غازي المفلحي/ لا ميديا -

إن تجارة البيع في زمن العدوان هي إحدى أكبر التجارات الرائجة، فالمرتزقة والخونة والفاسدون، سواء عرفوا أنهم كذلك أم لا، قد باعوا ومازالوا يبيعون كل ما أمكنهم بيعه في هذا الوطن: الأرض، الثروات، السيادة، القضية، المبادئ.. ومن أصغر المتاجرين اليوم ما تسمى مكاتب بيع الخدمات الإعلامية العاملة في صنعاء (ذباب الدم) التي تقتات على المجازر والمعاناة والمجاعات والأوبئة، وعلى كل ما يسحق الوطن ويقصم ظهر المواطن، وتعمل دون ضوابط أخلاقية أو قانونية تنظم عملية سباقها المحموم على الأشلاء تحت الأنقاض وفي ثلاجات الموتى، والمحتضرين جوعاً في المستشفيات والبيوت، لتبيعها لوكالات وقنوات أجنبية من أجل الفوز بحفنة من الدولارات. 

مصائب قومٍ عند قومٍ دولارات
أن تجد أباً مبتور الساق وشبه فاقد للبصر، وقد خسر أطفاله الثلاثة وزوجته ومنزله دفعة واحدة بغارة لطيران العدوان السعودي، فمن المنطقي أن تكون هذه قصة محزنة ومأساوية جداً بالنسبة لكل من يسمعها؛ لكن مكاتب الخدمات الإعلامية مستثناة من هذا المنطق، فمثل هذه القصة تسعدها وتبشرها بالرزق الوفير وبدولارات تدخل البهجة والسرور في ظل العدوان الذي أصبح ظلاً ظليلاً للانتهازيين. فقد تغير مفهوم المجازر والمجاعات والأمراض والأوبئة وكل صنوف المعاناة بالنسبة لهذه المكاتب، وأصبحت محركات وتروس تجارتها وعملها وإيرادها وملء جيوب أصحابها وتراكم أملاكهم وارتفاع (عماراتهم) وفراهة سياراتهم، فهم يتتبعون وأحياناً «يشمون» -نظراً لتطور خبرتهم- الحالات الأشد تضرراً من العدوان بالقصف أو الحصار، والأشد فقراً والأكثر معاناة، ومن هم على ذروة النكبة من اليمنيين، وينتظرون بفارغ الصبر حصول مجزرة مروعة تنعش سوقهم، ليصنعوا منها مواد إعلامية (أخباراً، تقارير، قصصاً، صوراً، أفلاماً وثائقية) تباع للوكالات والقنوات الأجنبية، تحت لافتة مستهلكة وكاذبة، وهي نقل معاناة اليمنيين وإيصال مظلوميتهم؛ بينما في الحقيقة هذه مجرد لافتة يخدعون بها أنفسهم قبل الناس. فقد أصبح عمل هذه المكاتب ربحياً تماماً، فهي بعد إنتاج المواد وبيعها واستلام ثمنها لا تعرف أو تهتم على الإطلاق بمصير من صورتهم وادعت نقل معاناتهم، بل حتى لا تعرف مصير المواد المصورة في بعض الأحيان، فهي تباع لوكالات عالمية منها أمريكية وأوروبية وغيرها، والتي تقوم بدورها ببيعها لقنوات قد تكون معادية، فتستخدم تلك المواد ضد الوطن لا معه. ولم يحدث مرة أن قام مكتب بيع خدمات إعلامية بنقل معاناة يمنيين في منطقة ما إلى جهة دولية أو محلية بهدف طلب المساعدة وتقديم الحلول، وعمل على ذلك، فالحقيقة أن الغاية التي تحرك بها مكاتب الخدمات الإعلامية طواقمها من صنعاء وحتى أقصى صعدة، ثم إلى خطوط التماس في الحديدة، وإلى كثير من المحافظات الأخرى، وما يدفع بعضها لفتح مكاتب هناك أيضاً، هي الربح والدولارات. فالمهمة التي تبدأ بتصوير الأشلاء والمحتضرين جوعاً ومرضى الفشل الكلوي والكوليرا والنازحين والمتشردين بلا مأوى والمتضورين جوعاً، تنتهي أمام محلات الصرافة عند استلام الـ200 دولار (قيمة التقرير)، وتتفاوت هذه القيمة من مكتب إلى آخر حسب «حذاقة» المكتب وإدارته. الأسوأ من كل ذلك أن ضحايا العدوان الذين تنتج المواد الإعلامية من نقل قصصهم وتصويرهم في بيوتهم وفي المستشفيات، ونقل كثير من تفاصيل حياتهم في ظل المعاناة، وقضاء أيام في التردد عليهم وإزعاجهم دون مراعاة مرضهم أو جوعهم أو خسارتهم لأقاربهم أو حتى لخصوصيتهم، من أجل إعادة تصوير بعض اللقطات ولتعديل الكوادر وضبط السطوع، وطلب قول تصريحات معينة، حتى تصبح المواد المصورة حسب المعايير الفنية والسياسية التي تطلبها القناة أو الوكالة، الأسوأ أن هؤلاء الضحايا لا يحصلون على معونة من قيمة وإيراد تلك التقارير التي تباع، ولو كمبادرة إنسانية وأخلاقية واجبة على تلك المكاتب. فمثلاً عندما يقوم مكتب بتصوير حالة سوء تغذية حاد في أحد المستشفيات في الحديدة أو حجة أو غيرهما من المحافظات، فإن ما يتم تصويره قد يباع بمبلغ يتراوح بين 200 و600 دولار (هذا بالنسبة للتقارير، وتتباين الأسعار حسب المدة الزمنية والجهة الإعلامية التي يصور لها، وقد تصل قيمة بيع الأفلام الوثائقية الضخمة إلى 12 ألف دولار)، وتذهب هذه المبالغ لخزينة المكتب، ولا يحصل المريض أو الحالة التي تتركز عليها المادة الصحفية على شيء أو مساعدة هو في أمس الحاجة إليها، يصورونه ويذهبون لجني المال، وهو يذهب ليلاقي مصيره؛ هكذا يتم الأمر في مكاتب الخدمات الإعلامية، في سلوك غير سليم منطقياً وإنسانياً وأخلاقياً، وحتى قانونياً، فقط عملية إنتاج وبيع وحسب.
وتعمل عدد من هذه المكاتب الصغيرة والكبيرة في العاصمة صنعاء، ولم نحصل على توضيح من وزير الإعلام الأستاذ ضيف الله الشامي، حول القانون الذي تأسست تحته هذه المكاتب، وطبيعة علاقتها بالوزارة في الرقابة والتوجيه والتنظيم، وهل هناك آلية موضوعة أو سيتم وضعها لتنظيم عمل هذه المكاتب مع الحالات الإنسانية التي تنتج موادها بواسطتهم، وكذلك مع موظفيها الذين يشتكون من ابتزازها لهم. وقد اكتفى الوزير بالقول إنه قد تم إعداد لائحة تنظيمية لعمل هذه المكاتب، وسيتم تعميمها عليهم ونشرها قريباً.

لا صوت يعلو على صوت الربح
ما يؤكد أن مكاتب الخدمات الإعلامية مؤسسات استغلالية همها الربح قبل أي اعتبار آخر، هو النظر إلى الشق الثاني من الماكينة التي تتحرك وتجمع المال بها، فإذا كان الشق الأول هم «الضحايا» الذين تصنع منهم القصص الإعلامية وترميهم خلفها، فالشق الثاني هو طواقم عملها الإعلامية «المصورين، الممنتجين، الفنيين، المنسقين، وآخرين»، الذين تصنع بهم تلك القصص، والذين أكد أغلبهم في حديثهم مع «لا» على أنهم يتعرضون لاستغلال بشع، ومحرومون من حقوقهم، واشتكوا منهجية الابتزاز والاستغلال الكارثي لمكاتب الخدمات الإعلامية لهم. فراتب المصور لا يتجاوز الـ50 ألف ريال، أي أقل من 100 دولار، بينما يكسب المكتب من تصوير هذا المصور لمادة واحدة ضمن عدة مواد في اليوم، وعشرات المواد في الشهر، آلاف الدولارات. وجميع الموظفين يشتكون، فمن يعمل منهم براتب يشتكي قلة مرتبه مقارنة بما ينتج، ومن يعمل بالقطعة يشتكي عدم استلام مستحقاته لعدة أشهر. 
يقول الزميل أحمد عبد الرحمن، مدير مكتب قناة الميادين في اليمن: "يعيش الإعلامي اليمني من صحافي ومراسل ومصور وفني مونتاج، طوال حياته «شاقياً» مع شركات الاستغلال التي بنى أصحابها امبراطورياتهم المالية، وتوسعوا فيها من عرق هؤلاء «الشقاة»، دون أن يعطوهم أقل حقوقهم، وكل ما يحصلون عليه منهم مجرد راتب زهيد، ومع ذلك ورغم قلته يشعرون بكثرته على أولئك المساكين، كما لو أنهم يدفعونه صدقة من جيوبهم، وليس مقابل ما يقدمه هؤلاء من عمل وجهد يدر عليهم الملايين". ويضيف: "يعمل الإعلامي اليمني بلا عقد عمل يحمي حقوقه، ولا شيء مكتوب سوى الاتفاق الشفهي وفقاً لشروط رب العمل وصاحب الإقطاعية الإعلامية، وتحت ضغط الحاجة ومحدودية الخيارات ليس أمامه غير الانصياع والموافقة والقبول بشروط أصحاب الوكالات والشركات المحلية والقنوات الخارجية المتشابهين في استغلال حاجة الناس بطرق بشعة ولاإنسانية".
ويضطر كثير من الإعلاميين للرضوخ لهذا الاستغلال والقبول باستعباد تجار الإعلام الذين لا يشبعون، ويجمعون ثرواتهم من كدح وعرق هؤلاء الموظفين، بسبب عدم وجود بدائل أخرى للعمل وكسب الرزق، وعدم وجود قوانين حكومية من وزارة الإعلام تكفل حقوق الإعلاميين وتدافع عنها أمام الجشع اللامحدود لملاك مكاتب الخدمات، الذين يبيعون كل ما يمكنهم بيعه، ويستغلون كل من يمكنهم استغلاله.
لا تقف الأمور عند هذا الحد، فبيع القضية والوطن ممكن إذا كان هناك دولارات، فقد تحدثت «لا» مع مصور كان يعمل لدى أحد مكاتب الخدمات الإعلامية - تابع للهيئة الإعلامية لأنصار الله- وقال إن المكتب باع مواد لمراسل قناة عربية بالرغم من شكوك المكتب من أن هذا المراسل قد يكون له علاقات خفية بقنوات معادية مثل «الحدث» السعودية و«سكاي نيوز» الإماراتية، لكنهم استمروا في التعامل مع المراسل رغم شكوكهم فيه، لأن الـ180 دولاراً التي تدفع كقيمة للتقرير أكبر بكثير من إيمانهم بالقضية اليمنية.
ينتظر من وزارة الإعلام الاضطلاع بدور جاد وفعال لتنظيم ورقابة عمل هذه المكاتب، حتى تحفظ ماء وجه اليمن الذي تباع قضيته في مزاد الإعلام العربي والعالمي بأبخس الأثمان، ولكي يتم تنظيم العلاقة بين المكاتب ومن تصورهم ولحماية إنسانيتهم وحتى لا يصبحوا سلعة بيد تلك المكاتب التي تأكل ما لذ وطاب من تصوير أحشاء ضحايا العدوان الممزقة تارة والخاوية تارة أخرى، بينما لا تجد تلك الضحايا قيمة اللقمة أو حبة الدواء، وكذلك لحماية حقوق موظفي تلك المكاتب من الإعلاميين الذين يتعرضون لاستغلال كبير.