مجاهد الصريمي / لا ميديا -

لا نزال ننغرس في تربة القصيدة، ننبت في جنباتها. ننجر من بين حناياها، معلنين تواشج علاقة الذات الإنسانية بأرضها وبمجتمعها. والشاعر رسول الأرض لسكانها؛ فما ساغته قريحته، ونمت به موهبته، وانتظمت في ظله كلماته، هو الوجود. نعم، الوجود الذي تعتنق في رحابه كل التواجديات المكانية والزمانية، البشرية والحيوانية، الملائكية والشيطانية.

إن الشعر آلف بين المختلفات، وخالف بين المتآلفات، في ما لو توافر له شاعر جدير بالتسمية، خليق بترجمة ما تقع عليه عيناه من آمال وآلام أبناء مجتمعه، تطلعاتهم وانكساراتهم، مدامعهم وابتساماتهم. وهكذا هو شاعرنا عبد العزيز العبسي. وإذ نقف في محراب (لا) للمرة الثانية، نتلو سفراً من وحي قلمه، ونقتبس شعاعاً من توهج فكره، فلا بد من القول إن الأديب والسياسي والشاعر عبد العزيز العبسي لم يمت، إذ كيف يموت ونحن لا نزال نشهد انسياب الثوار من بين شفتيه، يندفعون زمراً تراصوا في ميدان كلماته؟!
كيف يموت والوطن المحفوف بردائه، والمكتحل بمداد يراعه لا يزال هو وإياه يعيشان الانصهار الكلي، والاندماج المطلق، مفتتحين في كل منحى زمني باب تمكين لإحداث الخوارق وتحقيق المستحيل؟! إنها فعلاً الحياة المتمردة على الموت، المغالبة للفناء. 
فليت شعراء المرحلة يتعلمون من شعراء عاشوا كل المراحل، لأنهم ما احتفوا بالآنية كحال الكثير منا اليوم ليختفوا بعد انقضاء لحظة انفعالهم بذلك الحدث فيصبحوا مجرد مناشير وسجلات تاريخية لا تتصل بالشعر، ولا تعيش مزاياه. فما سمي الشعر شعراً إلا لأن صاحبه بعيد المدى، يفتتح أزماناً في زمنه، ويروي أحداثاً عكستها لعين موهبته مرآة الحدث الذي عايشه. وهكذا كان ضيف هذه المساحة: دائم الحضور، تام التواجد، ينبلج أغنية تجيش بها البنادق، تراقصها إشراقة الشمس، فتغمر الزهور، أغنية تستنطقها الصبابة واللوعة على جدار الغربة، لتحكي عقود تنافر وتشظي اليمن الأرض والإنسان، أغنية يقف صاحبها على نافذة أمله، وقد جمع كل ممكنات بقائه يرقب لحظة وصول الوطن المسافر.
والآن، هيا بنا لنغوص أكثر في أعماق الشاعر، ولنبدأ مع هذا النص الذي كتبه في حرب صيف 1994 . والنص، على الرغم من قصره وارتباطه بمرحلة معينة، إلا أنه ملخص لكل ما تمخض عن تلك المرحلة من سياقات سياسية واجتماعية وثقافية وإعلامية تشاركت في جريمة نفي الوطن من عالم المواطن، ليعيش الناس حالة العجز وهم يمثلون للإيحاءات التي تنسل من وعود الكذبة، مرتحلين إلى الوهم محتفين بالضياع. فأي مأساة أشد من تلكم المأساة التي يفقد فيها الفرد وطنه، مع أنه فيه! إنها ولا شك لحظة انتصاب المشانق، واتساع المقابر، واحتشاد المآتم، لحظة انسحاق الكمال أمام بنية النقص.
ولا يقرأ الشاعر مشهد الراهن بعيداً عما رواه التاريخ من أحداث مماثلة، فنراه يستدعي الزمن الأموي ملحقاً طغاة الحاضر بجذورهم التاريخية. وهذا ما نجده في قوله:
يا أنت يا وطن المكائد والموائد 
ولعل ذلك يبرز لنا صورة عمرو بن العاص وأبي هريرة كمنبعين يغذيان بقاء الاستبداد والجور عبر العصور، إما بما ينبني على الخداع والمكيدة، أو بما تتكفل به المائدة الشهية والتي تجتذب إليها السدنة القاطعين صلتهم بالله ليصلوا جناح الطغاة.
ومقولة الدوسي شاهدة على هذا؛ حيث قال: «الصلاة بعد علي أتم وأكمل، لكن مائدة معاوية أدسم وأحفل». وهكذا عندما يصبح الدين والتراث والفلكلور الشعبي ثوباً يرتديه الحاكم الظالم واضعا طقوس القبيلة في حيز قصره. فكيف نعيش الانشداد للماضي، ونتمسك ببواعثه ومخرجاته وقد ضيعنا الحاضر، وحكمنا بالموت على المستقبل؟!
والقصيدة تحمل اسم «الوطن المسافر»، يقول الشاعر فيها:
يا أيها الوطن المسافر في وعود المرحلة
يا أيها الوطن المدلى بحبال المقصلة
يا أنت يا وطن المكائد والموائد والمآسي المذهلة
يا أنت يا وطن الزوامل والمهاجل وطقوس القبيلة
يا أيها الوطن الذي يغتال ورد الياسمين ليعيش وحل المزبلة
خلت معالمها الطريق إلى السنين المقبلة
أحلامنا ذبحت وهل تجدي الذبيح الأسئلة
صُلبت أمانينا ونحن... لم نتل بعد البسملة
وما إن ننتهي من استعراض قصيدة حتى نلتقي بأخرى. وكأن الشاعر نفس سكنتها كل النفوس، وروح راحت تشرح ما استقرت عليه كل روح، واستقر بين جوانح كل ذات. ولن أطيل عليكم بل سأجعلكم تعيشون مع قصيدة لشاعرنا بعنوان «عشقناك» وهي تعبر عن آلام وآمال المغترب اليمني.. تقول القصيدة: 
تبقين رغم المسافات 
أغنية المتعبين على الأرصفة
تبقين رغم البعاد 
بلسم أحلامنا الخائفة
تبقين رغم الهجير 
ظل شجيراتنا الوارفة
عشقناكِ 
إنا شربنا الكؤوس 
نخب جراحاتك النازفة
فرحماك رحماك رفقاً بنا
مدي يديك إلينا
مدي ولا تسألينا
إنا بقايا جراح
(2)
ويكفينا أنا عشقناك 
في زمن الحرب والجدب 
والأغنيات الحزينة
يكفينا أنا شربنا الأسى 
من مقلتيك دموع
يكفينا أنا عشقنا الرحيل 
منك إليك رجوع
عشقناك هذا الحنين 
يمزق بين الحنايا الضلوع
فرحماك رحماك رفقاً بنا 
مدي يديك إلينا
مدي ولا تسألينا
فإنا بقايا جراح
عشنا في ما سبق مع الشاعر والوطن صوراً من الوجد. مفعمة بلواعج الحنين. يبدو الشاعر فيها كطفل حالت بينه وبين أمه أبواب مؤصدة بإحكام. فظل يناديها، يتودد لها، يقدم دلائل توحدها به، في كل شهقاته، وصدورها عنه في كل زفراته. وظل كذلك حتى تلاشت كل دروب البعاد، ودنا منها حتى توارت أدوات النداء. واستجمع الشاعر قواه في التعبيرية والبيانية ساعة لقائه بحبيبته اليمن؛ وذاك ما تكفلت به هذه القصيدة التي هي بعنوان «بلادي» قال فيها:
حنيني إليك اغتراب
وشوقي إليك عذاب
بلادي
أحبك رغم احتضاري الطويل 
أحبك زنزانة كنتِ
أو كنتِ ورداً وشوك
أيا امرأة حاورها العاشقون 
فأعطت لأبنائها الاختيار
أيا امرأة تستفز الأماني 
تستضعف الموت
تقتحم اللغة الخائفة
أحبك كنتِ السنابل
أو كنتِ فقراً وجوع
أحبك كنتِ المطر 
أو كنتِ جدب السنين
أيا امرأة خلقت 
من كل بيت سجين
ومن كل منفى حنين
بلادي 
أنتِ وسادي 
زنادي 
منامي وليل سهادي
لك المجد 
وللشهداء الخلود 
أغنيك أغنية لليتامى
لأبناء من عبروا الموت 
ممتشقين الحروف السيوف
أغنيك 
إن شئتِ أحيا 
أو إن أردت أموت 
والآن، هيا إلى السجون لنقف على أبواب زنازين مَثل نزلاؤها أسمى ضروب الانتماء للوطن. ومن ضيق مساحتها رسموا سعة أفق للحرية والثورة والعدالة. السياط المتتبعة لكل نقطة في أجسادهم، وهي تعلو وتنخفض من قبل الجلادين، لا صوت لها برغم شدتها، لأن معدل نبض قلوبهم بقيمة موقفهم جعلهم بلا معنى. 
تعالوا قبل الختام نقف على مشهد لعذابات بديعة يرويها الشاعر على لسان أحد أصدقائه، وكان صديقه هذا ناشطاً سياسياً تم اعتقاله، وتفنن زبانية العفششة وأشباح الأخونة بتعذيبه حتى فارق الحياة، فكتب شاعرنا هذه القصيدة «لن أعترف»؛ يقول فيها:
(1)
لن أعترف 
مادامت الأصوات تخنق بالحناجر
والحاكمون التافهون 
ما بين لص ومقامر
والليل أشبه ما يكون بكف ساحر
أطفئوا في جسدي كل السجائر
وأغمدوا في جسدي كل الخناجر
فأنا لن أعترف 
(2)
الدماء التي سالت لتروي كل شبر 
علمتني كل معنى للصمود
فاستريحوا 
تعبت مني القيود
وأنا لن أعترف 
(3)
انزعوا عني أظافيري 
وشعري 
وانزعوا عني عيوني 
فأنا لن أعترف 
وبموتي سوف يولد ألف ثائر