مداد أصيل لم تطمثه الكيمياء والحواسيب

يحيى المدار / لا ميديا-

رغم العدوان والحصار، إلَّا أن للفن أبواباً يفتحها مبدعون يمنيون استطاعوا تخطي كل العوائق، وأثبتوا حضورهم في الواقع الفني. خطاط القرآن الكريم علي يحيى الأعرج كتب مصحفين بروايتين، وصنع الأحبار والأقلام وأيضاً الأوراق، يتفنن في الكتابة العربية بما يبهر العيان من جودة وسبك وإبداع.
يحاول الخطاط علي الأعرج ترجمة خواطر فكره بأنامله الذهبية تشرحها لوحاته الفنية بكتاباته التي ينسجها على صفحات سفر الزمان، مأساة بداياته كأي مبدع لا يريد تذكرها، لكنه انتصر عليها وتخطاها رغم الصعاب، وبالفعل حقق أمنيته.

خطاط القرآن
يحب الأعرج أن يوصف بخطاط القرآن الكريم، فقد كتب القرآن الكريم بروايتي حفص وقالون عن نافع، بخط يبهرك النظر فيه حتى لا تكاد تفارق تلك الصفحات الطاهرة.
 بالإضافة إلى كونه منشداً رائعاً، إلَّا أن أنيسه اليراع وسميره صفحات بيضاء كقلبه النظيف، يعشق الحرف ويلمسه باحتراف، ويعزف سيمفونيته الإبداعية فناً وعشقاً لامتناهياً، ليست حرفته الكتابة فقط، فهو من يصنع الأقلام والأحبار بمختلف ألوانها وأشكالها، ليس هذا وحسب، بل صنع 

أوراقاً خاصة به من الطبيعة اليمنية.
ينحسر الفن والإبداع، بل يتلاشى في زمن طغت عليه التكنولوجيا والتحديث، حيث أصبح الكمبيوتر وما يتصل إليه البديل عن الإنسان في تنفيذ الكثير من الأعمال التي كانت ربما حتى التسعينيات حكراً على حركة الإنسان ومدى مهارته، من ذلك أعمال الفن والخط والرسم وغيرها، ذلك مختصر ما جاء في حديث الأستاذ علي يحيى حسين الأعرج، أحد الخطاطين والمنشدين اليمنيين.
علي الأعرج من أبناء صنعاء القديمة، يتحدث إلينا عن بداياته مع الخط العربي الذي أصبح فيه ممن يشار لهم بالبنان، من القلة القليلة في اليمن التي لم يكن لدى الحكومات السابقة أي اهتمام يذكر بتدريس وتعليم الخط والرسم أبداً، بل لا تجد أن الدولة وقفت إلى جانب الفنان والمبدع أو ساندته أو حتى شجعته للوصول إلى ما يصبو إليه، بل كانت تلك الحكومات حجر عثرة وعقبة كأداء أمام الطموح.

خط البداية
عن بدأيته يقول الخطاط علي الأعرج: جاءت رغبتي للخط والسير في هذا المضمار بعد أن دخلت مدرسة جمال عبدالناصر في التسعينيات، شاهدت أحد المعلمين وهو يكتب على السبورة خطاً جميلاً ورائعاً شدني النظر إليه، فعزمت في نفسي أن أصل إلى تعلم الكتابة مهما كان، بعدها خرجت من المدرسة، وكنت أشاهد اللوحات على المحلات التجارية في الشوارع، وأتأمل خطها وجمالها، وهي التي كتبها بعض الخطاطين اليمنيين ممن كان لهم محلات دعاية وإعلان، كنت أحاول تقليدها وكتابتها ونسخها مراراً، وكان ذلك يسعدني ويريحني كأنني قد أنجزت شيئاً عندما أكمل تلك اللوحة، بحثت عن محلات الدعاية والإعلان في شوارع صنعاء، كنت أدخل إليها لأنظر إلى الخطاطين وهم يكتبون اللوحات الضوئية أو العادية، فكان بعضهم ينظر إليَّ بازدراء، ويخرجني من المحل، بل إن بعضهم كان يعتبرني ربما لصاًً.. لكن ذلك لم يحبطني، ولم أنكسر، بل واصلت الصمود في سبيل ما أريد تحقيقه، حاولت أن أتقرب إلى بعض الخطاطين ليعلمني الخط والرسم، لكن كان جوابهم مادياً، بلغة: "كم عتدي ونعلمك؟". وبرغم قلة المادة وضعف الحيلة والموارد الشحيحة، بحكم أني كنت طالباً ولا يوجد لدي مصدر دخل من أجل أن أتعلم، خاصة بعد وفاة والدي رحمه الله، أولئك الخطاطون ربما ظنوا أنني إذا تعلمت الخط منهم ربما آخذ رزقهم! المهم اشتريت بعض الكتب في تعليم الخط، وواصلت وثابرت وعكفت عليها الليالي والأيام، حتى تعلمت بفضل الله وإحسانه.. لتدور السنون وأنا على ذلك الحال أكافح وأناضل، وكل يوم أكتشف شيئاً جديداً في عالم الخط العظيم، وبتشجيع الجميع سلام الله عليهم.

العمل بعد التعلم
الخطاط علي الأعرج فتح له محلاً تجارياً لأعمال الدعاية والإعلان بجهود شخصية، وبدأ العمل فيه حتى أحداث العام 2011 خلال ثورة الشباب الشعبية التي أطاحت برموز الفساد والإفساد من السلطة في اليمن، وبدأت تلك الأحداث تلقي بظلالها على الإبداع والمبدعين سلباً، حينها حدثت الحرب الشكلية في صنعاء بين رموز الفساد وقادة الضلال أنفسهم، وبدأ التراشق بالقذائف على الأحياء والسكان، يقول الأستاذ علي الأعرج: أخذت كل الأدوات من محلي التجاري وخزنتها في البيت، وقد علتها طبقة من التراب.
وعن تجربة تعلم الخط في مكان آخر غير اليمن، يقول الخطاط علي الأعرج: عرض عليَّ زميل الذهاب إلى العراق، فذهبت إلى العراق في بداية العام 2000، بجهود شخصية وبدعم وتشجيع من أخي الشهيد سامي الأعرج الذي استشهد في بداية العدوان السعودي الأمريكي 2015م، في صنعاء، ذهبت إلى العراق والتقيت بأحد الخطاطين الذي علمني الكثير مما كنت أريده، لم يبخل علي بجواب، أو يخفِ عني معلومة، ولن أنسى له ذلك المعروف ما حييت، وأنا الآن أؤكد استعدادي لتعليم الخط وكل ما يتصل به لأي شخص، وإن شاء الله لن أبخل بأية معلومة.

البحث عن البدائل التي قطعها العدوان
وعن سؤاله عما جناه عليه العدوان، قال: الحرب والحصار جعلا الإنسان يُنتج ويُبدع، فقد مثَّل العدوان علينا وحصاره المطبق لنا جواً وبراً وبحراً فرصة لأن نعمل ونشتغل أكثر ونجتهد ونبحث عن البدائل التي قطعها العدوان علينا، خلال فترة العدوان قمت بعمل الأقلام لتعليم وكتابة الخط بكل أنواعها ومن مختلف الأشياء مثل النحاس والفضة والألمنيوم والخشب وحتى العظام، وهي موجودة وبكميات كبيرة وبمختلف المقاييس والأحجام، وأنا أبيعها، كذلك قمت بعمل حبر خاص بي، حبر عربي، وسميته "حبر اليمان"، وهو مجرب لا يتبدل ولا يمكن أن يزال بالماء وغيره، فقط ما أضيفه عليه نسبة 30% من الكيميائيات و70% طبيعي وعربي خالص، كما أقوم بعمل أوراق باختراع يمني خالص وأجمعها من الأشجار ونشارة الخشب وبعض المأكولات الموجودة لدينا، وأخلطها ببعض حتى تصير أوراقاً صافية لا يمكن أن تتأثر بالعوامل، هذه الأشياء أقوم بعملها الآن تجارياً، وعليها طلبات كثيرة من اليمن والسعودية والكويت ومصر، خاصة الأحبار بألوانها والأقلام بمقاساتها، وما أواجهه فقط وأعاني منه هو التصدير، حيث تتعرض الكثير من أدواتي للمساءلة والحجز، وبعضها الإعطاب جراء تعنت المرتزقة ودول العدوان في إخراجها من اليمن، رغم أنها أقلام وأحبار لا غير.

مصحفان بروايتين
ولدى سؤاله عن كتابته للقرآن الكريم، قال الأستاذ علي الأعرج: قُمت بكتابة القرآن الكريم أول مرة كعمل شخصي، كتبته برواية حفص، جاهز مجهّز بالأرقام والزخرفة، ومراجع كاملاً، وهو موجود لديَّ، على الرف، أنجزته خلال فترة 7 سنوات باعتبار أنه الأول، بعدها جاءني طلب من إحدى المؤسسات اليمنية بكتابة مصحف آخر برواية قالون عن نافع، وهي الرواية المعتمدة عند أهل البيت عليهم السلام، وأيضاً في دول المغرب العربي، فكتبت القرآن الكريم مع بداية العدوان السعودي الأمريكي، فكانت أصعب الأيام والليالي عليَّ، فمع العدوان انقطعت السبل والكهرباء والمواد من الخارج، وكذلك استشهد أخي سامي رحمه الله، والقصف المتواصل علينا ومنازل كثيرة تم قصفها جوار منزلنا، وحدث هناك شهداء وجرحى، وكما يقال في المثل المحلي: "حلَّقت من كل بقعة"، حاولت مراراً أن أكتب المصحف الكريم، لكن كان يحدث شيء جديد، سبب العدوان ضغطاً نفسياً ليس عليَّ، بل على جميع اليمن، خاصة في بداياته، المهم تجاوزت تلك المصائب والمصاعب، وعزمت على كتابة القرآن الكريم برواية قالون عن نافع، حتى أنجزته قبل شهور، أي بعد 4 سنوات من العدوان والحصار على اليمن، رغم أن الاتفاق بيني وبين المؤسسة التي كتبت المصحف لها 6 أشهر، وحينها فرحت كثيراً، وجعلت أهل بيتي يقيمون الموالد فرحاً بهذا الإنجاز العظيم الذي أرجو الله أن يكتبه في صالح أعمالي، وينفع به المؤمنين في كل مكان، كما أحلم وأتمنى وأرجو أن أرى المصحفين وهما على شكل مطبوعات وفي يد كل مسلم إن شاء الله.
الخطاط علي الأعرج يحلم بإنشاء معهد للفنون والخطوط في اليمن، بمساعدة وتعاون الخطاطين اليمنيين، وبتبني الدولة، وتعليم الجميع فنون الخط العربي الأصيل، ليعيد له مكانته وروعته التي عاشها في زمن ابن البواب وابن مقلة، ويؤكد أنه على استعداد تام لتعليم الخط للرجال والنساء والمدارس.