مجاهد الصريمي / لا ميديا -

هو واحد من الشعراء الذين قدموا صورة حقيقية وصادقة عن الإنسان اليمني ومواجيده خلال النصف قرن الماضي، ويعد شاعرنا واحداً من الشعراء المهمين في تاريخ اليمن الأدبي كله، وهو واحد من مبدعي زبيد الذين تدل توهجاتهم الفنية على أن زبيد رغم كل ما نالها من تجفيف ومحو وزحزحة كاملة عن صفتها العظيمة كواحدة من الحواضر اليمنية التي مثلت مراكز إشعاع حضاري وعلمي وثقافي في تاريخ اليمن، لاتزال فيها عروق تنبض بالدماء وتفيض على كل من حولها بالحياة المعطاءة.

لانزال عزيزي القارئ نهدهد أقبية الظلمات، محاولين فتح ما انغلق أمام الفكر من أبواب أوصدتها حكومات وسلطات جور متعاقبة لعقود من الزمن بلغت نصف قرن، حتى جاءت ثورة الـ21 من أيلول، فتلاشى القمقم الذي حبس به الشعب مجرداً من كل شيءٍ إلا من الشعارات الزائفة، ومسلوباً من كل شيء إلا من حق فرض عليه من قبل الطغاة يجب أن يؤديه لهم كاملاً غير منقوص ليحصل على ما يمكنه من مواصلة حياة كل ما فيها مفعم بمظاهر الموت إلا ما بقي من تصاعد أنفاس لأبناء المجتمع الحامدين للحاكم في الزمن البائد إبقاءه لهم حرية ممارسة الشهيق والزفير دون قيد أو شرط، ولا بأس أن تصحب تصاعد الأنفاس وهبوطها حشرجات أنين، المهم أن تبقى تمتمات لا تفهم ولا توقظ المارد. 
وإذا ما استطاع وجه النفاذ من قلب العتمة ليصبح علماً يسترشد به المجتمع المطواع لإرادة قهرنا من أبناء شعبنا والكلام للطغاة: الذي ألف الظلمات وانسجم معها، وبات بعد تداخله بها وامتزاجها به يشكل معظم قطع سوادها الحالك.. فعلى دور الثقافة ومؤسسات الإعلام الإكثار والتكثيف من الضجيج كي لا يُهتدى لصوت يحمل الحقيقة وينادي بها، وعلى المتخمين بعطايانا النتنة من حملة الشهادات العليا أن يأبدوا سبات كل فئات المجتمع، ورحم الله البردوني حيث قال: 
أليس الدكاتير تخشى الذي 
من القول ما ينبغي أن يقال 
لهم أن يصونوا دماء الدوال 
وللشعب ألا يراهم رجال 
أدرك تماماً عزيزي القارئ أني قد أطلت مسافة الطريق بينك وبين ما تريد أن تصل إليه في هذه الحلقة ولكن لا بأس ها قد وصلنا، وها نحن نصطحب معنا مجدداً شاعرنا يحيى عوض الحداد، وهو من هو، إنه ذلك الثوري العنيف في ثورته، والرجل العصامي الثابت في مواقفه، إنه أشبه ما يكون بالمنقب عن جماعة تحمل مشروع حياة للشعب والأمة، فتنقله بين صفوف أحزاب اليسار يدل على أنه كان ذا نباهة مكنته من حيازة الطليعة أينما ذهب، وتغييبه عن الإعلام وإلغاؤه من صفحات الفكر والعطاء دليل على أنه كان يحمل مبادئ ثابتة لا تتغير، ولأنه صاحب ثوابت تمكن من تجاوز كل زمن الظلمات ليطل علينا في زمن النور، أو قل ليطل به زمن النور زمن كشف الحقائق. 
لقد خاض شاعرنا معركة إثبات الذات الجمعية طوال مدة عطائه الأدبي والفكري والتربوي، ففي 1965م كان في طليعة المنادين بإيقاف استمرارية الحرب بين أبناء اليمن جمهوريين وملكيين، وهو بذلك يسبر أغوار الثورة ويكشف عن حقيقتها، لأن الخارج كان قد وضع يده على قلوب قادة ثورة 26 سبتمبر، وأصبح يقلبها كيف يشاء. 
أودع يحيى عوض السجن، وجمع السجن بينه وبين شاعر كبير مشاكل له في المكانة الأدبية ومنافس ومخالف له في الوجهة والهم والمشروع ومباعد، إنه الشاعر عبدالله عطية صاحب المكانة الاجتماعية الكبيرة والمتمتع بالسعة المالية والقريب من مراكز القرار والسلطة، وهنا يذكر الحضرمي في كتابه «تهامة في التاريخ»، أن الشاعرين لما خرجا من السجن تجاذبا أطراف الحديث، فسأل يحيى عوض، عبدالله عطية: هل ستكتب شعراً في ذكرى سبتمبر؟ وهل لاتزال مؤمناً بها؟ فأجابه شعراً ومن خلال قصيدة بلغت 44 بيتاً اخترنا منها هذه الأبيات: 
جلالها للمعاني لا ولا الكلمُ 
أوحت إلي ولكن هذه العظمُ 
فيم التساؤل هل مازلت شاعرها 
وملءُ جنبي هذا الشدو يضطرمُ 
ذكرى يقدسها شعبي أعظمها 
إذن أنا صخرة صما، أنا عدمُ 
وإجابته هذه التي بالغ فيها بحشد الألفاظ المصبغة على ثورة 26 سبتمبر صبغة القداسة، نجدها منطلقة من القشور والظاهر الذي تعود أن يطفو عليه أصحاب الثروة والنفوذ والمكانة الاجتماعية المرموقة، فهم في كل عصر وزمان يخشون النفاذ إلى العمق، وإن كان عطية قد اشترك إلى جانب يحيى عوض في حركات احتجاجية مختلفة، لكن عوض كان المنطلق من الكادحين والمرتبط بمصيرهم، أما عطية فهو يبتغي تثبيته على أمر معين أو الإغداق عليه بالأموال من قبل السلطات، فقد شكلت حركة القوقر التي انطلقت عام 1967 نقطة افتراق بين الرجلين، وعاش يحيى عوض مع مبادئه التي بقيت وستبقى، وذهب عطية بلذة آنية قربته من أصحاب النفوذ وأوصلته ببلاط الحاكم حتى صار قطعة من رخام في ممر قصر الطغيان.
وليس صحيحاً ما قيل عن الشخصين أنهما كانا يعيشان صراعاً محتدماً من أجل السلطة والوجاهة، نعم كانا يعيشان صراعاً، لكن صراع مبادئ بيَّنه يحيى عوض في قصيدة طويلة وجهها للشباب عام 1967م، جاء فيها: 
سواي على التضليل والدجل أقدرُ 
وغيري بتزييف الحقائق أخبرُ 
تعودت أن ألقى المواقف واضحاً 
كوجه النهار الصحو لا يتغيرُ
أيغفر لي شعبي؟ أيمنحني الرضا 
ضميري؟ وقد باركت ما بت أنكرُ
فلم نأتِ كي نعطي الفساد ولاءنا
ونسجد إكباراً غداة يزمجرُ
ولم نأتِ كي نضفي على الليل حلة
الصبح وملء الليل بغي ومنكرُ
وبينما كان عطية يترقى في سلالم النفوذ ويحن إلى الأرستقراطية، كان يحيى عوض صوتاً لتثبيت دعائم أركان اليمن الحديث:
نحن والحمدي وساحات النضالِ
فتعالي يا قوى الشعب تعالي 
جددي العهد إلى البذل فما 
ساد شعبٌ بسوى بذل الرجالِ 
إلى أن قال: 
أيه إبراهيم إن الليل مازال 
أفعى ذات أنياب طوالِ
فالذين اتخذوا من دمنا
خمرة وانتصروا بالاحتيال 
لايزالون على جبهتنا 
وصمة تنذرنا سوأة حالِ
وتنقشع فترة الرخاء والنعيم وتصبح صنعاء في فندق أموي بحسب تعبير الأستاذ عبدالله البردوني.
ويجد شاعرنا يحيى عوض الحداد نفسه في زنازين السجن المركزي بمحافظة الحديدة، وعلى يد الأمن الوطني الذي شكل مزيجاً من الرجعية والصلاة القبلية الجاهلة والصبغة الإخوانية التي كانت تمد أذرعتها للإطباق على أي عنق يرفض الانحناء لذوات شيطانية نصبت نفسها آلهة من دون الله في الأرض، وبات المناضلون والأحرار والثوار يتعلمون في أقبية السجون وظلمات الزنزانات صلاة ليست ككل الصلوات، إنها صلاة مميزة الطقوس تضمنتها مقطوعة شعرية لشاعرنا من 3 مقطوعات أرخ فيها لفترة اعتقاله، وسجل شهادته على ما رآه ووجده: 
ويا أحباب 
خارج هذه الجدران 
أسعدتم مساءً واقرأوا أم الكتاب 
ولا تصلوا قبل أن آتي 
فإن السجن علمني صلاة لم تصلَّ بعد 
صلاة تبتدئ في الساعة الأولى من النصف الأخير من المساء
وتنتهي عند الصباح 
على صدى وقع السياط 
ورعشة الأجسام 
تحملها مقوسة الظهور 
تلاصق الرُّكب الذقون 
وسائل الصلب الذي ابتدعته 
آخر بربريات الزمان الصعب