غازي المفلحي/ لا ميديا -

كان اليمنيون والعرب قديماً يشدُّون رحالهم، بعد قضاء مناسك الحج والعمرة، نحو الأراضي المقدسة في فلسطين لإكمال شعائر الحج في المسجد الأقصى، القبلة الأولى للمسلمين والحرم الثالث، وبوصلة النضال العربي والإسلامي اليوم، في طقوس ومناسك إسلامية وعربية وقومية كانت تبجل المسجد الأقصى وتوحد الهوية الإسلامية وتعلم الأعداء الصهاينة أن فلسطين ليست أرضاً متروكة أو منسية.

الطواف بزهرة المدائن
للمسجد الأقصى وفلسطين مكانة مقدسة عند المسلمين بكونها جزءاً من عقيدتهم وتاريخهم وحضارتهم، استناداً إلى القرآن الكريم والأحاديث النبوية والتاريخ العربي والإسلامي، فهي أرض الإسراء والمعراج ومهد الرسالات السماوية السابقة، وهي أولى القبلتين وثالث الحرمين. وعند ولادة الإسلام المحمدي في مكة بقي المسجد الأقصى قبلة للمسلمين لمدة 16 شهراً، قبل أن تنقل القبلة إلى مكة المكرمة بأمر إلهي. لذا كان الحجاج اليمنيون والعرب قديماً يقومون بزيارة بيت المقدس بعد أداء فريضة الحج، تقديساً وتعظيماً لهذه البقعة المباركة، حيث لم تكن مراسم الحج تكتمل بالنسبة لهؤلاء الحجيج إلَّا بزيارة القدس والتبرُّك بزهرة المدائن. واستمرت هذه الزيارات التقديسية حتى نهاية الستينيات.
تقول الكاتبة الفلسطينية حياة ربيع في حديثها لـ"لا": "كان كثير من العرب والمسلمين يزورون المسجد الأقصى بعد الانتهاء من أداء مناسك الحج، للقيام بما يسمى "تقديس الحجة"، وهي عادة عربية إسلامية استمرت منذ عهد الإسلام الأول حتى توقفت في العصر الحديث بعد نكسة عام 1976 واحتلال باقي مدينة القدس (القدس الشرقية) من قبل الكيان "الإسرائيلي" الذي منع هذه الزيارات، كما امتنعت الدول العربية بدورها عن الاستمرار أو المطالبة باستمرار تسيير هذه الزيارات، كنوع من المقاطعة للكيان الصهيوني، لأن الزيارة تتطلب تأشيرات صادرة من سلطات الكيان المحتل الذي لا يعترفون بأختامه وتأشيراته".
كان الحجاج والزوَّار يختتمون أشواط الطواف السبعة في مكة بالطواف بقلوبهم وعيونهم قبل أجسادهم بين المعالم الإسلامية في بيت المقدس؛ والتي يصل عددها إلى 200 معلم، بالإضافة إلى 50 مدرسة تاريخية إسلامية و25 مسجداً أثرياً. وكان أهالي القدس يستعدون لاستقبال الحجاج بالترحاب والحفاوة والكرم، ويتم طلاء جدران المنازل والأحياء بلون واحد، هو الأبيض غالباً، وتزيينها برسومات الورود والنخيل والأهلة وأشكال الكعبة، يكتب عليها عبارات مثل: "حج مبرور وذنب مغفور وتجارة لا تبور"، و"أهلاً وسهلاً بحجاج بيت الله الحرام"... وهي رسومات ولوحات لا تزال آثارها في جدران مدينة القدس حتى اليوم، لكن هذه العادة انتهت، وتوشك قداسة المسجد الأقصى ومكانته لدى الشعوب المسلمة أن تتلاشى، بسبب انبطاح الأنظمة العربية وفتاوى الوهابية والجهود الاستعمارية للكيان الصهيوني ورعاته أمريكا وبريطانيا لتغيير معالم فلسطين وتاريخها وحضارتها الإسلامية والعربية.

فوائد وأهداف الزيارة
قبل أن تسقط فلسطين بيد الاحتلال الصهيوني وقبله البريطاني، كانت زيارة بيت المقدس بعد أداء فريضة الحج نوعاً من تقديس المسجد الأقصى وتعظيم مكانته بين المساجد والبقاع المقدسة بالنسبة للمسلمين. أما زيارته في أوقات أخرى فإلى الأسباب التي سبقت، يضاف كون القدس مدينة مهيبة الجمال والعمران والقداسة قصدها المسلمون وغير المسلمين من الرحالة والمستكشفين والكُتَّاب، وقد أسهب كتاب عرب وغربيون مشاهير في وصف معالمها وأدق تفاصيل شوارعها وأبنيتها وحجارتها... منهم ابن بطوطة ومحيي الدين بن عربي والرحّالة الفارسي ناصر خسرو قديماً والكاتب اليوناني نيكوس كازانتزاكيس حديثاً، بالإضافة إلى الرسامين والمصوّرين وبأعداد كبيرة. أما أهداف زيارة القدس، بعد أن أصبحت تحت الاحتلال الصهيوني، فتكمن بتسجيل الحضور العربي الإسلامي الدائم في المسجد الأقصى لتكريس الشعور بالأحقية بهذه البقعة وتهيئة نفوس المسلمين ليوم استعادتها المرتقب. كما أنه دعم معنوي كبير للفلسطينيين الذين يعانون اليوم الغربة في وطنهم أمام حرب الكيان الصهيوني لطمس وجودهم مع آثار حضارتهم. كما هو جهاد ودعم مادي لأبناء فلسطين من قبل إخوانهم العرب. 
كما أن زيارة بيت المقدس تضع المسلمين في صورة ما يحدث من ممارسات إجرامية للكيان الصهيوني تجاه الفلسطينيين، فمن سمع ليس كمن رأى كما يقال، ليستيقظ الشعور العربي الغافل ويفكر بالتحرك الجاد لردع العدو الصهيوني الذي يخطط لالتهام الأراضـــــي العربية كلها، وفلسطين البداية والمركز فقط، فعيونه مصوبة على كل أراضي الوطن العربي. كما أن في تلك الزيارات إحراجاً للكيان الصهيوني، حيث ستكون ضربة قوية له، سواء قبل بها أو رفضها.
وكان لليمنيين حضور مهم، سياسي وديني، تدعيماً لهذا التوجه وهذه الرؤية، فقد زارتها شخصيات يمنية بارزة، منهم القاضي عبدالرحمن الإرياني والسيد عبدالله العلوي والقاضي عبدالله الشماحي والسيد محمد محمد زبارة، عامي 1931 و1962، قبل احتلال كامل مدينة القدس، في مناسبات دينية وفي مؤتمرات سياسية.

هُــم العدو
بالرغم من أن النصوص الشرعية والدينية، والواقع الذي تعيشه فلسطين منذ أكثر من 70 عاماً، والواجب الوطني والعربي والإنساني يدعو إلى زيارة فلسطين وبيت المقدس لتقديم أي شكل من أشكال الحضور والمساندة العربية لإخوانهم في ذلك الوطن المسلوب، فقد توقف المسلمون حالياً عن هذا النوع من الزيارات لقبلتهم الأولى وزهرة المدائن، عدا بعض زيارات الحجاج المسلمين من الدول الأفريقية والشرق آسيوية ومن تركيا.
والجدير بالذكر هنا أن أول من تصدَّى لفكرة زيارة فلسطين والمسجد الأقصى لم يكونوا الصهاينة، بل علماء ودهاقنة الوهابية الذين يقع تحت أيديهم أهم الأماكن المقدسة (مكة)، فقد اعتبروا زيارة المسجد الأقصى بعد الحج بدعة، وتطبيعاً إذا كانت في وقت آخر. 
ولقد طغت الفتاوى الوهابية على مؤلفات وكتابات علماء وكُتُّاب عرب وفلسطينيين تولوا مهمة الرد على تلك التخرصات في غير مرة، مبينين أنه جاء في الأثر الإسلامي أن المسجد الأقصى من المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال للصلاة والعبادة، وما من شيء محرم في ذلك في أي وقت كان. وعن هذا الجانب تقول الكاتبة حياة ربيع: "لم أكن يومًا من الذين اقتنعوا بأن هذا النوع من الزيارات للقدس يندرج تحت باب التطبيع، وهناك من الفلسطينيين اليساريين المناهضين للأديان بشكل خاص من نادى العرب لمقاطعة زيارة القدس، على أساس أن ذلك مقاطعة للكيان الغاصب وتهميش له أو أن العكس يَصُب في مصلحته... لكن هذه الأصوات أضرت القدس كثيراً ولم تنفعها، لأنها في الحقيقة همشت القدس وقطعت عنها المسلمين والعرب، فانفرد بها الكيان الغاصب. كنت دائمًا أؤمن بأن الزيارات ستُبقي المسلمين على تماس ووعي بالقدس ومن خلالها المظلومية الفلسطينية. من غير العدل وصف هذه الزيارات بالتطبيعية أو مساواتها بزيارات الساسة والإعلاميين والشخصيات والهيئات المُطبِّعة مع الكيان، ففي رأيي أن مردود هذه الزيارات وفائدتها على الأقصى وفلسطين أكبر بكثير من ضرر الحصول على تأشيرة الكيان، أو من استفادة الكيان من هذه الزيارة، وما نعيشه الآن يؤكد صوابية هذا الرأي".
وتستطرد ربيع: "الجميع يرى الآن أن الدول العربية التي كانت تتظاهر في العلن بعدم السماح لمواطنيها بالذهاب للقدس بذريعة ختم التأشيرة ومقاطعة الكيان "الإسرائيلي"، هي في طليعة من باعوا فلسطين وخذلوها وخانوهـــــــا ويتآمرون على أهلها، وننظر في نفس الوقت إلى تهويد القدس شبه التام والاقتحامات اليومية للمسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة في ظل البناء حول وتحت المسجد والحفريات والأنفاق وصولاً إلى تهجير الفلسطينيين من محيط الأقصى والقدس وتهويد المنطقة".
أصوات فلسطينية وعربية أخرى كثيرة قالت إن زيارة بيت المقدس وهي تحت الاحتلال الصهيوني ليست تطبيعاً، ويمكن قياسها بأحداث كثيرة قام بها النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قصد مكة وهي تحت سيطرة المشركين وأدى عمرة في السنة السابعة للهجرة وأقام فيها ثلاثة أيام، كما عاد من الطائف إلى مكة في جوار (حماية) المطعم بن عدي، وطاف بالكعبة وأبناء المطعم يحرسونه من المشركين.
كما صدرت فتاوى من علماء مسلمين كعلماء القوقاز وغيرهم أجازت زيارة بيت المقدس وهي تحت الاحتلال الصهيوني، لما فيها من تمسك بالقدس ومساندة لأهلها في وجه الكيان المحتل.
ويذكــــــر كثيرون أن الشريعــــــة الإسلامية تقيم الأعمال بالنوايا، وعندما تكون الزيارة لمساندة الفلسطينيين وتذكير النفس والغير بأن القدس معلم إسلامي عربي مقدس لا يمكن التفريط به أو قطع حبال التعلق به فهذا ليس تطبيعاً.
إنها حالة مشابهة لزيارة السجين الفلسطيني في السجون "الإسرائيلية" أو كسفر الفلسطينيين عبر المعابر "الإسرائيلية" في طريقهم إلى الحج أو العمرة في مكة.
ويمكن لحكومات الدول العربية تولي تنسيق الزيارات بينها، خاصة المحاذية لفلسطين، والضغط على الأمم المتحدة لتلزم الكيان الصهيوني بقبول الزيارات وعدم اعتراضها، ويمكن إسناد مهمة التنسيق إلى شركات ومكاتب السفريات والسياحة لتجنب التعامل المباشر مع السلطات الصهيونية، ولن يضطر الزائرون للمرور بالمطارات "الإسرائيلية" فيمكنهم سلوك المعابر البرية الرابطة بين فلسطين ومصر والأردن.
ذلك ما يفعله المسلمون القادمون من القارة الهندية ومن بريطانيا ومن أفريقيا... الذين يزورون القدس باستمرار، بعد الحج والعمرة أو في مواقيت أخرى. وبحسب الكاتبة الفلسطينية حياة ربيع، فإن "هؤلاء الزوار المسلمون دقيقون لأبعد الحـــــدود في عدم التعامل مع الكيان "الإسرائيلي"، حيث لا يعبرون من مطار تل أبيب، ويتجشمون معاناة كبيرة ليدخلوا عن طريق مطار عمان في الأردن، ثم عبر جسر نهر الأردن إلى القدس، ويتلقون معاملة سيئة جداً في نقطة العبور في الجانب "الإسرائيلي"، حيث يخضعون لساعات طويلة من التدقيق بانتظار حصولهم على التأشيرات ويقضون مجرد بضع ساعات في القدس للزيارة والصلاة ثم يعودون، لا يبتاعون من "الإسرائيليين" طعاماً ولا شراباً ولا أي شيء ولا ينزلون في فنادقهم ولا يقومون بسياحة لرؤية فلسطين المحتلة. وهناك تعتيم إعلامي تام على هذه الفئة من المسلمين وما يقومون به من جميع الأطراف، وكثير ممن يقومون بهذه الرحلات هم ناشطون وفاعلون ومؤثرون على الصعيد الفلسطيني في مجتمعاتهم وسياسات بلدانهم، وأعرف الكثير منهم شخصياً، فالقدس وفلسطين حيَّة في ضمائرهم وحياتهم وفعالياتهم". 

المسلمون يفرطون بأقدس المقدسات
لقد توقفت الأنظمة العربية عن خوض المعارك مع الكيان الصهيوني منذ عام 1973، سواءً كانت عسكرية أو سياسية أو اقتصادية أو فكرية، فلم يعد تحرير الأراضي الفلسطينية المقدسة ضمن خططهم، ولا يستعدون لهجمات عسكرية ولا لتنفيذ ضربات من الداخل للعدو الصهيوني، ولا تقديم الدعم بأي شكل من الأشكال للمقاومة الفلسطينية، ولا يمارسون ضغوطات دولية وليس لهم حتى حضور شكلي ودعم معنوي في الأراضي الفلسطينية المحتلة باعتماد أي مناورة والتفاف على العدو الصهيوني بتوجيه وتشجيع زيارات شعبية إلى القدس بعد موسم الحج كما كانت العادة قديماً، فالتطبيع اليوم يسير على قدمٍ وساق، وقد أعلن رب الأنظمة الخليجية والعربية (النظام الأمريكي) القدس عاصمة لـ"إسرائيل"، ويكاد المسلمون يفقدون واحدة من أقدس بقاع الأرض وأثمنها على مر التاريخ، لصالح إحدى أسوأ العصابات عبر التاريخ، يخاف العرب مواجهتها بالرغم من معرفتهم الدينية والتاريخية والواقعية بهشاشتها والضعف الكامن خلف مظهرها المتجبِّر اليوم، كما يخبرهم القرآن، وكما شهد الكاتب اليوناني نيكوس كازانتزاكيس عند زيارتيه للقدس عامي 1926 و1927، كأحد أبرز الكُتَّاب الأوربيين الذين زاروا القدس، وقد تحدث عن اليهود في العصر الحديث كاشفاً عن نفسياتهم وربط واقعهم في فلسطين بماضيهم في أوروبا لاستشراف مآلاتهم الخائبة الخبيثة.
يقول كازانتزاكيس في كتابه "رحلة إلى فلسطين": "الشتات هو وطن اليهود لا محالة، فلا جدوى من الهرب من هذا القدر المحتوم والبحث عن أمل وسعادة في فلسطين".
وختم كتابه قائلًا: "ولأنني أحبكم أيها اليهود، فإنني أتمنى أن يتمكن العرب عاجلاً أو آجلاً من طردكم من هنا، وأنْ يعيدوا تشتيتكم في هذا العالم".