المؤدي.

المغني ليس مطرباً
 ما الفرق بين المطرب والمغني؟ 
- المطرب هو الذي يضيف روحه إلى اللحن ويجعلك تطرب بكل جوارحك وتجده في كل مرة يغني الأغنية ذاتها بشكل متجدد تلمسه وتشعر به، وينقلك بتطريبه الأدائي إلى عوالم بعيدة مليئة بالجمال والحب والتسامح والعشق...الخ.
أما المغني فهو الذي يؤدي اللحن كما قدمه الملحن ولا يزيد فيه ولا ينقص وكأنه آله.

لا أبحــث عـن الشهــرة
 أنت من الأصوات المبدعة والتي ربما لم تحظ بالشهرة الكافية.. ما سبب ذلك؟ 
- أولا أنا لا تعنيني الشهرة ولا أسعى لها، وما يعنيني هو كيف أقدم فنا يليق بتراثنا وفننا الضارب جذوره في ذاكرة الأزل وينتمي إليه ويستمد رونقه وروعته من أرومته وعبقه.
أيضا ما يعنيني هو أن أقدم إبداعا يحافظ على هويتنا الثقافية اليمنية الأصيلة وألا ننسلخ منها بحثا عن هلاميات الثقافات الممسوخة.

لي أغنيات مـن كلماتـي
 كونك تكتب الشعر.. هل هناك أغنيات لك كتبت كلماتها وقمت بتلحينها؟
- أكيد،لي بعض المحاولات باللهجة العامية،وأيضاً لي محاولات مع قصائد بالفصحى،دينية ووطنية،وقصائد حب.
وكل هذه المحاولات أغنيها،ولكن ليس بشكل دائم وليس في كل مكان وإنما في لقاءات خاصة مع أصدقاء أعتبرهم أنا من النخبة الذواقة،والتي تعي تماماً قيمة الفن الأصيل ودوره،وتشجع عليه.
 من خلال ألحانك.. هل استطعت أن تعبر عما يختلج في روحك؟
- لكل عمل إبداعي تجربته ولحظته النفسية، إضافة إلى النص نفسه والذي يجب أن يكون اللحن معبرا عن مضمون النص.
 ما هي العوامل التي يمكن أن تصنع فنانا حقيقيا؟ 
- الموهبة، الثقافة والاطلاع والدراسة والمثابرة في هذا المجال، وعدم الشعور بالاكتفاء، إضافة إلى حب المعرفة، وترك النرجسية الفنية والغرور فهما مقبرة المواهب.
 هل الأغنية اليمنية تستطيع أن تساعد في تكريس السلام؟
- أي إبداع فني صادق يحمل رسالة قيمة وهادفة يمكنها أن تخلق عوالم رائعة وتنتج ثقافات جميلة تجعل من الشعوب والدول واحات من الإنسانية والجمال والحب والسلام.
 عمل فني من أعمالك تعتز به كثيراً؟ 
- هي كثيرة جدا ولكن في هذه الظروف التي نعيشها وتعيشها بلادنا الحبيبة لدي عمل من كلمات الرائع النبيل والشاعر الجميل الدكتور عبدالعزيز المقالح بعنوان (دثريني).

المقالح طلب مني غناء قصيدته
 هل استمع الدكتور المقالح إلى قصائده المغناة بصوتك؟ وكيف كان شعوره؟ 
-نعم، استمع أولا لقصيدة (رضوان) وأثنى على اللحن والأداء بعبارات أثلجت صدري وملأتني فخرا، وأعتبرها وساما وتاجا على رأسي أفاخر به ما عشت. وبعد هذا العمل اقترح عليّ أن أغني قصيدة (دثريني)، والتي كانت خلاصة بوح لقلبه المثخن بأوجاع وآلام هذي البلاد، وأعجب بها كثيرا وأثنى عليها ثناء أشعرني بأن ما قدمته شيء عظيم. وفي العملين أنا ممتن له وأشكره على كرم قلبه وثقته بي.
كما وعدني بإهداء ديوان شعر لي كي أغني ما شئت من قصائد هذا الديوان. وهو ديوان شعري قديم يضم كل قصائده عن الحب.

الاقـتراب من سمـاوات الإبـداع
 البعض يقول إنك تغني القصيدة بألحان بعيدة عن حياتنا.. ماذا تقول في هذا الجانب؟
- إذا كنت تقصد بعيدة عما تعودت عليه الأذن اليمنية بالنسبة للقصيدة الفصيحة فإجابتي عليك كالتالي:
النصوص الفصيحة للأسف في بلادنا لم ترقَ إلى المستوى الذي يمكن أن يجاري الأعمال الرائعة عربيا والتي عاشت وتعيش إلى الآن. لذا حاولت وأحاول دائما في محاولاتي اللحنية أن أقترب من سماوات ذلك الإبداع الحقيقي والمتميز بقدر استطاعتي، إلى أن تتاح لي الفرصة والظروف لإخراجها كما أحب أن تكون.
أما القصائد الغنائية التي بالعامية المحلية، فأنا ألزم نفسي تماما بالحفاظ على هوية النص باللحن حسب بيئة النص، بمعنى آخر: بحسب درجة النص الغنائي يكون اللحن لصيقا ببيئته إذا جاز التعبير.

صنعــاء الفاتنــة
 قصة قصيدة صنعاء..؟
- هي للشاعر الرائع محمد سالم الأحمدي من شبوة، سمعتها منه في مقيل في العاصمة صنعاء، وبالتحديد في منتدى الأستاذ الشاعر صالح عباس رحمه الله، والذي يرأسه ولده الأستاذ محمد صالح عباس.
سجلت القصيدة آملا أن أتمكن من عمل لحن لها.
وفي كل مرة أقدم على تلحينها أجدني عاجزا عن إيجاد مفتاح للحن، حتى ظننت أنني لن أتمكن من تلحينها بسبب الشطر الأول من القصيدة، والذي يقول: "استلقت فاتنة تحضن جدايلها بلاد الروس".
وبعد عام كامل، وبعد الغوص في جو القصيدة وسبر أغوار معانيها، لاحت لي مفاتيح وليس مفتاح للحن القصيدة. وقمت بتلحين البيت الأول والثاني، وشعرت بأنني نجحت في ذلك.
اتصلت بشاعر القصيدة محمد سالم الأحمدي وأخبرته أنني قمت بمحاولة تلحين بيتين من قصيدته (صنعاء) فقال لي: أرسل لي التسجيل.
أرسلته عبر الواتس وكانت ردة فعله غاية في الروعة. كان مندهشا ومذهولا ومعجبا، واستنفد كل عبارات الثناء والشكر على هذه المحاولة الناجحة.
وهذا بدوره أعطاني دفعة إيجابية وعزيمة لا تنكسر لإكمال اللحن لبقية الأبيات.
في اليوم التالي كانت المفاجأة. أكملت اللحن وسجلته وأرسلته له عصرا، ولم يعقب. ظننت أنه لم يرق له ما قمت به، وبالذات لأني عدلت بعض الأبيات من وجهة نظري الشخصية.
في المساء فوجئت باتصاله وإذا به يصرخ: حرام عليك يا أستاذ ما هذا الإبداع؟ ما هذا السحر؟ ما كل هذا الجمال؟ 
ولم يترك لي مجالا للرد على عبارات الإطراء التي انهمرت كالمطر؛ فقط قلت له: هل أعتبر هذا موافقة على اللحن وأنه لا توجد أي ملاحظات عليه؟ 
قال: يا رجل لقد أعدتَ كتابةَ القصيدة من جديد بلحنك الرائع هذا فشكرا جزيلا لك.
وهذه هي قصة قصيدة صنعاء للشاعر الجميل محمد سالم الأحمدي.

كانت الطفولة مزيجاً من الرياضة والموسيقى
 الطفولة لا تموت في أعماقنا ولكن تساعدنا على مواجهة الزمن.. لو تحدثنا عن طفولتك!
- كانت طفولتي مزيجا من الوله بالرياضة والموسيقى كمستمع. وكانت أحلام الطفل حينها لا تعدو عن دراجة هوائية وملابس رياضية، ورباط عنق أنيق كي أظهر بمظهر جميل وبالذات في المدرسة، إضافة إلى حلم تعلم العزف على آلة العود.

 ما هو الشيء الذي يشغلك أكثر من انشغالك بالفن؟
- ما يشغلني دائما هو أن أرى شعبنا وأمتنا اليمنية في خير وعزة ورفعة وتقدم، وأن أرى ابتسامة الرضا في وجوه الناس دائما مدى الحياة.

تعلمت العـزف بعلبـة صفـيح
 لنعد بالذاكرة إلى البداية.. كيف كانت؟ 
- بداية الهواة المألوفة والطبيعية؛ وذلك في البحث عن آلة العود وكيفية الحصول عليها. ولكن لم أتمكن من ذلك في بداية الأمر، فاضطررت إلى صناعة عود بسيط من علبة صفيح وأوتار صيد الأسماك قام بصناعته لي خالي العزيز عبدالسلام السماوي. ولم تمر سوى أيام حتى تمكنت من ضبط أوتار العود الصفيح ودوزنتها بطريقة سليمة، وبدأت مشوار محاولات العزف عليه، حتى استطعت أن أعزف عليه أجزاء من أغنيات مشهورة أحفظها مثل (يا لاقي الضايعة) و(آنستنا يا عيد) لعلي الآنسي و(تليم الحب في قلبي) لأيوب طارش. وبعدها، وبالمثابرة والتدريب وصلت إلى حد أنني استطعت عزف كل الأغاني التي أتيح لي سماعها محليا وعربيا وبنفس الآلة البسيطة. بمعنى أنني لم أحصل على آلة عود خاصة بي إلا وأنا أجيد العزف تماما.
  ماذا أضاف لك الفن؟
- أضاف لي أهم شيء أعتز وأفتخر به وهو محبة الناس واحترامهم لي، وكذلك الصداقات المتعددة والنوعية من كل أطياف المجتمع اليمني.

 كلمة أخيرة..؟ 
- أتقدم بالشكر الجزيل لك شخصيا وللصحيفة وجميع العاملين بها، كما لا أنسى أن أقول كلمة إجلال وتقدير لشعبنا اليمني العظيم والفريد والذي يعاني ويلات الحرب والعدوان ومازال ممتلئا بكل قيم الجمال والحب والانتماء.