علي نعمان المقطري / لا ميديا -

كان الألمان نهاية العام 1944م قد واصلوا تراجعاتهم غربا بعد هزائمهم المتوالية حتى أقاموا خطا دفاعيا متعدد الخطوط بما بقي لديهم من قوات وما عززوه من احتياطات وما سحبوه من قواتهم التي كانت متواجدة في الغرب.
وكان هذ الخط الدفاعي الضخم قد حشد خلفه على طول الجبهة السوفييتية ـ الألمانية ـ البولندية المشتركه أكثر من 3 ملايين جندي ألماني بكل المعدات والدبابات والمدافع والطائرات.
كان على السوفييت أن يخترقوا هذا الخط الدفاعي بنجاح، وأن يتوغلوا في العمق الألماني نحو العاصمة حيث تنتظرهم المعارك المصيرية النهائية، غير أن اختراق هذا الخط لم يكن بالأمر الهين، وهنا تبرز من جديد عبقرية وقوة إرادة القائد السوفييتي جوكوف، فقد كان يرى أن يكون الاختراق والهجوم ليلا للتقليل من الخسائر المحتملة التي ستنزلها المدافع الألمانية بقواته (السوفييتية) المهاجمة، وكان عليه أن يحدد بنجاح أين يكمن الاتجاه الرئيسي للقوات الألمانية؟ وعلى أي المحاور القتالية تتركز وتتجمع؟ من أجل الالتفاف عليها والنفاذ إلى مؤخراتها.
وكان عليه أن يموه على العدو بأنه لا يعرف يقينا أين تكمن قواته الضاربة الرئيسية وفي أي اتجاه، ولذلك اتبع مجموعة من الخطوات والتكتيكات، أهمها أنه قام بإنشاء 3 جبهات غربية موجهة لاختراق ألمانيا والحدود الألمانية، كل منها يسيطر على قطاع من الحدود، وهذه الجبهات هي:
1 ـ الجبهة الأوكرانية الغربية الأولى.
2 ـ الجبهة الأوكرانية الغربية الثانية.
3 ـ الجبهة البيلاروسية الشمالية الغربية.
وكانت كل جبهة لها مهمة معينة، فالجبهة الأوكرانية الغربية الأولى كانت مهمتها أن تخترق العدو من أمامه مباشرة، ومهمة الجبهة الأوكرانية الغربية الثانية أن تلتف على العدو من جناحه الأيمن، أما الجبهة البيلاروسية فمهمتها أن تلتف على العدو من جناحه الأيسر.
وقد افتتح جوكوف الهجوم بمناورة استراتيجية مذهلة لم يتوقعها العدو، إذ اتجهت القوات السوفييتية لاحتلال وارسو عاصمة بولندا قبل الاختراق للحدود الألمانية السوفييتية، مما قطع القوات المتواجدة غرب وارسو عن أخواتها في الشرق، وبهذا شكل الخابور الرئيسي الأول لقوات العدو.
وعندما أصبح أمام الهجوم المباشر على الخطوط الألمانية فكر جوكوف في حيلة رهيبة، حيث ركب على الطائرات والشاحنات والدبابات والمدرعات كشافات كبيرة جداً تسلط ضوءها على المواقع الألمانية مباشرة خلال الهجوم، حتى يتعذر على الجنود الألمان الرؤية ليلا بوضوح، مما يضعف قدرتهم على دقة التسديد بالمدافع والرشاشات على القوات المهاجمة،  كما أبدع حيلة أخرى بهدف إرهاب العدو ومضاعفة مخاوفه بواسطة المولدات الكهربائية والموتورات الصوتية التي ركبها فوق العربات والدبابات والمدرعات لمضاعفة الضجيج والأصوات، مما يوحي بأن هناك زيادة في أعداد الآليات المتحركة.
استغلال الأضواء والأصوات بطريقة تكتيكية جديدة أرعبت العدو وضخمت من تقديراته لأعداد القوات السوفييتية المهاجمة، ما أدى إلى إضعاف معنوياته وخلخلة صفوفه، وأسهم في الإسراع في التراجع نحو العاصمة الألمانية بعد تكبدها خسائر فادحة على الحدود، وتحقق للسوفييت لأول مرة اختراق الحدود الغربية نحو ألمانيا وعاصمتها التاريخية بقيادة المارشال جوكوف.
فقد الألمان في هذه الملحمة الكثير من القوات، حيث قتل نحو مليون جندي، إضافة إلى الكثير من الجرحى، وتم تدمير آلاف الدبابات والطائرات والمدافع، وتراجعت بقية القوات باتجاه العاصمة، حيث أعادوا تنظيم قواتهم حول العاصمة وأمامها وفي داخلها لتكون المعركة الأخيرة الانتحارية، وقد جمعوا حوالي مليوني جندي ومقاتل ليخوضوا معركة الدفاع عن العاصمة، وكانت هذه القوات هي الاحتياطية الأخيرة المتوفرة.
كانت القوات الشعبية الثورية في البلاد الأوروبية المحتلة تنتفض ضد الغزاة وتدعم حرب السوفييت ضد الألمان المحتلين في حرب تحررية مشتركة عبر الجبهات الشعبية التحررية بقيادة التنظيمات الثورية اليسارية العمالية الفلاحية التي شكلت الجيوش الشعبية التحررية من المتطوعين الوطنيين ومن المنظمات الثورية التي كانت تنشط خلف خطوط الغزاة مستندة إلى الغابات والجبال وفي المدن والأحياء الشعبية والضواحي، وتحولت إلى قوة جبارة. تلك الجيوش الشعبية المتحالفة مع السوفييت وفرت كل المساعدات اللوجستية والأمنية للقوات السوفييتية وهي تتقدم نحو العاصمة الألمانية، وتحرر البلاد الأوروبية المحتلة في طريقها.
وكانت قد لمعت أسماء قادة وطنيين ثوريين وتحرريين نظموا شعوبهم في حرب الشعب الوطنية بدعم سوفيتي، ومنهم اليوغسلافي الجنرال تيتو، والبلغاري جيفكوف، والألماني جون راديك، والألباني أنور خوجة، وغيرهم.

بعض التساؤلات المتأخرة
هل كان أمام هتلر خيارات أخرى غير الخيار الذي وصل إليه وتكبده خسائر فادحة؟ لأن العديد من الباحثين العسكريين الألمان وغيرهم من الغربيين يرون أنه لولا القرارات المهلكة للقيادة الألمانية كان من الممكن تجنب كل تلك الهزائم الكبرى التي قادت في النهاية إلى انهيار برلين الكبير.
فالواقع كان يقول بأن القيادة الألمانية تمتلك مستوى عالياً من المهارة والحرفية والكفاءات العسكرية، ولكن هزائم الألمان لم تتحقق بسبب نقص قدراتهم العقلية والمادية ولا ضعف كفاءة قياداتهم المشهود لها بالقدرة، وإنما لأسباب أخرى تفوق كل قدراتهم ولا قبل لهم بها، ليغيروها أو يلغوها أو يبعدوها عن طريقهم، وأهمها:
1 ـ الشعب السوفييتي كان أقوى إرادة وشجاعة واستعداداً للموت والتضحية في سبيل قضيته العادلة، وهي تحرير وطنه، أما الأمة الألمانية فقد كانت في وضع المعتدي الغازي الظالم الجائر الطامع، ولذلك كانت أضعف معنويا وأقل صبرا وجلدا واستعدادا للموت في سبيل أرض ليست لها.
2 ـ قدرة السوفييت على تحمل خسائر بشرية أكبر، فقد كانوا كقوة بشرية أكثر بثلاثة أضعاف السكان الألمان، فحين جند الألمان 11 مليون جندي لغزو العالم، كان السوفييت قادرين على تجنيد 30 مليونا تحت السلاح، فمقابل ألماني واحد هناك 3 سوفيتيين، فقد كان عدد السكان الألمان لايزيد عن 40 مليونا؛ ربعهم تحت السلاح، وهو عدد أقل بكثير مما يستطيع السوفييت تجنيده.
3 ـ كان السوفييت في مستوى عالٍ من القدرة على إنتاج أسلحة ومعدات عسكرية ودبابات ومدرعات وطائرات، ويمتلكون موارد محلية غنية ومتوفرة بكثرة من نفط وخلافه.
5 ـ انهيار الألمان لم يكن بفعل ضعف قدراتهم المادية والاقتصادية، بل بضعف الجوانب المعنوية والأخلاقية والوجدانية.

فقدان الإيمان بالقضية لظهور كذبها
كان الحماس المعنوي الوجداني من أهم عوامل التعبئة الحربية الألمانية والانتصارات التي حققتها القوات النازية في بداية الحملة الصليبية الجديدة، ولكن مشكلة الألمان كانت تكمن في أن تعبئتهم المعنوية قائمة على الأكاذيب والتزوير والتضليل والأساطير العنصرية المتطرفة والخرافات، ولذلك سرعان ما انهارت أمام انبلاج صبح الحقيقة الواقعية وشمسها الغراء، فلم تصمد حركتهم الدعائية الأيديولوجية التي كانت متوهجة في البداية، وكان فيها ما يشير إلى الانحلال والسقوط الأخلاقي المعنوي للألمان ولقضيتهم الفارغة الجوفاء المزورة، ليتضح أن قضيتهم غير حقيقية حتى أمام الألمان أنفسهم في ما بعد، وبخسارتهم المعنوية الوجدانية خسروا معارك كسب القلوب والعقول والنفوس والأرواح، ومهدت لخسارة الميادين على الأرض.
    
هزيمة الألمان في نظر المشعوذين الغربيين: أسطورة الشتاء الروسي القاسي
لو قارنا بين خسائر الأمريكيين والإنجليز والفرنسيين في الحرب العالمية الثانية من جهة، وخسائر السوفييت والألمان من جهة أخرى، فسنجد أن خسائر الأولى قليلة جدا ولا تتجاوز 50 ألف قتيل للدولة الواحدة منهم، بل ربما أقل من ذلك، بينما خسائر القوتين الرئيسيتين المتحاربتين السوفييتية والألمانية تبلغ أكثر من 50 مليون قتيل من الجانبين، نصيب السوفييت منهم قرابة 30 مليوناً، ونصيب الألمان 11 مليوناً، والباقي من نصيب الأمم الأوروبية المحتلة وغيرها.
حقق الألمان إنجازات عسكرية هائلة في البداية، وسيطروا على مساحات واسعة، وحاصروا أهم المدن والعواصم السوفييتية، وقتلوا ملايين الجنود والمواطنين السوفييت، وأحرقوا ودمروا آلاف المدن والقرى والبلدات السوفييتية، خصوصاً خلال العامين الأولين من العدوان.
ولم يقل أحد إن البرد القاسي كان عقبة أمام تقدم الألمان الذين استعدوا للعدوان والاجتياح بكل شيء، بما فيها المعاطف الفرائية باهظة الثمن، وأعدوا كل الأدوات لمواجهة برد الشتاء، فلم يكن الشتاء الروسي مفاجئا، فالأجواء الشتوية الباردة عامل مشترك مع ألمانيا وبقية الدول الأوروبية، وإن وجدت بعض الفوارق البسيطة، إلا أن القارة واحدة ومناخها متقارب.
فالشتاء كعامل سلبي في الحرب يضر الطرف السوفييتي الذي كان بحاجة للاستعداد والتجهيز لمواجهة العدو الذي فاجأه بالغزو، بينما لم يكن عاملاً سلبياً للطرف الألماني الغازي وهو المستعد والثري الأشر، فقد كانت الحرب في روسيا هي في جوهرها حرب الأغنياء ضد الفقراء، الحفاة الجائعين المظلومين المحاصرين من البلاد الأوروبية الغربية كلها.
إن مشكلة المحللين الغربيين حينها تشبه مشكلة المحللين السعوديين والخليجيين والغربيين اليوم في تفسيرهم للحرب الوطنية اليمنية ضد الغزو الأجنبي.
فالغربيون ظلوا خجلين من موقفهم ودورهم الضئيل في الحرب، ومع ذلك يتنطعون قائلين إنهم هزموا هتلر وألمانيا النازية، ويريدون تجاهل الدور الحقيقي للسوفييت في الحرب العالمية الثانية والحرب الوطنية التحررية لشرق أوروبا، ويمارسون أسوأ العادات في تزوير التاريخ دون خجل، عملا بنصيحة الألماني النازي غوبلز القائلة: «اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس أو يبقى من كذبك شيء».