مجاهد الصريمي / لا ميديا -

ليس من السهل على الكاتب أو الباحث الخوض في هذا العالم الواسع الرحب. إنه عالم بنت كل مقوماته سمات ومميزات لذات واحدة هي تلك الذات التي بلغت مقاما عظيما في الحنكة والدهاء والفروسية والشجاعة، والتقى على باب النفاذ إلى كنهها العامي والمثقف، وتنازعها المؤرخون والحكواتيون، وترنمت بالحديث عنها الأسمار والمنتديات سلباً وإيجاباً... إنه الإمام أحمد بن يحيى بن محمد حميد الدين، المولود سنة 1892 المتوفى 1962. ولد في قرية الرأس التابعة لمنطقة الأهنوم ونشأ في حِجر جده ثم في حِجر أبيه، وأخذ علمه عن مشاهير عصره من علماء منطقة شهارة وعلماء المدان. قرأ الفقه والحديث وعلوم اللغة العربية، إلَّا أنه ولشدة ولعه بالشعر والأدب وعشقه للفروسية فقد تمكنت هاتان السمتان من نفسه وشكلتا الأساس في تكوين شخصيته وهذا بالطبع ما جعلنا نسلط الأضواء عليه، لأننا لن نستقصي أثره كسياسي أو كحاكم لليمن، بل سنقرؤه من زاوية الفروسية والشاعرية، وسنسترشد إلى ذلك بما ورد بين طيات بعض الكتب التي تسنى لنا الوقوف على شخصية الشاعر والفارس من خلالها، ولعل جوهر اعتمادنا في انعكاس ومضات ضوء هذا الفارس هو الأستاذ عبدالله البردوني، حيث وقف وقفة موجزة ضمن كتابه "اليمن الجمهوري" عند صورة حرب الزرانيق في شعر الإمام أحمد.

وشاعرنا أيها الأعزاء فارس مجرَّب ضَمَّنَ قصائده ملامح حياته وملاحم بطولاته. وعلى الرغم من كثرة الشعراء من الأمراء والملوك فإن نسبة الشعر إليهم أو إلى بعضهم موضع تساؤل، كما يقول البردوني في كتابه "اليمن الجمهوري". ويضيف البردوني قائلاً: "وقد فطن إلى هذا المؤرخون القدماء، فكانوا يحتاطون لرواية ذلك الشعر الأميري الملكي بقولهم: ومما نسب إلى الخليفة فلان... ثم يوردون الشعر ثم يوردون التشكيك في المقطوعة". ولكن ذلك لا يصدق على الإمام أحمد، فهو شاعر وأمير، وإمارته لن تنحي شعره منحى ما كان يُعرف من شعر الأمراء كالغلمانيات والخمريات، وهما الغرضان اللذان تميز بهما الملوك والأمراء في عهد بني العباس، ولم تتوقف به هواية الأدب على الأدب فحسب، بل كان أكثر قربا من نموذج يمني آخر مثله من الأمة منذ الإمام الهادي إلى الإمام أحمد، وإن كان أكثر وضوحاً لدى عبدالله بن حمزة العلوي في القرن الثاني عشر الميلادي، الذي كان شعره صوت الأغراض العليا كما يقول النقاد. أضف إلى ذلك أن أئمة اليمن كانوا يبرزون مغايرتهم لملوك وأمراء الأقطار الأخرى سلوكاً وسياسة على شاكلة هذا النموذج الذي اختزلته هذه المقطوعة والتي صدح بها الإمام عبدالله بن حمزة محدداً الميزة التي تميزه عن بني العباس:
لا نعرف الخمر إلَّا حين نهرقها 
ولا الفواحش إلَّا حين ننفيها 
وعلى شاكلته برز شعر الإمام أحمد الذي كان شاعرا بالأصالة وليس بالنسبية. ويقول البردوني عن ذلك: "إلى الآن لم يشكك أحد من النقاد في شاعرية الإمام أحمد أو في حقيقة نسبتها إليه، باستثناء أرجوزته التي وجهها إلى العرب ومطلعها: 
نصيحة تهدى إلى كل العرب 
ذوي البطولات العظام والحسب 
لأنه تهجم فيها على الاشتراكية في مطلع الستينيات، فأغضب المثقفين الذين يرون الاشتراكية ديمقراطية الاقتصاد، كما يرون الديمقراطية اشتراكية السياسة والثقافة". يضيف البردوني: "لهذا رد المثقفون على هذه القصيدة ونسبوها إلى مكتب الإمام الخاص، للنيل من شاعريته التي كان يعتد بها اعتداده بشجاعته". 
ولقد أورد المؤرخون المعاصرون بعض قصائده التي جعلته في مصاف الشعراء، لاسيما وأن أغلب شعره ينبع عن هيجان الغضب ليكتسب عظمته من كونه نتج عن معايشة قضايا عظام وأحداث جسام. يقول البردوني: "ولعل أشهر قصائده تلك العاصفة الرائية المدوية في الثلاثينيات، لأنها من إنتاج ظرف عاصف، فعلى إثر هزيمة جيوشنا في حرض 1934 رد أحمد انكسار جيشنا إلى تخاذل والده أو إلى سوء مستشاريه، وعلى هؤلاء صرخ قائلاً:
الله أكبر قم يا نافخ الصورِ
على الخنازير أبناء الخنازيرِ 
فهذه غضبة من أشرف الغضبات، لأنها صيحة وطن وصدى جراحه، فالغضب والقلق أقوى مهيجات شاعرية الإمام أحمد، وقد طارت رائيته في عموم اليمن وأصبحت عطر الأسمار والمقايل". 
يعلل البردوني انتشارها الكبير فيقول: "لأنها إفصاح عن كل مواطن. أما تلك قضية الشعب؟! ألم تضحِّ كل بيوت اليمن في حروب تهامة؟! وما أمرَّ ثمرة التضحية حين تكون هي الهزيمة وتقبلها كأمر واقع!".
وما إن أطل عام 1948 حتى طارت في الآفاق قصيدته اللامية تلك التي ضمنها أصدق عواطفه شارحا فيها حجم المأساة التي نتجت عن مقتل والده ومطلعها 
نفس جودي بدمعة وعويلِ 
واشرحي كيف كان حال القتيلِ!
ولعل ما يدل على فروسية الفارس وغلبته لنظرائه هو إنزال الفارس لعدوه منزلة الشجاع، فمغالبة الشجعان هي التي تورث الشجاعة أما مغالبة الجبناء من قبل الشجعان فليست إلَّا أعلى مراتب الجبن. ولعل ما سنحاول بسطه بين أيديكم في السطور القادمة هو الملمح الأبرز الذي نستطيع من خلاله أن نقول بحق إن الأمام أحمد خليل سيف ونجي قلم. 
إذ نستهدي من خلال قيادة الإمام أحمد للحملة العسكرية في إخماد تمرد الزرانيق الذين تميزوا بشراسة حربية قل نظيرها وكانت بطولاتهم محل إعجاب الإمام أحمد، ولم يجد حرجا في نفسه من الجهر بحجم الهول المترتب على الإقدام في هذه المعركة، وخصوصا بعد إبادة الحملة الأولى عن بكرة أبيها التي توجهت لإخماد تمردهم بقيادة حسين أحمد عامر الذي قتل هو الآخر ضمن الحملة. 
ومن أحر لواعج القلق وأقسى مرارات الشكوى قصيدته الدالية التي مطلعها: 
صاحِ إن الجاح قد أضنى فؤادي 
وابتلى جفني بألوان السهادِ 
وقد سجل الإمام أحمد ضمن قصائد كثيرة مجريات الأمور في ساحة المعركة، نقلت أصدق صورة عن المقاتِل والمقاتَل. ذكر المؤرخون منها قصيدتين: القصيدة اللا،مية وأخرى ميمية. وقد مثلتا شاهدا حيا لسير أحداث المعارك وأبرزتا بطولات الفريقين، ومما جاء في اللامية: 
صاحِ إن الجاح مصداق الفعالِ 
يعرف الأشوس منا بالقتالِ 
تعلم الأيام من أشجعنا 
وترى الأمضى سُرى تلك الليالي 
ومع إبرازه لشجاعته التي تفوق شجاعة الذين يحاربهم من خلال استعماله لاسم التفضيل، فإن صورة الزرانيق في الشجاعة لا تزال موجودة، لأن اسم التفضيل يقتضي المشاركة، ومع ذلك فإن الإمام يوضِّح مدى قوتهم في التمسك بالحياة، تلك الحياة التي إن وجدوا أنفسهم إزاءها مع الموت وجها لوجه هبوا غالبين له منتزعين أحقيتهم في الحياة منه، وذلك ما يعبر عنه هذا البيت 
كلما أعملت في القوم الردى 
طلعوا كالجن من تحت الرمالِ
أما قصيدته الميمية فقد كانت أصدق تعبيراً وأكمل دلالة من التاريخ الرسمي، بحسب ما قال البردوني، لأن التاريخ الرسمي لم يورد مسألة أخذ الزرانيق للمدفع الذي كان يسمى "السريع"، وفرار جنود الإمام دونه ومحاولته في استعادته وحيداً. وقد سجل فيها الإمام أعلى ضروب الشجاعة، نختار منها هذه الأبيات 
ولما رأيت الجيش قد فل حده
وقد رجع الأعقاب بعد التقدم
ونادى باسمي المستجير من الردى
لأدركه والشر في الناس ينتمي 
 وقد تركوا ذاك "السريع" مموهاً 
وحيداً عن الجيش الخميس العرمرمِ
كررت بطرفٍ يسبق الطير إن عدا 
جواد كريم الأصل غير منعمِ
فجالدتُ أعداء الإله بجمعهم 
وكانوا أحاطوا كالسوار بمعصمِ
فدافعتُ عن ذاك "السريع" وحزته 
وقد كان للأعداء أكبر مغنمِ 
فكم أسد شاكي السلاح مجرب 
يصول بسيفٍ صارم لم يثلمِ


تنشر الصحيفة تشطير الإمام أحمد لقصيدة أبي فراس الحمداني
 لاحقاً في أعداد قادمة.