مجاهد الصريمي / لا ميديا -

من المؤكد أن الشعر هو القيمة الأدل على إنسانية الإنسان، لأنه الوعاء الذي تهرق فيه عصارة تجارب الأفراد والمجتمعات عبر الزمن، ولأنه الشكل الأوضح بيانا على إمكانية منازلة الفناء وصرعه، ومزاولة الحياة ومواصلة ما انقطع من سيناتها -سينة سينة- فترى رفات الأموات المدفونة في باطن الأرض، وقد أصبحت ربى وجبالاً وامتدت حقولاً وأوديةً مزدانة بالجمال والخضرة، كل ذلك يحكي مظاهر الحياة المتوزعة بين الإنسان ومحيطه حيث يصبح كل مظهر من مظاهر الطبيعة مرآة تعكس حقيقة هذا الكائن الحي.


كل ذلك يتجلى من خلال الشعر، لأن اللغة الشعرية إلى جانب تجسيدها لشخصية المبدع وأساليبه الفذة في استثمار المادة الخام لتقابل المفردات والبُنى الكلامية، وإعادة صياغتها وصهرها في رحم عالم مليء بالإبداع، فإنها تنفذ بالحياة إلى جسد كل الموجودات لتبدو الكلمات الشعرية كائنات حية مفعمة بالأحاسيس والمشاعر والحركة والصورة والانفعال، محلقة فوق الممكن وعالية على المستحيل، فنراها وقد تجلت مبلسمة للجروح كالملائكة، وإلى جانب علوها وتحليقها تغوص في أعماق كل شيء لتصدر عن جوهر إنساني مطبوع على الرفض، ومجبول على الإرادة القوية، فتغدو جارحة رافضة متمردة، تُبكي وتُضحك، تحرض وتسخط، وهكذا تتوالد الكلمات من رحم الفن رحيقاً يستخلصه الشعر من نفس الشاعر، ويبثه دماً ودموعاً، فكراً وخيالاً خلاباً. كيف لا والشاعر هو عيننا الثالثة التي تمكننا من رؤية الأشياء على حقيقتها؟! وضيف مساحتنا هذه جدير بكل ما تقدم. 
 إنه الشاعر محمد علي أحمد الحمزي، من أبناء محافظة إب، مديرية حُبيش. وجد في الشعر متنفسه الذي يمكنه من الخروج من ضيق الحال وشظف العيش إلى سعة الآمال وقوة العزيمة، وقد أثبت ذلك بجد واجتهاد عندما أصر على مواصلة تعليمه إلى أن حصل على شهادة البكالوريوس من جامعة إب.
لقد امتطى جواد موهبته الشعرية مبكراً ليُعرف بعد ذلك فارساً من فرسان الشعر بشقيه الحميني والفصيح، ولعل ما امتاز به شاعرنا أنه يريك الحياه متفتقة من أغوار الموت، ويريك الشقاء وقد تخامرت في فنائه مضامين السعادة، وربما كان للغربة والبعد عن الأهل والأحباب دور كبير في فتح عينيه وقلبه على استيطان الحب لليمن أرضاً وإنساناً، ذاك ما يتجلى من خلال قصيدته «أكسجيني السعيدة» التي أحببنا أن نقتطف لكم شيئاً منها، فقليلا ما ترى وطناً يستوطن فرداً، ومجتمعاً يسكن بين جوانح شخص: 
بسمـــــة الـوجـه ترسم طيفهـا في ضميري
وانجلت غيمـــــــة الأحـزان من خد ساحر
في شهـــــــيقي هـواهـا يندمج في زفيري
أكسجين السعيـدة وحـــي في قلب شاعر
فـي ربـاهـا ذُكـر اســــمـي وأقبــل صغيري
واشرقت شمس عمري وانجـــلى ليل غابر
لاجل تنعــــــم مع اخواني عد اعلن نفيري
وازرع الود لـو أمشـــــــي بشـوك المخاطر
حضنها لملم اجزائي ثراها ســــــريري
قلبهـا ضخ دم الـفــــخـر فـي جـسم طاهر
وقد عاش اليمني معتزاً بذاته، ممتدحاً لغنى نفسه وإن كبلته أغلال العوز، وانهالت على جسده سياط الفقر، وكثيراً ما حفظ لنا التراث أسماء وقصائد شعرية عبرت عن هذا الأصل المتوارث لدى كل يمني أصيل عبر الأجيال. ولعل أتم صورة لذلك كانت عند أعشى همدان القائل:
لو تدنيت في الأمور لكانت 
ثروتي فوق ما يظن ابن عمي 
غير أني أبيت وهو تدنى 
ويحهُ إن همهُ غير همي 
وعلى نفس هذا المنوال، وتجسيداً لهذا المعنى، نرى الحمزي يصدق عليه قول البردوني: 
عرفته يمنياً في تلفته 
خوف وعيناه تاريخ من الرمدِ 
من خضرة القات في عينيه أسئلة 
صفرٌ تنوءُ كعود نصف متقدِ
فهو يحملنا إلى زنازين الظلم لنرى أشباح الفاقة وعقارب قلة الحيلة متجمعة حوله في سجن يسمى الغربة، وسوط الفقر يعلو وينزل على جسده مشتتاً إياه في زوايا العدم، ومبعثراً له في حنايا اليأس، إلا أن العنصر المبنية عليه ذاته يأبى وينسى أن يموت. وهاكم هذه المقطوعة، والتي هي بعنوان «سوط الفقر»:
تداعى القوم في شغَفٍ ولـــــهْفٍ
وهيَّج شـوقهم إطراءُ حــرفــــي
ونـادوا هاجــــساً حـراً شريــــــفاً
يغوص بعمق ما فيهم ويُضـــفي
تكالبــــت الهمـوم برأس قـــــومٍ
وإنسان السعـــادة صار منــــفي
يــــــطاردهم دعاة الشـــر عمـداً
وسيفُ العدل في الأغماد مخفي
وصوت الظــــلم في الآفاق دوَّى
يُـداهـم عــــــثرتي ويهـد سقفي
وسوط الفـــقـر أثخنني جـراحـاً
وأثقل كاهــــــلي فلقيت حتفــي
دُفنـت بساحة الحـرمـان حــــيَّاً
بكـانـي طيف أحــزاني وضعفـي
أرى شــــــــبح الضــلالة كل يـومٍ
ونصفُ شقـاوتي يجتاح نصــــفي
وهنا يستمد شاعرنا عبق الفطرة السليمة لنراه مستنداً إلى الركن الذي لا ينهدم، ومستمسكاً بالعروة التي لا تنفصم، حيث نراه يستهدي بكتاب الله لتدله آيات الذكر الحكيم على نبي عظيم عاش الحزن حتى ابيضت عيناه وهو كظيم، إلى أن وجد ريح يوسف، وسقط قميصه على وجهه فارتد بصيرا. هكذا يعيش شاعرنا مع الأمل في كيان تمادى فيه الألم حتى صار يعقوبا ينتظر قميص يوسف، وهذا ما تضمنته مقطوعته التي هي:
يـا دهـر إن الجهـــــل قد أعـــياني
وبســــــــــهمه بين الأنام رمــانـي
في وحشة الليل الكئيب وضيقه
وقسـاوة الأحزان في أوطانــــي
نجم الســـــــــعادة آفلٌ في ليلنـا
وحشُ الكآبةِ في الفـلا نـــادانـــي
شمسُ المحبةِ في نهـاري أكسفت 
زيفُ المصالحِ عنـوةً أغــــــوانـــي
وسحائبُ الودِ التي كـانت هنـــــا
رحـلـتْ وجـدبُ غيابهـا أســقـاني
وضميرُ قـومي في غيابةِ جُبــّـــهِ
وقميصُ يـوسفَ فَقْـدُهُ أعمـــانـي
ورمـاحُ جهلي نحـو قلبي صُوّبت
في سيفِ وهمي قد قطعتُ لساني
لكنني رغـــم المـرارة صـــــامــــدٌ
وعـزيمتــــي ستـظل طول زماني
وقبل أن تميد بكلماتنا بساطات هذه الصفحة، دعونا نرى الحياة وقد اتصلت بكل حي، ومازجت كل خلد، وطفت المعاناة في بحر الصبر والثبات جامدة بلا حراك، لأن مركب الطموح استقر على شاطئ «ربيع الأماني». إنها الدرة الأخير التي اصطدناها من غطمطم شاعرنا المليء بمثيلاتها، وهنا أعشب ربيع الأماني بوجدان جسد أدماه سوط الفقر:
 في ظـــــــلام اللـــيالي والــسنين المريعة
خنجر البعـد مزَّق خافقي وسط الاضلاع
 مغـــترب في دهاليز النكـــد والقطيعة
مضـــطرب بين أمواج المعاناة والاوجاع
كم تمنيـــت يوم الـــــــقرب يأتي ربيــعـه
لاجل تثمر حقول الحب من كل الانـــواع
واجنيَ الشهد من جـبح الديار المنيعة
واشبِع القلب من نظـراتهـــــا كلما جـــــاع
وانسف الهـم في يـم البحـــــور الوسيعة
واقطع اليأس في سيف الأماني والاقــناع
واقـــتلع بذرة افكار العـــقول الوضيعة
وازرع اشـــجار حلمي في بساتين الابداع