كليلة ودمنة يمانية.. الترميز بالطيور والحيوانات للبشر
«"يا حمامـي أمانة مـا دهـاك»"

حسن الدولة / لا ميديا -

حمينيات القاضي عبدالرحمن الآنسي «يا حمامي أمانة ما دهاك»، هي إحدى غرر قصائد الغناء الصنعاني اليمني، فهي من تلك الأغاني التراثية التي لا تبلى مع الزمان، بل تزداد جدة وتألقاً وتأنقاً وجمالاً وروعة ورقة، وفيها من الشجن ولوعة الفراق. وسواء كان الخطاب موجها إلى الحبيبة على الحقيقة أم المجاز، إلا أن الواضح أنه استعار لفظ الحمامة ليخاطب محبوبته؛ التي انتقلت من حيث الأمان لتلاقي حتفها على يد الأمير الجلف الذي اختطفها..

فحسب الرواية التي يتداولها أهالي صنعاء أن أحد الأمراء الذي كناه الشاعر ب"الباز"، اختطف الفتاة التي رمز لها ب"الحمامة"، وهذه الفتاة كانت فائقة الجمال، وفنانة ذات صوت رخيم جميل يخطف الألباب، وقد نصحها الشاعر بعدم إظهار جمالها وحسنها وروعة صوتها حين تشدو بأعذب الألحان؛ لأن ذلك الأمير مولع بالجميلات. لكن الفتاة لم تستمع لنصحه، فما إن طلب منها ذلك الأمير أن تحضر في مناسبة زواج للغناء، لبت الدعوة، فأغرم بصوتها وطلب الزواج منها، إلا أنها رفضت، فاختطفها وحاول أن يجبرها على الزواج منه بالقوة، لكنها عاندته ورفضته، بل هددت بأنها ستفضحه عند إمام ذلك العصر، وأمام الناس إن هو اختطفها بالقوة. فخاف ذلك الأمير على سمعته فهددها بالقتل إذا لم تلب رغبته، وأشهر "الجنبية"، وفي لحظة غضب طعنها فلقيت حتفها، فكتب الشاعر الذي كانت مغرمة به وهو مغرم بها، وقد كانت تريد الزواج منه وكانت تطربه بصوتها الفتان "كنت تسجع ويطربنا غناك"، وقال إنه نصحها قبل ثمان (أي ثمانية أيام)، وأن ما قال لها حصل لها فعلاً حين "طارت من حيث الأمان"، فسقاها ذلك الباز -الأمير- "كاس الحِمام"، فخاطبها "شلك الباز من بين اخوتك"، ثم تمنى لذلك الباز الهلاك "قادر الله يهلك من أذاك"..
والقصيدة من أجمل القصائد الحمينية، وتعد من روائع الغناء الصنعاني، ورحم الله العلامة العم أحمد محمد الوزير، رئيس محكمة استئناف محافظة الحديدة الأسبق، فقد وجدته ذات يوم في محل استريو الآنسي، الذي كان في أول شارع جمال من جهة ميدان العلفي، وقد غطى على العمامة بالشال فعرفته؛ فسلمت عليه، فقال لي: إنه جاء لشراء شريط أغنية "يا حمامي أمانة ما دهاك طرت من بقعتك حيث الأمان"، أداء وغناء محمد حمود الحارثي، فطلبت مثله نسخة أيضاً، وكان ذلك أول عهد لي بسماع تلك الأغنية التي ظللت أستمعها ولازلت، وفي كل مرة أشعر أنني أستمع إليها لأول مرة.
فالأغنية تعد خلاصة تجربة حياة غنية في هذا الفن الرقيق، ما جعلها قريبة إلى القلوب، لطيفة في الأسماع، يستريح البال حين سماعها. وهناك من يخرجها عن مقصد الشاعر إلى تلك الرواية التي سقناها.. رغم أن الكاتب يميل إلى تلك الرواية، سواء صحت أم لم تصح، فمن الثابت أن الشاعر يحمل الصبية - الحمامة - جزءاً مما آل إليه مصيرها، فيقول لها: "طرتي من بقعتك حيث الأمان"، ولم يكن يعلم أنه سيأتي يوم يقودها مصيرها "إلى بحر الهلاك". ثم يواصل الشاعر بيان قصة محبوبته في هذه القصيدة التي اتخذت من الرمز الشفاف ستاراً لها، فالصبية تنتمي إلى عالم الفن الساحر بصورة من الصور، حيث تتجاذب الأرواح وتتعلق ببعضها. ومن كالشعراء يصيبهم سحر الفن والجمال في مقتل! فإذا اختفى من أمام نواظرهم استحضروه من الخيال أضعافاً مضاعفة:
شلك الباز من بين اخوتك
حين عرف أن قد هي ساعتك
لو سمع يا حمامي نغمتك
كان شا يفلتك من قبضته
غير أجرى دمك من مقلتك
أسأل الله يعمي مقلته
قادر الله يهلك من أذاك
واحرمك طيب عيشك ثم خان
والملاحظ أن الشاعر القاضي عبدالرحمن الآنسي كان يتأمل صروف الزمان وما تخبئه الأيام للإنسان من أحداث جسام، وكشاعر يعيش بكل أحاسيسه أحزان الناس وآلامهم. وما قصيدته الموسومة ب"يا حي يا قيوم" إلا خير شاهد على تلك الحال التي كانت تعتصر قلبه ألماً وحزناً على أحوال شعبه، فيقول: "أسألك يا رحمن أن تذهب الأحزان/ وتداوي بالصلاح داء الفساد/ قد ضاقت الأحوال/ وضاع الاجتهاد والاحتيال"..
فها هو يعلن حزنه على الحمامي الذي كان غافلاً أو كالغافل، فوقع في الشراك التي تورده موارد الهلاك: "خانك الدهر يا سيد الحمام/ هكذا الدّهر حكمه في البشر/ و.... لا حذر يا حمامي من قدر".
وبعد أن استوفى الآنسي المنطوق العام لأقدار الحياة، استدار للإمساك بتلابيب المجرم. وهو  كأي قاضٍ  لا يستطيع أن يحيل القضية المعروضة أمامه إلى الأقدار التي لا يعرف كنهها أحد، أو يحمل غير الجاني فعل الجاني، عملاً بقوله سبحانه: "ولا تزر وازرة وزر أخرى". ومع الأسف، فإن محكمة الآنسي ليس في يدها إصدار حكم قابل للتنفيذ على عادة الجبابرة، فأحال الأمر إلى قاضي القضاة الذي لا تعزب عنه خافية. ومن وكل الله فقد استوفى لنفسه وانتصف لغيره:
"خضب الكف منّك بالدما
ونثر طوق جيدك في يديه
واستباح في الحمى قتلك هما
فالقضاء والقدر ساقك إليه
عذبك، عذبه رب السما
وانتصف لك ووراني عليه
بسهام المنية قد رماك
لابرح طول دهره في هوان"
ومن وجع المغدورة والحقد على الغادر، ينتبه الشاعر المرهف، المشبوب الوجدان، إلى حاله، فهو ضحية أيضاً في هذه المأساة. فالصبية قد ردت أمانتها إلى بارئها، والغادر بقي متسربلاً بجرمه في انتظار القصاص الإلهي الذي لا يرد وليس له من دافع!
أما الشاعر فقد بقي وحده يعاني من لوعة الفراق الأبدي، وصبابة العشق ولوعات الفراق، وألم الخديعة والخيانة، يعاتب قلبه الذي همدت لوعته وحزنه وأساه، فيقول:
"وأنت يا قلب ما لك ما سليت
قد كفى لك بعشقك والهيام"
ولكن، هل يكف القلب عن الوجيب؟ أم يسير على خطى ولادة بنت المستكفي:
"ولو أني غمضت عليك عيني
إلى يوم القيامة ما كفاني"
من أجمل الكلمات التي تغنى بها مطربو صنعاء اليمن، والتي لازلنا نستمع إليها بإحساس يفوق الشرح، ويعجز الوصف عن رسمها، لها رونق غامض بغموض سر أُحجيتها التي قصها علينا العلامة عبدالرحمن يحي الآنسي في قصيدته على النحو التالي:

يا حمامي أمانةْ ما دهاكْ
 طرت من بقعتكْ حيث الأمان
سقت نفسكْ إلى بحر الهلاكْ
 ما تخافْ من صروفات الزمانْ
كنت مُبْرِدْ ومُتْنَفِّسْ هناكْ
 كلّ ساعةْ تِخَطَّرْ في مكانْ
وأنت تسجَعْ ويطربْنا غناكْ
وافترقنا وما قد لك ثمانْ
بيت
خانك الدهر يا سِيد الحَمامْ
 وانزلكْ من محلّكْ والمقرْ
وسقاكْ من يده كاس الحِمامْ
هكذا الدهر حكمهْ في البشرْ
قد نهيتكْ وما تمّ الكلامْ
 لا حَذَرْ يا حمامي من قدَرْ
أوقعكْ قِلّ فهمكْ في شباك
 المنايا فكم ذا الامتحانْ
شلّك الباز من بين اخوتكْ
 حينْ عرفْ أن قد هِيْ ساعتهْ
لو سمعْ يا حمامي نغمتكْ
 كان شا يفلتكْ من قبضتهْ
غير أجرى دمكْ من مقلتكْ
 أسأل الله يعمي مقلتهْ
قادِرَ الله يهلكْ من أذاكْ
 واحرمكْ طيب نومكْ والأمانْ
خضّب الكفّ منّكْ بالدما
 ونَشرْ طوق جِيدك في يديهْ
واستباح في الحمى قتلكْ هَما
 والقضا والقَدَرْ ساقكْ إليهْ
عذّبَكْ عذّبهْ ربّ السما
 وانتصفْ لك وورّاني عليهْ
بسهام المنايا قد رماكْ
 لا بَرَحْ طول دهرهْ في هوانْ
وانت يا قلب ما لكْ ما سليتْ
 قد كفى لكْ غرامك والهيَامْ
وانت ذاكرْ وإلاّ قد نسيتْ
 قال مَن، قلت لهْ نسل الكرامْ
قال والله وراسكْ ما نسيتْ
 إنّما ضرّني كثر الغرامْ
قلت يا قلب هل يسمحْ بذاك
 لا بَرَحْ في السعادة والأمانْ
الوجيه من زكا أصلهْ وطابْ
معدن الجود محمود الخصالْ
أسأل الله ربّي بالكتابْ
يحفظهْ بالمثاني في أزالْ
وصلاتي على عالي الجنابْ
الممجد وصحبه ثم آل