ترجمة خاصة: محمد ابراهيم زبيبة -

روبرت فيسك @
لقد كان المتظاهرون من أجل الديمقراطية في السودان أول المحتجين على تدخل السعودية في ثورتهم. وجميعنا كان يعلم أن السعوديين والإماراتيين كانوا يرسلون ملايين الدولارات إلى نظام عمر البشير، المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب، والذي تم إسقاطه الآن من قبل عصابة عسكرية شبيهة بعصابة السيسي. لكن المتظاهرين كانوا أول من أتى بشعار: "لا نريد مساعدة سعودية حتى لو توجب علينا تناول الفاصوليا والفلافل"، وشعارات أخرى مشابهة لثورة تنتمي للشعب.
قليلون من لاحظوا هذا التطور الضئيل (مثل "الواشنطن بوست")، إلا أن عشرات الجثث المتشبعة بالمياه التي تم سحبها من النيل يجب أن تركز اهتمامنا على الدعم الذي يقدمه الآن الإماراتيون والسعوديون خاصة للحكومة العسكرية الانتقالية المزيفة في السودان.
وعلينا ألّا نكون متفاجئين. فالأحكام القضائية المتعسفة المتكررة للسجناء السعوديين بعد إجراء محاكمات تافهة، ثم قتل الصحفي السعودي خاشقجي وتقطيعه، والآن الجثث السودانية المتحللة المنتشرة على طول أطول نهر في أفريقيا، إلى جانب الاعتداء السعودي الإماراتي على اليمن وما تلاه من مجازر، كلها تمتلك نوعاً من الألفة البشعة. فالمشاكل السياسية يتم حلها بالموت القاسي. 
إن ما يريده مئات الآلاف من المحتجين، المختبئون حالياً خوفاً من قسوة المليشيات المجرمة التي أطلقها عليهم النظام الجديد الذي يفترض أنه مؤقت, هو أمر بسيط، وهو بالتأكيد ليس بخصوص محاكمة البشير. فالمتظاهرون يريدون إجابات حول الطبيعة الحقيقية لعلاقة دول الخليج بشخصيتين: قائد "قوات الدعم السريع" المخيف محمد حمدان دقلو  (المعروف باسم حميدتي)، وعبدالفتاح البرهان، رئيس المجلس العسكري الذي سيطر على البلاد بعد أن أطاح بالبشير. وكلا الرجلين زار دول الخليج مؤخرًا. ويريد السودانيون المعتصمون في عاصمتهم أن يعلموا لماذا وعدت السعودية والإمارات بتقديم 3 مليارات دولار كمساعدة للحكومة الانتقالية. ومن هنا أتى شعارهم في تفضيل الفاصوليا والفلافل على النقود السعودية.
 وبالحديث عن مصر، يدرك السودانيون أيضًا أن تجربتهم الجديدة والثورية في المطالبة بإسقاط البشير، ومعهم القياديون المدنيون الذين سيرتبون انتخابات ديمقراطية يدركون أن لها بعض أوجه تشابه رائعة مع تجربة المتظاهرين في القاهرة بعد عام 2011.
فمبارك كان في مصر بمثابة عمر البشير. وبالطبع، لعب الجنرال محمد طنطاوي، رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة (الذي كانت مهمته تكمن في حماية الانتخابات المقبلة)، الدور ذاته الذي يلعبه برهان، رئيس المجلس العسكري السوداني حالياً. وبالفعل فقد سلمت الانتخابات المصرية الحكم للإخوان المسلمين بانتخابات حرة برئاسة ممثلهم محمد مرسي، وذلك قبل أن يقوم الجنرال عبدالفتاح السيسي بانقلاب عسكري أعاد به الديكتاتورية واستلامه فجأة مساعدة اقتصادية هائلة من السعودية والإمارات.
وبالنسبة لمئات الآلاف من المتظاهرين الذين نظموا الثورة ضد مبارك فإما قُتلوا أو هربوا أو اختبؤوا أو تم اعتقالهم من قبل أجهزة الأمن المصرية. لذا فلا نستغرب من مخاوف الثوار السودانيون –رغم أنهم سيجدون أنفسهم مجرد دعاة للديمقراطية– من احتمالية مواجهتهم نفس المصير والمعاناة، وأن تلك المَلكيات الخليجية السخية على وشك الهجوم مرة أخرى بمزيد من الدعم لبرهان ورفيقه المزعج.
وقد ترأس السيسي نفسه جلسة طارئة للاتحاد الأفريقي منحت مجلس برهان العسكري ثلاثة أشهر أخرى لترتيب تسليم الحكم للسلطة مدنية. وبما أن السعوديين ساعدوا السيسي في مصر بثروتهم الهائلة، فلم لا يقومون بالمثل لبرهان؟ أليس الغرض من الـ3 مليارات دولار هو دعم نظام برهان نفسه، الذي وصل للسلطة من خلال احتجاجات وطنية على اقتصاد السودان المفلس.
إن السودان، وتحديداً الميليشيات التي يقودها دقلو المشؤومة والخطيرة للغاية والتي تشكل أكثر من 10 آلاف رجل بعضهم مذنب بارتكاب جرائم حرب في دارفور، تقاتل من أجل السعوديين ضد الحوثيين في اليمن. ووفقًا لقناة "الجزيرة"، التقى دقلو ولي العهد السعودي في أوائل شهر مايو ووعد بدعم المملكة ضد ما سماها "جميع التهديدات والهجمات الإيرانية والحوثية". وقال إنه سيواصل إرسال قوات سودانية لمساعدة المملكة العربية السعودية في اليمن.
وقام برهان بتجنيد العديد من السودانيين الذين ذهبوا للقتال في اليمن (عدد كبير منهم تحت قيادة دقلو). فهل من المفاجئ أن يرغب ولي العهد محمد بن سلمان في استمرار علاقته مع دقلو؟ فأي شيء بالنسبة له سيكون أفضل من نشوء ديمقراطية برلمانية في السودان، خاصة مثل تلك التي حكمت مصر بعد مبارك من جماعة الإخوان.
وفي خضم هذا الفعل الغادر بالمتظاهرين، تجد الولايات المتحدة نفسها في موقف أكثر إحراجاً مما حصل معها في مصر. فقد استمرت وزيرة الخارجية آنذاك، هيلاري كلينتون، في دعم نظام مبارك المتهالك إلى أن قرر باراك أوباما أخيرًا أن نهايته قريبة. ثم رحب بعد ذلك بمحمد مرسي، لكنه لم يكن يعرف ما إذا كان سيصف انقلاب السيسي بالانقلاب. لكن ولحسن حظه، قال جون ماكين على الفور إنه كان كذلك.
وحالياً، لم تصدر إدارة ترامب أي بيان سياسي جاد حول الاضطرابات الهائلة في البلاد، باستثناء تلميحات غامضة عن إدانة العنف في السودان. ومن المفترض أن تريد الولايات المتحدة الديمقراطية في السودان، لأن هذا هو ما تنادي حكومتها بأن يكون في جميع الدول, لكن الجميع يعلم أن ترامب، في نظرته المنحرفة للعالم، يعتبر ولي العهد السعودي حليفًا موثوقًا به، على الرغم من قتل جمال خاشقجي ووصف السيسي بالرجل العظيم.
وكما أفاد مساعد سابق في وزارة الخارجية الأمريكية لمجلة "فورين بوليسي": "لا يشاركنا قادة وحكومات كل من السعودية والإمارات ومصر قيمنا الديمقراطية الأساسية، وتختلف وجهات نظرهم في ما ينبغي أن يحدث في السودان بشكل كبير عن السياسات التي يفترض أن تسعى لها الولايات المتحدة".
وبطبيعة الحال, يحرص الاتحاد الأوروبي على إجراء انتخابات ديمقراطية، لكنه –على الرغم من عدم تصريحه بذلك– يشعر بالقلق إلى حد ما من احتمالية فوز الحزب الحاكم القديم وبقاء سياساته وآلياته في مكانها. وفي كلتا الحالتين، لا تريد دول الخليج ومصر الديمقراطية في السودان.. فهل هم أقوياء لدرجة أنهم يستطيعون ضمان فشل الثورة؟ أم أنهم يخافون من تأثير الديمقراطية السودانية على أنظمتهم الاستبدادية التي ستضعفها الثورة؟ 
إن أكوام الجثث التي تركها السيسي في القاهرة بعد سحقه لمرسي والإخوان، وإعدامات المواطنين الشيعة في السعودية، وتقطيع جمال خاشقجي، وإغراق المتظاهرين السودانيين في النيل، كلها أعمال تبين بوضوح أن القوى التي تريد سحق أي ثورة تظهر في السودان لن تثير أي معارضة لها.
* صحيفة (ذا انديبندنت)
10 يونيو 2019