مجاهد الصريمي / لا ميديا -

تعددت مظاهر الأدب، وتنوعت أغراضه، واختلفت للسبب ذاته الكيفيات التي تتناوله بحثا ودراسةً ونقدا وتحليلاً، ولكن بقي الأدب صورة إنسان عصره، والمدخل الأدق للإلمام بكل جوانب حياته. ولعل الشعر هو الأوفى لوناً من الألوان الأدبية التي عاشت الإنسان وعاشها، حزناً وفرحاً، حباً وبغضاً، جدا وهزلاً...

نعم، عاش الشعر كل تفاصيل حياة الناس، وعَبَّرَ عن جميع قضاياهم، وخصوصاً في مجتمعنا العربي، وعلى وجه التحديد المجتمع اليمني. إذ إن الشعر نديم الفلاح، ومؤنس وحشة الحَطّابة، وجليس رعاةِ المواشي... كما يندرج ضمن عدة الحرب والسلم، بل يعد من أهم أدواتهما. لذلك كثر قائلوه، واتسعت رقعة ناظميه، وتعددت مسالك الممسكين بزمامه، والآخذين بنواصي مصيره. وهذا طبيعي ولا يثير الدهشة، فهو مُدرك لدى الجميع، لكن ما يُثير دهشتنا أن نجد الكم الكبير من المتصدرين لجبهة الشعر من أنصاف الشعراء، ونجد بالمقابل شعراء قد بلغوا سدة النضوج، ووصلوا إلى تمام تعملق الموهبة الشعرية ولا يكاد يعرفهم أحد. ومع وجود عالم الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي إلا أنهم ظلوا مبعدين تماما عنا، إنهم يمضون بصمت دون أي ضجيج، وقل أن تتسرب إليهم ومضات ضوء لتحيي محيطهم من دفق مواهبهم الحية.
اليوم نسير مع أحد هؤلاء الأفذاذ المُجيدين للأدب بشقيه شعرا ونثراً. إنه الشاعر الأديب «ياسين أحمد علي الزريقي» من أبناء محافظة «تعز» منطقة «الزريقة». وهو من مواليد العام . وقد حصل شاعرنا على ليسانس آداب ـ قسم اللغة العربية ـ جامعة صنعاء في العام .
كان لموهبته الأدبية حيز كبير من حياته، إذ بدأ ينشر ويشارك بشعره وخلجات فكره من مطلع العام ، وذلك من خلال مركز النور وجمعية المكفوفين، ضمن أمسيات وندوات واحتفالات خاصة يقيمها المكفوفون. وقد كان لمدرسة الثورة بمحافظة تعز أثر متميز في صقل موهبته. كما أسهمت إذاعة تعز في تعزيز ثقته بنفسه، نظراً لما كانت تتركه مشاركته في برامجها من إعجاب لدى المستمعين. ويعيش شاعرنا مع المذياع حياة حافلة بالحب الصادق، لدرجة جعلته مشاركاً مستمراً في الإذاعات الثلاث (تعز، صنعاء البرنامج العام، عدن). وشاعرنا كفيف ترى في عماه تجليات فكر قل أن تجد مثله لدى أصحاب العيون المفتوحة. يعمل أستاذاً لمادة اللغة العربية في ثانوية سكينة للبنات بأمانة العاصمة. وقد صدر له ديوان شعري وحيد على الرغم من غزارة نتاجه الشعري، وذلك في العام  بعنوان «فوق ضوئية العين».
وبالتجول في ربوع الديوان الشعري لشاعرنا ترى اليمن وقد تربعت بين جوانحه، وبات يصوغها في بوحه، ويحملها في حله وترحاله. وهكذا كلما غصت بين صفحات الديوان أحاطت بك عوالم الأشياء والأشخاص والأفكار والصراعات والعادات والسلوكيات اليمنية بجانبيها السلبي والإيجابي. لكنه يعيش للحقيقة، ينافح عن الإنسان، ينحاز إلى المظلوم، يتبنّى القضايا المصيرية، ينقل أصوات الكادحين، يعمل على فضح الزيف، ويعري الكاذبين، وينتصر للهوية الجامعة. 
وقد تعددت أساليب عرضه لكل ما سبق بين نقد لاذع مجرد من كل وسائل التمويه والتخفي. يسمي الأشياء بمسمياتها، دون خوف أو اكتراث بما يترتب على ذلك الوضوح من عواقب وتبعات قد تكلفه حياته حين يتطرق لهوامير الفساد السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه أعمى ولا يمتلك أدنى مقومات الحماية لنفسه من سطوة السلطان وزبانيته. وإلى جانب عماه فهو ابن الأسرة الفقيرة التي لا تشكل امتداداً لأي جناح سياسي أو حزبي. سنوات الثمانينيات والتسعينيات ونيف من العقد الأول من الألفية الثالثة هي فترة اكتمال الجسد المتكون منه ديوان «فوق ضوئية العين».
اتخذ شاعرنا من الجانب الساخر المصبوغ بالدراما باباً من أبواب نفاذ موهبته إلى كنه الوجود الإنساني ليوقظ وعياً مجتمعياً، ويفتح آفاق النزوع نحو التغيير، ويضع بين أيادي قارئيه آليات التحرك.
كما تجتذبه القضايا المصيرية للأمة، فيبدي إعجابه بحركات المقاومة، ويفتح أعين الناس على منجزاتها، ويمد يده صافعاً أبواق الضلال التي تعاني الحرج أمام انتصارات حزب الله والمقاومة الفلسطينية. ولعلنا من خلال حلقتين سنحاول تبيين كل ما يتعلق بالشاعر وما يتسم به شعره مع التراث.
لشاعرنا نظرة ثاقبة نحو التراث، بحيث يتعامل مع الموروث والفلكلور الشعبي باعتباره خلاصة تجارب، وسجلاً حضارياً مليئاً بالفائدة، كما حكت ذلك قصيدته «الجراح الفلكلورية»، إذ يقدم فيها كيفية جعل الموروث الشعبي وسيلة للبناء لا أداة للهدم. فحمل السلاح لغرض الزينة أو بحجة أن قيمة اليمني لا تبرز إلا به ضرب من الخيال، فليست الجنبية أو المسدس ما تتحدد بموجبهما معاني الأصالة والحفاظ على الهوية من الاندثار. بل هنالك كلمة شاعرة وحكمة حية ونغمة خلاقة وثقافة مليئة بالتنوع والثراء، تبعث على الاعتزاز بالآباء والأجداد وتحفظ للجيل الحاضر معطيات البقاء التي تمنع عنه الانجراف مع التيارات الأخرى وتحول بينه والانصهار بالآخر، وتبني فكره والتعامل مع المحيط بما يمليه عليه ذوو النزعة الحداثية التي تلتزم القطيعة مع الماضي وتتعامل مع الحاضر بعقلية الغرب وثقافتهم. وخلاصة الفكرة التي قامت على أساسها بنية القصيدة هي أن ليست فقط أدوات الموت ما يجب اعتبارها تراثاً وموروثاً شعبياً مقدساً، فهنالك عوامل يجدر بنا الاهتمام بها لأنها من عمق دائرة اتساع الحياة ومحتوى أبرز أثر ابتعاث الوجود، والتي إن فقدناها كجوهر وأبقيناها كقشور صرنا صورة عدم تنزع نحو الزوال والفناء. تقول القصيدة:
«عيبٌ عليك ترى سيوفاً في الوغى»(*)... إذ لا وغى
إذ لا قبيلة تشتهي حرب القبيلة
إذ لا عشيرة تدعي ثأراً قديماً في العشيرة
إذ لا عصابة تبتغي سبي الجميلة.
...
جساس ألقى سيفهُ... ما عاد يطلبُ سيفهُ
رأسا.. فداءً للبعير
أن تسبقُ «الغبراءُ» «داحس» لا يضير
والعكس أيضا لا يضير
سادت شروط العقل فافهم يا هُمام
ما يفعل الصمصام بالصمصام
قد تدعي أن الحسام اليوم زينة
والخنجر المسموم زينة
لا يا صديقي
ما أرى في الموت زينة
أوما وجدت الورد في كف الربيع؟!
أوما فهمت الفجر أو همس القمر؟!
أوما قرأت السحر في ثغر الزهَر؟!
حتى تعلق في يمين الصدر جرحا
حتى تدس الجرح مخدوعاً بجيبك
الجرح سيف... والسيف جرح
مسدساً أو خنجراً أو جنبية
والكل من أصل التراث
باسم التراث تحمل الجرح القديم
باسم التراث تلعن الجرح اللعين
يا سيدي... ليس التراث خنجراً أو جنبية
إن التراث مبدأ وكلمة
قصيدة ونغمة
تغفو على خد الحسام العنتري
شلال حب يغسل الرمال
يحرر الإماء والعبيد
ما كان سيف عنترة
رمزاً لمعنى المجزرة
ما أكذب الراوي
ومقهى عنترة!
وهنا يعترض طريقنا نص آخر بعنوان «بائع الملح» كتبه الشاعر عام ، يحكي فيه قصة صديقه الذي كان في بداية حياته بائعاً للملح فارتقى إلى مصاف باعة البرتقال، فلم يعد الشاعر قادراً على مواساة صديقه بالشراء من بضاعته الجديدة، لعدم وجود المال لديه. والقصيدة تتبنّى فكرة أن الدمعة هي البضاعة المزجاة لدى اليمنيين. وقد قارب هذا المفهوم باختياره مادة الملح الزهيدة بسعرها، المشاعة بتداولها لدى الجميع والمتوفرة بكل بيت، وهو بهذا يسخر من طبيعة المجتمع المنقسم على حلاوة الدمعة وملوحتها، ومادة الملح وزهادة سعرها التي لا يتوفر للشعب شيء آخر غيرها يتعرف من خلاله على أنه موجود. فالملوحة وحدها هي الحيز الوجودي لحياة خلت من كل مظهر ثانٍ كالحلاوة والعذوبة وحتى المرارة. لماذا الملح والملح فقط؟! ربما وجد الشاعر أبعاد تعطشه للتغيير وصلت إلى حالة النهاية التي مات فيها كل أمله، وأسلم لليأس قياد مناحيه وسبله!
كما يشير، بتحولات صديقه من تاجر ملح إلى مُتّجِر بالبرتقال، إلى تعلق اليمنيين بالوهم في تلك الفترة ومستوى نزوعهم لتبديل سبل عيشهم بما لا يبتدع بواعث تخلق نهضة روحية وفكرية واجتماعية تبرز الإنسان القادر، النبيه، المتحرك، الفاعل، المريد، الحر. يقول في الأبيات التي اخترناها من هذه القصيدة:
صديقي اليوم في الأحياء جالا 
بسلّته يبيع البرتقالا
ينادي القاطنين بعذب صوتٍ
على مصراع نافذتي توالى
نسيم الصبح يحمله رخيماً
إليّ فلا أجيب له مقالا
وكنت إذا ترنم قرب داري
بطول الصوت نظما وارتجالا
أهش له وأسرع نحو بابي
أقابله احتفاءً واحتفالا
أنادمه وأحمل خبز أمي
إليه وقهوة تذكي الخيالا
وكان الملح سلعته فتلقى
بجيبي ما يطيق لها احتمالا
بقية راتب أو بضع قرضٍ
وسعر الملح يحترم الريالا
وهذا اليوم فاجأني صديقي
يبيع من الموالح برتقالا
وفي نبراته فرح الترقيّ
إلى حال بمهنته تعالى

معاً نسير تحت غيمة الحرف، ونستقي عصارة تجارب الذين قدموا في مسيرة حياتهم سجلاً يحتضن بين طياته نتاج مَن مروا من هنا قبلنا. وعند وعينا لما قدموه، وبنائنا على ما أسسوه، ومراكمتنا على ما أبدعوه، يصبح الوجود كلاً لا يتجزأ، وتصبح حياتنا القصيرة طويلة بقدر تفاعلنا مع التاريخ، واستحضارنا لكل ما صاحبه من حراك ثقافي واجتماعي وأدبي، ليستوقف الخلود مصائر الفناء، ولينزع الوجود إلى مزاولة الحياة بعد حصول الموت والعدمية.



قال شاعر قديم:
ومن وعى التاريخ في صدره
أضاف أعماراً إلى عمره
ومن جديد نلتقط أنفاسنا لنستأنف رحلتنا مع الشاعر ياسين الزريقي، ويا لها من رحلة ممتعة! كيف لا تكون كذلك، وهي التي ترينا اليمن كوردة وحيدة في بقعة تحاصرها الأشواك من كل جانب. ومع هذا تبقى متفتحة جذابة وإن نزلت بفنائها سنون القحط، بادر أبناؤها ليجعلوا من شرايينهم جداول وأنهاراً لسقياها.
ودعنا عزيزي القارئ نجتذب لعينيك هذا النص الذي يحمل عنوان «نعم عاد بيتي»، كتبه الشاعر في الخامس من شهر نوفمبر عام 1996. ومن العنوان يتضح السياق العام لبنية النص، وتسير الأبيات المكونة لوحدة الموضوع التي يعبر عنها هذا النص، لتتشكل بعد ذلك القصيدة كلوحة فنية تحتوي اليمن كل اليمن. فهي التي يرمز إليها الشاعر بقوله: «نعم عاد بيتي».
ومن خلال الوقوف مع القصيدة لاستيعاب مدلولاتها، نستنتج إنها تحكي عن الوحدة اليمنية، لكن أي وحدة؟ هل هي ذلك الحلم المختزن ببذور تضحيات الثوار الذي تبارت في رحاب تعزيز الإيمان به قرائح الشعراء، وتناغمت مع الخُطى السائرة نحو تحقيقه أوتار الفنانين فاحتضنت القلوب معناه من عذوبة لحنهم؟
للأسف، لا.. فالثوار طوت صفحتهم المكونات النفعية، والشخصيات الانتهازية، وتقلد الأمر غير أهله، واستبدلت المصطلحات معانيها، وتبدلت المقامات نظراً لتبدل مقيميها، وعاد البيت، نعم، عاد جسداً دون روح، وأرضاً دون سكانها. وقد سبق شاعرنا الكثير من الشعراء في سبيل تعزيز هذه القناعة وترسيخ هذه الفكرة. وكان أبرز من تناول هذه المقتضيات التي تعبر عن الوحدة التي ولدت ميتة، الأستاذ عبد الله البردوني في كثير من قصائده، لعل أبرزها شمولية لموضوع الوحدة، وأدلها على فساد صانعيها، قصيدة «ثوار والذين كانوا» ومطلعها يقول:
أحين أنضج هذا العصر إعصارا
قدتم إليه عن الثوار أثوارا
أحينما أينعت أجنى تجاربه
وصّيتمو بحكيم الحكم قصارا
كيف انتخبتم له إن رام تنقية
مَن كان يحتاج حراثاً وجزارا
وافقتم اليوم ألا يدعي أحدٌ
تعاكساً بين باتيستا وجيفارا
ويبقى لكل شاعر ميزة تميزه عن غيره، وبعد موضوعي تقدمت به قصائده، وخصوصاً في موضوع الوحدة وما صاحبها من شواهد قوضت كل الأواصر الاجتماعية وفككت كل روابط الأخوة.
فالشعراء المتناولون لموضوع واحد يمثلون بدلة أوتار لآلة موسيقية واحدة. ولكل وتر صوت مختلف ومذاق خاص. 
وعلى هذا يمكننا التعاطي مع قصيدة «نعم عاد بيتي» التي بين أيدينا، محاولين تقديم تصور شامل عن الفكرة التي قامت عليها، وذلك بما يلي: 
أولاً: تشير القصيدة إلى حجم التزييف والمغالطات الناتجة عن ممارسات سلطة الوحدة، وذاك ما تجسده شعاراتها ويسعى لتعميمه أعلامها. حتى الأغاني والكلمات الشعرية باتت ترتدي وجه الحاكم القبيح وتجعل من سعاله مقام تهازج الطير، ومن حمقه باباً لدخول السعادة والخير. 
ثانياً: كيف تقام وحدة سقفها تعميم المعاناة، وقف الزمن عند حصولها عن الدوران، واستمر الحال على الثبات، فاستدام الويل، وساد الليل، سوى من تقديم قرابين جدد، يذبحون على شرف الوحدة والديمقراطية والجمهورية العفاشية العائلية الإخوانية، كلما تطلبت المرحلة ويبقى الدم اليمني مستمر الدفق والنزيف حتى تظل كؤوس الحاكم وندمائه عامرةً بما يوفر لهم ليلة سكراء يجترعون فيها دم الشعب، ويوفرون بنجيعهم ممكنات عمل الأقلام المأجورة.
ثالثاً: يصل الشاعر إلى خلاصة مفادها؛ أن زمناً جاء بمثل أولئك إلى السلطة، هو نذير شؤم أشبه ما يكون بزمن ماض تمكنت فيه الجرذان من تدمير أعرق حضارة في التاريخ، أما اليوم وقد أصبح الفأر بشراً ومنظومة حكم تمتلك القرار والقوة والإعلام والثروة، فهي لا شك ستكون أشد قدرة على التدمير.. تقول القصيدة:
وبعد جنوني وطيش المسير
إلى الحلم بالخطوة الثائرة
على صوت إيقاع لحنٍ مثير
يغني بقيثارةٍ ماكرة
على طرقٍ عز أن تستنير
ودرب محطاته حائرة
تبات على نور نجم ضرير
تعيد شعاراتها الغابرة 
وبعد نذور لحلم أثـــير
قرابينه لم تزل حاضرة 
وبعد دماء بيوم عسير
أريقت وما برحت سائرة
نعم عاد بيتي الرحيب الكبير
ولكن جدرانه خائرة
وأبوابه مثل جلدي حصير
وأخشابه أعظمي الناخرة
وأثاثه المقتنى والأجير
يُباع بلا قيمة ظاهرة 
سوى ما نراه بيد الصغير
رصيداً ومركبة فاخرة
تدوس الضعيف ورأس الفقير
على مشهد الأعين الساهرة 
نعم عاد بيتي يضم الكثير
خصوماً إلى مركز الدائرة 
ويفتح سبع كُوى، تستدير
بدون ستور من العابرة 
أخاف إذا زاد لفح الهجير
على البيت عاصفة عاصرة 
ومن حوله كل ذئب حقير
تربص أعينه الغادرة
وفي جوفه ألف جرذ خطير
يجوب مخازنه العامرة
وسُوسٌ إلى كل شيء تطير
تبدد أملاكه النادرة
نعم عدت حر الكلام المرير
وقد تشترى سبتي الساخرة 
نعم عدت حراً بفعلٍ أسير
تحاصره النقطة العاشرة
نعم عدت حراً بقلبٍ كبير
وعين إلى بؤسها ناظرة 
وعقل يخاف ظلام المسير
وروح تحلق فــــي الآخرة 
ومثلي وجوه الشقاء الأخير
أراها على حالها باسرة 
تخاف على الجنتين السعير تقود إليها خطى جائرة 
ونحن نقترب من المحطة الأخيرة عزيزي القارئ، استوقفنا نص يحمل في محتواه عبق الحرية، ويحطم قيود الدعة والهوان واليأس، مادّاً لشراعات الأمل، متخذاً من حقائق التاريخ قواعد وأسساً. معلناً نهاية زمن الهزائم ومجيء زمن الانتصارات. هذا النص يؤرخ لانتصار المقاومة الإسلامية في لبنان بقيادة حزب الله على الكيان الصهيوني عام 2000. 
ومدار تشكل النص يبرز الأفكار الباعثة تخليق أمة تتمثل الإسلام المحمدي الأصيل، وذلك بارتباطها بعلي عليه السلام سيفاً ويداً وكمالاً رسالياً، يعيش الإسلام كله عطاء وامتداداً جسّده حسن نصر الله وحزب الله، وهو بعنوان «الأبواق المحرجة»، وقد تمكن الشاعر فيه من تقديم المبادئ التي تقوم عليها الوجهة اليمنية، المنضبطة بالهوية الإيمانية، الجاعلة من اليمنيين روحاً يحيي جسد أمته، وجسداً يحمل أمانة الدفاع عنها، وشرف الوقوف مع أحرارها. ولعل انسجام النص وتماهيه مع ما ورد على لسان الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي عليه السلام حيث قال: بأن حزب الله هم من حفظ ماء وجه الأمة، يجعلنا نقر بأن الفطرة السليمة والقضايا الجامعة، تشكل القيمة الأسمى لشعبنا. كما يقدم الشاعر عبر استيحائه لثورة الأمام الحسين في كربلاء مصاديق جعلت حزب الله أقوم في إعادة الحق إلى نصابه وأمكن على مزاولة النصر. فرمال اللطف فاحت في ظلهم بربيع الحياة، ودم الحسين عزز لديهم عوامل العزة، فانتصروا دماً وسيفاً. 
كما يصور الشاعر حال الأنظمة العربية في تلك الفترة، كيف تبدت مخازيها وهي تنكمش في عيون الشعوب لتعلو صيحات المقاومة، وتنقاد الأمة ليعسوب الإيمان ومعدن الرسالة. وهكذا صمتت الأبواق وأشرقت الأرض بضوء نجم حسيني، ليتحدد ناظماً وقع خطى الأقدام وما تزاوله القلوب في استمرارية النبض بما توحيه كلمة «هيهات منا الذلة».
يقول النص:
قد جاء نصر الله تسنده الرجال 
بالنصر يصفع واثقا وجه المحال
نصر يُسَفّه كل بوق زائفٍ 
ويشد أزر الثائرين على الضلال
درسا يقدم للسلام نموذجا 
إن كان يفهم من يحارب بالمقال
درساً تخط بذي الفقار حروفه
كان الإمام به المعلم والمثال
***
سيف «الإمام» أرى الرجال تسله
وملائك الرحمن تمنحها الجلال
ودم الحسين يضج ملء عروقهم 
عزما تزلزل تحت وطأته الجبال
لم تنتزع ريح القفار وراءهُ 
كلا ولم تشربه كثبان الرمال
بل ظل في رحم السماء وديعة 
للثائرين إذا تصادمت النصال
***
يا أُسْدَ «حزب الله» هذا نصركم 
فجرٌ تلألأ في ليالينا الثقال
يا جند «حزب الله» أنتم أمة 
لا حفنة التهريب تسترها الظلال 
يا جند «حزب الله» أنتم بلسم
والضرُّ في أوصال أمتنا عُضال
كنا نظن المعجزات تبددت 
في أمة أودى بهيبتها الهزال
فإذا بنصركم المظفر آية 
كبرى على درب العقيدة في القتال
ساءت وجوه الخاضعين تزلفا
للغرب يُسقون الهزيمة والوبال
جعلوا السلام مع الأعادي جنة 
تخفي الخيانة والهروب من النزال
حتى مقاليع الحجارة حُطِمت 
بيد تدافع عن رموز الاحتلال


(*) البيت بين القوسين من شعر المتنبي.