علي نعمان المقطري / لا ميديا -

بعد النجاحات العسكرية الضخمة التي حققها، خصوصاً في معارك لينينجراد وموسكو، حظي الجنرال جوكوف بتقدير وثقة القيادة العليا للدولة التي منحته رتبة مارشال الاتحاد السوفييتي، وتم تعيينه نائباً أول للقائد الأعلى السوفييتي جوزف ستالين، وأصبح المشرف المباشر على مجريات ميادين الحرب الكبرى.

بعد أن تعرضت ستالينجراد للحصار، اضطر ستالين إلى تعيينه قائدا لجبهات ستالينجراد مع تمتعه بصلاحيات القائد العام الأعلى ووضع عدة جبهات احتياطية تحت قيادته مباشرة لاستخدامها في كسر حصار القوات الألمانية للمدينة البطلة.
كانت الفكرة الاستراتيجية الألمانية هي أنهم ماداموا قد خسروا المعركة الرئيسية في موسكو، وتراجعوا عن أسوارها مدحورين دون أن تتم مواصلة تدميرهم بالمطاردة والتحول إلى الهجوم من جانب السوفييت الذين لم يكونوا على استعداد لهذا الأمر.
ولأنه تم دحر الألمان وليس سحقهم، فقد سمح لهم ذلك القيام بمحاولة الالتفاف من جبهة أخرى، وهي الجبهة التي تتحكم بمسارات إمداداتهم ومواصلاتهم البرية والبحرية وبقواعدهم الاستراتيجية وبصناعاتهم الحربية التي كانوا قد نقلوها نحو الشرق، ولذلك أراد الألمان أن يقطعوا موسكو عن شرايينها وقواعدها ومصادر دعمها وقواتها ومنابع تحشيدها وجندها وخطوط اتصالها بالعالم الخارجي وبحلفائها وأصدقائها وقطع خطوط البترول القادمة من الشرق، أي أن الغازي أراد أن يخوض المعركة الرئيسية الكبرى على ساحتين ومرحلتين، حصار العاصمة من منطقة أبعد في مؤخرتها، منطقة حاكمة متحكمة، بيدها مصير العاصمة، وهي مدينة ستالينجراد، وفي حال تمت السيطرة عليها فسوف تصبح معركة العاصمة سهلة ويسيرة بعد حصارها وعزلها التام عن مصادر قوتها، وكانت تلك مقامرة كبرى خاضها هتلر والقيادة الألمانية بتهور شديد أدت في نهايتها إلى حصار الألمان وقطع خطوط مواصلاتهم وسحقهم بشكل كامل ما بين قتلى وجرحى وأسرى.
فما الذي أوقع بالألمان تلك الهزيمة القاسية؟
أهم عوامل تلك الهزيمة القاسية هي كونهم غزاة محتلين لروسيا التي كانت تكبرهم سكانيا وبأضعاف عدد قواتهم الغازية، كما أن معنويات الروس كانت مرتفعة وعقيدتهم حماسية قوية إلى أبعد الحدود عكس الألمان.
صحيح أن الألمان كانوا يمتلكون أفضل القوات والأسلحة في العالم، لكنهم في النهاية كانوا مجرد غزاة في أرض غريبة وبين سكان معادين لهم محبين لوطنهم مقاتلين شجعان ليس في أوروبا كلها مثلهم، كان الغازي يراهن على أن يحقق الانتصار في حرب خاطفة والخصم لم يفق بعد من آثار الضربات الأولى الصادمة المروعة.
كانت ستالينجراد منطقة مثالية إلى أبعد الحدود لاستدراج الغازي للزج بأغلب قواته ثم الإطباق عليها من كل الجهات وحصاره.

نصر ستالينجراد الكبير
من المهم في البداية معرفة ما الذي فعله جوكوف ولم يكن بمقدور غيره من القادة الذين سبقوه فعله؟
حين نتأمل مجريات الحروب بعمق وانتباه نجد أن الجنرال جوكوف حقق ما يشبه المعجزات والخوارق بنفس الإمكانات المتوفرة، مفاجئا الألمان والروس في وقت واحد، فالإجراءات التي اتبعها ليست جديدة في تاريخ الحروب، وإنما الجديد تلخص في مجموعة عناصر استخدمها لصالحه وفي خدمته، أبرزها قدرته في كل لحظة وظرف معين على تحديد التحدي الأكبر وما يطابقه من إجراءات مضادة إيجابية أو سلبية والاستعداد المسبق في توفيرها والدفع بها في الوقت المناسب دون تأخير أو تقديم، أي معرفة العناصر المطابقة للموقف الملموس أو ما يعادلها ويكافئها على ضوء الأصول العسكرية الحربية.

معارك كورسك في بيلاروسيا
سعة الحيلة التي يتمتع بها أي من القادة العظماء في التاريخ، ومنهم الجنرال جوكوف، تجعله يتعلم ويستفيد من أبسط المظاهر والتجارب والخبرات لدى الآخرين، من الجنود والناس العاديين في حياته اليومية، وأن يستفيد من خبراتهم وإنتاجهم، ويضيفه إلى مجاله، ومثال ذلك أن جوكوف وهو على مشارف بيلاروسيا السوفييتية والمعركة الكبرى للدبابات الألمانية تنتظره على أبواب المدينة والعدو ينتظره أن يأتي إليه من الشرق، فليس هناك طريق آخر، لذلك كان مصمما أن يأتي من حيث لا يتوقع العدو من جهة المستنقعات حيث العدو لايركز عليها قوات كبيرة، لأنها منطقة غير صالحة للعبور، وقد لاحظ أن أحد الجنود يلبس حذاء غريب التركيب صنعه من لحاء بعض الأشجار في الغابة يساعد منتعله على الطفو فوق مياه المستنقعات، وبعد أن تحقق من الحذاء أمر من فوره المؤسسات المعنية بصناعة كميات كبيرة من هذه الأحذية الخاصة التي تطفو فوق مياه المستنقعات، وتم عبرها حمل الأسلحة والمعدات والدبابات ونقلها إلى الجهة التي منها شن الهجوم الكبير المفاجئ، وحقق المفاجأة الكبرى التي تم خلالها تدمير آلاف الدبابات الألمانية في أكبر معركة للدبابات في التاريخ.
كما تميز جوكوف بقدرته على تجزئة المعارك الكبرى إلى مراحل ومعارك عدة ليتم خلالها تدمير العدو على أقساط ومراحل تفصل بينها فترات تطول أو تقصر حسب الظروف الماثلة.

فصل تدمير دبابات العدو عن تدمير مشاته
عشية معارك كورسك في بيلاروسيا أدرك الجنرال جوكوف وفقا للمعلومات التي تجمعت لديه أن العدو ورغم الخسائر والهزائم التي تلقاها في ستالينجراد وموسكو وغيرهما، فإنه مايزال لديه مخزون ضخم من الدبابات والقوات المدرعة، وقد اتخذ مواضع الدفاع الاستراتيجي أمام تحول السوفييت إلى الهجوم العام، مما يجعله في وضع دفاعي أفضل في مواجهة السوفييت المهاجمين، وهذا يمنحه ميزة استراتيجية هي حفاظه على مدرعاته ودباباته وآلياته بينما تكون قوات السوفييت في وضع مكشوف أمامه، ولذلك قرر جوكوف أن يبدأ السوفييت أولاً بتدمير الدبابات الألمانية الضخمة العدد قبل تدمير القوات الراجلة التي ستصبح حتما في وضع بائس وقابل للتدمير بسهولة أكبر، وهكذا وجه جوكوف أسلحته الضاربة ضد الدبابات والمدرعات في المرحلة الأولى من الهجوم بتركيز ثقل أغلب القوات السوفييتية عليها وبهدف منعها من المناورة وتدميرها في مواقعها وحرمان الألمان من استخدام مزاياها القتالية الحركية.
وقد نجحت مناوارات جوكوف نجاحا كبيرا، وتم تدمير آلاف الدبابات الألمانية في معارك كورسك الشهيرة والأضخم في التاريخ، فلم يسبق من قبل أن تم حشد مثل ذلك العدد من الدبابات، كما لم يسبق أن تم تدمير عدد كبير من الدبابات كما حدث في معركة كورسك.
وقد تمت هذ الانتصارات خلال مرحلة تراجع الألمان غربا بعد خسارتهم ستالينجراد وانتكاستهم بصورة واضحة، ليدركوا بعدها أنهم قد خسروا الحرب العالمية الثانية من حيث الجوهر ومن حيث القوة، وأن ما بقي من معارك ما هي إلا خطوات على الطريق الذي رسمت معالمه هناك، وكانت الحرب في الغرب الأوروبي قد استقرت على سيطرة كاملة للألمان، لكن معارك موسكو وستالينجراد وكورسك كانت تجبر الألمان على سحب المزيد من القوات من الغرب نحو الشرق، ومعنى هذا أن الألمان كانوا قادرين على إرسال الكثير من القوات للتعويض على خسارئرهم ومنع انهيارهم الكبير، وحتى العام 1944م كان السوفييت يقاتلون منفردين تقريبا، فدول الغرب لم تسارع إلى فتح الجبهة الثانية والإنزال على سواحل النورماندي الفرنسية إلا عندما تيقنت من أن النصر السوفييتي أصبح حتميا، فقد انتظر قادة الغرب إلى أن يتأكدوا لمن هي الغلبة بشكل كامل ونهائي، فقد كانوا يأملون أن تتطاحن القوتان مما يسمح للدول الغربية بأن تسيطر على ألمانيا قبل وصول السوفييت إليها، أو أقله على القسم الغربي منها، وهو الأكبر مساحة والأكثر سكانا وصناعة واقتصادا، لذلك انتظر قادة الغرب حتى نهاية المعارك الكبرى من الحرب.