علي نعمان المقطري / لا ميديا-

في ظل الظروف الحاسمة التي كان يعيشها الجنوب قبل ثورة أكتوبر، عاد من المهجر علي عنتر ورفاقه من القادة الذين تخرجوا في مدرسة الحركة القومية العربية، وتشبعوا بأفكارها وبرامجها وأساليبها الثورية الكفاحية، وكانوا ضمن الرعيل الأول إلى جانب راجح لبوزة ورفاقه، حيث سارعوا إلى الالتحاق بالقوات الجمهورية التي كانت تصد هجمات المرتزقة السعوديين والبريطانيين ضد الثورة اليمنية، وشاركوا في ملاحمها لأكثر من عام. وكان العديد من أفراد الحاميات والمراتب العسكرية التابعة لبريطانيا من أبناء القبائل الجنوبية المتحمسة، قد اجتازوا الحدود الشطرية المصطنعة، وانضموا إلى الجيش الوطني الجمهوري الجديد.

ومن عجائب الأقدار الثورية والتوفيقات الربانية للشعوب الثائرة أن القيادة الاستراتيجية العسكرية للثورة، وبعد بحث طويل ومعمق عن المناطق الأفضل والأنسب لتكون قاعدة للثورة، وقع الترجيح على جبال ردفان في الضالع، لكن ذلك كان مجرد تحديد موضوعي نظري فقط، ويستلزم تحوله إلى واقع اجتماعي شعبي قبلي.

ردفان لبوزة سر ثوري رباني
نعرف اليوم أن ثورات كثيرة فشلت وأخفقت منذ الوهلة الأولى، لأن جماهير المنطقة الاستراتيجية كانت ماتزال غير مستعدة بعد، وغير مدركة لأهميتها، أو لا ترى حاجة لكي تغامر وحدها ضد طغيان هائل بحجم الامبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس، فليس سهلاً أن يأتي قادة الثوار وهم من مناطق بعيدة، متناثرة، متعددة، مشتتة، ليفرضوا ويقنعوا القبيلة المحلية بالثورة تحت قيادتهم، وأن يقنعوها أيضاً بالتضحيات الجسام المنتظرة منذ اللحظة الأولى، خاصة وأن هذه التضحيات ستستمر لسنوات طويلة تالية إلى أن يتحقق النصر.
تلاقى الأحرار الجنوبيون في ميادين القتال لدعم الجمهورية كمتطوعين تقريباً عامي 62 و63م، وهو ما عجل بنضوج فكرة الكفاح والثورة الشعبية المسلحة التحررية.

 البديل القومي التحرري
(صنعاء ـ تعز ـ القاهرة)
قدمت قيادة الثورة اليمنية الدعم لقيادة حركة القوميين العرب المنضمة للانتفاضة المسلحة في الجنوب للبدء بالعمل الثوري حسب الخطة الموضوعة، أي «خطة صلاح الدين» في الوثائق المصرية القومية. وكان المطلوب أولاً تشكيل تجمع سياسي قومي أو مؤتمر قومي وطني للجنوبيين الأحرار كقاعدة تأسيسية يكون نواة لتنظيم الثورة وأساسها والإطار الوطني السياسي الثوري الذي يؤطر جميع الأحرار القوميين الثوار المؤمنين بالثورة والحرية والوحدة والاشتراكية وبقيادة عبدالناصر للعرب ولثوراتهم التحررية وتوحيدهم في دولة قومية موحدة قوية عزيزة من الخليج إلى المحيط، تحطم الرجعية والاستعمار والصهيونية، وتحرر القدس وتخلص الأراضي المقدسة السليبة. تلك كانت الصيغ الفكرية القومية الوطنية الثورية المترابطة في مفاهيم مركزية أملتها التجارب والمعاناة والأحلام والأهداف المشتركة التي طالما عاناها أحرار الوطن، فلم يكن هناك متاح لتحرر قطري منفرد وذاتي، وبالاعتماد على الشروط الخاصة والذاتية في البلاد، لأن الاستعمار والرجعية كانا قد أثخنا الأمة بالجراح، وأوهنا وفتتا القوى العربية في كل قطر على حدة، ومزقاها في صراعات جانبية تمنع توحدها ضد الاستعمار، ومنعا تطورها اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً، وسيطرا عليها وعلى مقدراتها، وأضعفا فيها كل شيء بعد استعمار وسيطرة أجنبية طالت عدة قرون، فقد جردوها من كل قدرة قطرية ضيقة على المبادرة والعمل الوطني.
ولذلك لم يكن هناك من بديل أو خيار لتحقيق النهوض والحرية للأمة إلا بالوعي القومي الثوري التحرري الموحد تحت قيادة قومية عربية واحدة تركز وتوحد كل قدرات الأمة في الساحات الناهضة، وتوفر لها الخبرات والقدرات لتجاوز الامتحان الصعب. وكان الوعي العربي التحرري قد تنامى كرد فعل على طبيعة المستعمرين الذين سيطروا على الأمة العربية من العثمانيين الأتراك ثم الإنجليز والفرنسيين والإيطاليين الغربيين، فقد كان الوطن العربي واحدا عبر العصور دون حدود تفصله عن بعضه، وقد جاءت نكبة فلسطين 1948 لتوقظ الوجدان القومي الموحد، ولتدفع العرب إلى البحث عن الرابطة والوحدة والأخوة مجدداً لإيقاف الهجمة الصليبية الصهيونية الجديدة على العرب والإسلام والمسلمين، التي تقودها بريطانيا وحلفاؤها آنذاك، فالاحتلال لا يمس اليمني أو الجنوبي وحده، بل يمس كل العرب من المحيط إلى الخليج، أمة بكاملها تحت الاحتلال والاستعباد والقهر، ولا يمكن لها التحرر إلا إذا توحدت جهود أبنائها الأحرار في عمل ثوري قومي مشترك موحد تحت قيادة قومية ثورية مشتركة واحدة، وتستند إلى قاعدة قومية مركزية صلبة، ذلك أن الاستعمار عدو قومي دولي امبراطوري يتصرف بموارد أمم وشعوب وقوميات في مواجهة كل حركة قطرية بشكل انفرادي، حيث يسهل له التغلب عليها منفردة، لكنه يصعب عليه التغلب على حركة قومية واحدة منتشرة من الخليج إلى المحيط، وكانت هذه هي النتيجة التي توصلت إليها النخب العربية الحرة، بدءاً من النخب الفلسطينية التي كابدت النكبة التي عم تأثيرها الوجدان العربي والإنساني كله، ومازالت الشرارة الملتهبة التي تلسع بحرارتها المقدسة الوعي والشعور العربي، وتمنعه من التراخي والتخاذل، فقد كانت النكبة بآلامها الحارقة للوعي العربي الزائف، خير إكسير للهزائم العربية وفضحها ومعرفة جوهر أسبابها.

القيادات الطليعية القومية
في 1948، عام النكسة العربية القومية في فلسطين، تأسست حركة ثورية جديدة موحدة هي حركة القوميين العرب، وأسست لها فروعاً في جميع البلاد العربية، ومنها اليمن والجنوب والجزيرة.
ففي 1958 تأسس الفرع اليمني للحركة القومية العربية الثورية من عدد من ألمع المناضلين الوطنيين والمثقفين الثوريين القوميين، الذين درسوا في القاهرة والشام ولبنان، وهم: سلطان أحمد عمر، وفيصل الشعبي، وعبد الحافظ قائد، وقحطان الشعبي. وكانوا قد ابتعثوا من عدن للدراسة الجامعية في البلدان العربية الرائدة آنذاك. كان هؤلاء الشباب امتداداً للحركة الوطنية الشعبية في عدن واليمن والجنوب، وكلفوا بقيادة التنظيم الثوري القومي الوطني، والاستعداد للثورة المسلحة ضد البريطانيين كأولوية وطنية قومية تعلو على كل الأولويات الأخرى. وكان التنظيم بقوميته الوطنية الوحدوية قد تجاوز إشكالية المستعمر التجزيئية. وأنشأ إطاراً وحدوياً قومياً ثورياً يعلو على كل الأطر الصغيرة والمشروعات الإقليمية المشبوهة. وقد ساعد المناخ الثوري القومي الذي خلقته الدعاية الثورية من خلال إذاعة «صوت العرب» التي كانت واسعة النفوذ، كاسحة التأثير، وذات مصداقية لا تقهر بين الجماهير، كما لعبت صحيفة «الحرية» اللبنانية الفلسطينية، ومجلة«الطليعة» الكويتية، الأسبوعيتان دوراً هائلاً في التوعية القيادية ورسم الاتجاهات العامة للحركة والنشاط الوطني ضد الاحتلال وربط الفروع القطرية بالقومية المركزية.
وقد تعرف هؤلاء الشباب على الدعوة والتنظيم القومي العربي في البلدان التي ابتعثوا إليها، وكلفوا بالعودة إلى البلاد لتأسيس الفروع اليمنية الثورية لتبدأ بالاستعداد للثورة القادمة بين الجماهير.
وفي عدن وتعز وبلاد المهجر وصنعاء ولحج والضالع ويافع وأبين وحضرموت والمهرة، أقيمت فروع وخلايا قيادية راحت تكبر وتستعد وتنمو طوال الأعوام الـ5 التي سبقت الثورة، 5 أعوام من التحضيرات الطويلة والمضنية في مجال بناء القيادات والكوادر والاختصاصات، وفي تنظيم وتثقيف وتحريض الجماهير واستقطاب الأفضل منهم وتوحيد كلمتهم حول الهدف المشترك والأسلوب الكفاحي الرئيسي. وقد توفرت أعداد كبيرة وكافية من القيادات والكوادر الميدانية لتنظيم الثورة والتمهيد لها بدعم وحماية الثورة في الشمال وصيانتها وحمايتها من الانتكاس.