فؤاد علي عبد العزيز الزريقي

إعداد/ طاهر علوان الزريقي

لا شك أن الفن كانعكاس لأرقى أشكال الوعي الإنساني، يعبر عن العلاقات الجمالية بين الإنسان والواقع، والفن ليس ترفاً، لكنه كما يقول أرنست فيشر: ضرورة، ووظيفة اجتماعية، تشبع الحاجة الجمالية للإنسان، وتساعده على صياغة الواقع واحتوائه جمالياً.

الفن كشكل من أشكال الوعي الجمالي المعبر عن الرقي العقلي، والسمو الوجداني والثراء الروحي، خاضع للشروط المادية لتطور المجتمع، لأن الفن ليس معطى قبلياً، ولكنه محصلة معطيات موضوعية للواقع المادي للمجتمع، ومن ثم، فهو كانعكاس لتموضع الذات، دائم التطور والتجدد.
والحقيقة، يعتبر الفن مؤشراً تأكيدياً على مشروعية طموح الإنسان اللامتناهي، وشوقه الدائم لتحقيق الكمال، وتجسيد الحقيقة الإنسانية.
وشعبنا اليمني الذي حرم طيلة العهد الإمامي من حقه المشروع في تنمية ثقافته الوطنية وفنه، والارتقاء إلى مستوى التفاعل والتمثيل الاستيعابي لثقافة العصر ومعطيات التراث الحضاري للإنسانية، ولاسيما في مجال الفنون: "سيمفونيات، أوبرا، كونسرفاتور، أوبريت، باليه، فنون تشكيلية، مسرح،... الخ"، بدأ بعد ثورة 26 سبتمبر في تذوق بعض الفاكهة الحضارية نتيجة بعض المحاولات المتواضعة لتعويض هذا الحرمان، وتتجلى هذه المحاولات في إدخال بعض الأشكال والأساليب الفنية الجديدة في حياته الروحية، ممثلة بنشأة بعض الفرق المسرحية، ووجود بعض الفرق الموسيقية بكورسها وكورالها وأركستراها، ومحاولاتها في مجال التوزيع الأوركسترالي للأغنية اليمنية التقليدية، وتكوين فرق رقص شعبي تقدم بعض الرقصات الفلكلورية والتابلوهات والاسكتشات، وكذلك بداية بروز بعض الجهود الفردية في مجال الرسم والتصوير.. الخ.
وإذا أخذنا المسرح- هو موضوع هذه المقالة- بكافة أشكاله وأنواعه
 الدرامية من ملحمة وتراجيديا وكوميديا، يعتبر من أكثر الفنون رقياً وتأثيراً في المجتمع لتعميقه الحس الجمالي، ودوره كمنشط لكثير من الفنون التي يتطلبها العرض المسرحي ومقتضياته التكنيكية.. كما أن المسرح لما يحمله من إمكانيات التواصل الفعال، بين الموصل والملتقي، يلعب دوراً مؤثراً في تنمية الأخلاقيات والقيم والآراء والمفاهيم التي تتلاءم ومتطلبات التطور الاجتماعي، وذلك لاستخدام المسرح المتطور النقدي في تعرية وكشف العيوب والرواسب الاجتماعية والأخلاقية، مما يؤدي إلى بقاء وتطور الثقافة الوطنية الشعبية، التي تستلهم الجانب المضيء من الموروث الحضاري للشعب، وتستشرف آفاق الثقافة الإنسانية.. والحقيقة أن المسرح بطرحه قضايا وهموم الإنسان، يدفع الإنسان إلى التفكير، ويجعل الفكر- كما يقول برخت- يطهر المشاعر، وكل ذلك في إطار فني، يتسم بالهيمنة الاستحواذية على مشاعر الناس.
وهذه الأهمية والتأثير للمسرح يدفع المرء إلى التساؤل عن كيفية إرساء المرتكزات الأساسية التي يتمحور عليها العمل المسرحي في بلادنا، وكيف يمكن أن تنمو الحركة المسرحية الجنينية، دون عائق يحد من نموها مستقبلياً.
وهذا يقودنا بالضرورة إلى مناقشة أهم قضايا ومشكلات المسرح الوليد في بلادنا،وهي: أزمة النص.
الحقيقة أن النصوص المحلية التي قدمت رغم تفاوت مستوياتها، والجهود لمؤلفيها، ولاسيما الأستاذ محمد الشرفي، ومحمد مثنى.. الخ، تعتبر بالمقاييس والمعايير التقييمية، نصوصاً هزيلة، وبعيدة عن المقومات البنائية والتركيبية للعمل الدرامي ومقتضياته التقنية، فهذه النصوص، إذا استثنينا المسحة الدرامية لدى عبد الكافي والزرقة، تكشف عن عدم استيعاب شروط التأليف المسرحي وتكنيكه المعقد، لأن السمة العامة لهذه النصوص تتصف بما يلي:

أ‌) الحدث:
تتكون هذه النصوص المحلية من عدة حوادث ملفقة ومحشوة قسراً، وتتعاقب دونما أي ترابط، والحقيقة أن التتابع الكمي للحوادث ورتابتها السكونية دون التفاعل التشابكي النامي للحوادث، تؤدي إلى عدم تصاعد الخط الدرامي لها، ومن ثمة افتقار النص المسرحي ليس للوحدة العضوية، ولكن حتى لوحدة الموضوع، حسب المفهوم الأرسطي في مقولات أرسطو عن فن الدراما.
وهذه الحوادث المليئة بالتوابل والزوائد الورمية المشتتة للتوتر الدارمي- طبعاً ليس حسب المفهوم البريختي- خالية من البداية الدرامية التي تعتبر مرحلة حتمية، لأن الحدث هو البناء الدرامي، ووجود عدة حوادث غير مترابطة لا يطور وحدة الحدث درامياً.

ب‌) الشخوص: 
الشخوص الدرامية لهذه النصوص، تتسم بالقَبْلية والجمود، لأنها مسطحة ولا تنمو درامياً، كما أنها تخلو من الأبعاد ومستويات الشعور والتجربة، فهي شخوص جاهزة قَبْلياً.

ج‌) الحوار:
حوار هذه النصوص بعيد عن الديالوج الدرامي، لافتقاره إلى تكثيف المركز وتعميق خطوط الشخصية، كما أن مؤلفي هذه النصوص لا يدركون تفاوت المستويات التعبيرية للشخوص، بتفاوت المحيط الاجتماعي والثقافة البيئوية والمناخ الثقافي ودرجة السلم الاجتماعي لهذه الشخوص، إذ يلاحظ في هذه النصوص أن الفلاح وساكن المدينة، والأمي والمثقف، والشاب والشيخ، يستخدمون مستوى تعبيرياً مشتركاً، مما يظهر عدم الاستيعاب التمثيلي لوظيفة الحوار في تحديد ملامح الشخصية وإظهار منحاها الذهني. كما نلاحظ الفهم المغلوط للتوظيف الدرامي للمونولوج، بالإضافة إلى امتلاء الحوار بالعبارات الإنشائية والنفس الخطابي والسرد التقريري والتناول المباشر، كما أن هذه النصوص تتسول الإعجاب بحشر العبارات التي تستحضر لدى الجمهور بعض الذكريات الوطنية التي لها حضور عميق في الضمير الجمعي للمواطن، كما تستجدي الضحكات بحشر بعض الإيحاءات والإيماءات التي تعبر عن بعض اللمحات ذات المسحة البيئوية المميزة للروح الشعبية دون توظيفها في السياق الاطرادي للمسرحية، ودون مقتضيات المسار التصاعدي للدراما، وهذه النصوص تعرض أيضاً الأفكار بطريقة ساذجة ومباشرة، مع أن الأفكار ليست في الحقيقة مادة للدراما، بل هي ابتداء من سوفوكليس حتى تنسي وليامز وأرابال تستمد كيانها الدرامي من ارتباطها العضوي بالحدث.
والمشكلة أن هذه النصوص الفقيرة من حيث بنيانها وتركيبها الفني الهزيل، والساذجة موضوعاً، والفجة مضموناً، ستكون لها آثار سلبية إذا استمر عرضها على خشبة المسرح، فهي عنصر إعاقة لنشوء حركة مسرحية جادة مستقبلاً. إن هذه النصوص بما تقدمه من مسرحيات مشوهة وركيكة ومبتذلة، سوف تحد من الحساسية الجمالية والقابلية التذوقية للمسرح عند الجمهور. وشيوع هذه المسرحيات سيؤدي إلى تقبل الجمهور المفتقر إلى خلفية الوعي المسرحي، لهذه الترهات التي تعمل على تكييفه مع هذه الأنماط من المسرحيات لارتباطها في ذهنه بالتكرار كنموذج للمسرحيات الحقيقية، مما يخلق لدى الجمهور عسر هضم فنياً وحصانة من تقبل المسرح الحقيقي، وبالتالي الانحدار بالجمهور إلى مهزلة "الجمهور عايز كده" السيئة الصيت، ووضع الجمهور بين سندان الأفلام الهندية ومطرقة المسرحيات اللامسرحية.
وهذه النصوص، إضافة إلى فساد ذوق الجماهير – قابلة الاستيعاب التفاعلي مع المسرح الحقيقي الجاد- ستؤدي باستمرارها إلى عدم نمو إمكانات القدرة التمثيلية للممثلين، لأن هذه المسرحيات – بشخوصها الدرامية الشاحبة والجامدة والمسطحة والخالية من العمق والأبعاد وتعدد مستويات اللاشعور والتجربة، ونمطيتها ومحدودية شخوصها، وعدم قدرة مؤلفيها على بناء شخصيات محكمة البناء ذات خصائص نوعية متعددة ومتسمة بمنحى ذهني متفاوت- ستؤدي إلى عدم تمرس الممثلين على تقمص وتمثيل واستيعاب وفهم الشخوص الدرامية الخصبة، ومن ثم الحد من قدراتهم الإبداعية على المعايشة الداخلية واستبطان شخوص درامية تعبر عن أنماط إنسانية تتسم بالرحابة والتعقيد. كما ستؤدي إلى عجز الممثلين عن تطوير قدراتهم الأدائية والحركية، مما ينمط ويكرر أسلوبية تمثيلهم، ويجعلهم يكررون أنفسهم في محاكاة شخوص ليس لها بعد درامي على الإطلاق.