علي نعمان المقطري / لا ميديا

لكل قوة حدود، ولكل قدرة نهايات منطقية لقوتها لا تستطيع تجاوزها، وإذا حاولت تجاوز تلك الحدود، فإنها سرعان ما تصاب بالانهيار والسقوط، وتبتدئ بالانهيار والتآكل الذاتي، فكل تقدم جديد تحققه على ميدان الحرب ما هو إلا بداية لتراجع جديد في قوتها وقدراتها، لأن طاقاتها تكون قد استنفدت في احتياطاتها الأساسية، وكل توسع جديد على أرض الصراع يقود بدوره إلى تقليص مناطق سيطرتها السابقة، لأنه يترتب عليه استنزاف المزيد من القوى والاحتياطات والأرصدة.

 توازن 3 قوى
عندما تتواجه قوتان في حرب ما، فإن ما يحسم النتيجة بينهما هو توازن 3 قوى مجتمعة متفاعلة متصادمة في مختلف الميادين والمجالات، وهي قوى العدد والعدة والعقيدة المعنوية، وحين تكون إحدى القوتين غريبة عن الأرض وغازية، فإن عامل الأرض يصبح مرجحاً للقوة صاحبة الأرض.
وإذا افترضنا توازن القوتين، فإن صاحب الأرض أيضاً يكون هو المسيطر والغالب حتماً، ويلعب تطويل الوقت في المعارك الاستنزافية غير الحاسمة في صالح صاحب الأرض مهما كان مجموع خسائره العددية والمادية ما دام عامل الوعي العقيدي اليماني مشتعلاً لديه، فهو يقوم بالتعويض الدائم عن القوى المستنزفة بوتائر أسرع من وتائر تعويض العدو الغازي، وهذا ما تكون عليه الحروب الوطنية.
فالحروب الوطنية التحررية تقوم على رغبه الغازي في الحسم العاجل للمعركة، حيث يقوم برمي معظم قواته إلى المعركة بهدف تحقيق تغلب ساحق على الطرف المدافع، والذي تقوم خطته على المماطلة والمناورات، بهدف استدراج الغازي إلى حروب الشعب الطويلة البعيدة عن قواعده، وممارسة الإغارات السريعة على مؤخراته ومجنباته التي تزداد انكشافاً كلما توسع الغازي في نشر قواته على الأرض على مسافات متباعدة منفصلة، فحينها يفقد التركيز والوحدة والتساند، فيتم إنهاكه.
ويسقط الغازي في الحرب عندما تتقطع عليه خطوط الإمداد، وتبعد عنه قواعده الاستراتيجية الواقعة على بعد آلاف الأميال من ميدان الحرب والمعارك، وعندما لا يستطيع مواصلة التعويض عن خسائره البشرية، ولو كانت أقل من خصمه القادر على التعويض السريع عن خسائره في المعركة بأسرع من الغازي، وتشكل هذه النقاط مراكز ضعف العدو الغازي، ويصل به إلى لحظة تختل موازين القوى في غير صالحه على الأرض، فتخور عزائمه وتنهار معنوياته، وكان العدو قد استنفد أغلب الطاقات التي راكمها بعد أن تعرض للتقطيع والحصار الكبير عبر خط الإمداد الرئيسي الوحيد الممتد من باب المندب إلى ميدي، حيث تمكن أبطال الجيش واللجان الشعبية من تقطيعه في عدة مفاصل رئيسية أدت إلى وقوع أغلب قواته في الحصار المباشر وغير المباشر.

تقطيع أوصال العدوان
منذ يوليو الماضي أضحى العدو دون خط إمداد بري بعد أن تعرض للتقطيعات الأربعة الكبرى على خط التقدم البري في المفاصل الواقعة بين المخا والتحيتا والدريهمي والحديدة، ومنذ يونيو الماضي وبعد شنه الهجوم الاختراقي الأخير الكبير على الساحل الغربي في طريقه نحو جنوب الحديدة، تعرض العدو لهجوم يمني مضاد على مجنباته ومؤخراته من مفاصل جنبات الطريق الرئيسي للإمداد البري القادم من المخا ـ المندب إلى الحديدة على مسافة 200 كيلومتر جنوب الحديدة ـ حيس ـ الخوخة، أي أن العدو أصبح معزولاً مقطوعاً عن قواعده وقطعاته الحربية الأخرى التي يجري عزلها عن بعضها البعض على طول المسافة الواقعة من شمال المخا إلى جنوب الكيلو 16 ومدينة الحديدة، ومن تلك اللحظة يدخل العدوان طريق الكوارث، ويصبح سقوطه حتمياً وإجبارياً، لأنه صار مختنقاً يستهلك من رصيده الضروري المحدود الذي بالكاد يبلغ به الحد الأدنى للبقاء لأيام وأسابيع مادام الحصار مستمراً.

كوارث جبهة العدوان
لقد فشل العدو في تحقيق 3 مهام استراتيجية ضرورية لكل تقدم على الساحل، لكن في حقيقة الأمر حتى وإن كان الطريق مفتوحاً أمامه فلم يكن سوى مجرد استدراج لا أكثر للتوغل داخل جغرافية الكمين على طول مساحته، وهذه المهام الثلاث هي:
1- تجاوز جبال العمري وكهبوب والتقدم على يسارها نحو ذوباب ـ المخا ـ يختل، دون السيطرة على هذه المرتفعات والجبال الممتدة من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، حيث تنتشر قوات الجيش واللجان فيها، وكانت النتيجة الأولى هي وقوعه في مصيدة تقطيع قواته بين المندب ـ المخا.
2-  الفشل في السيطرة على مناطق شرق موزع ـ المخا ـ يختل في جبال البرح وحمير وشمير وشرعب.
3-  الفشل في السيطرة على المناطق الحاكمة على الساحل وطرقها البرية، وهذه المناطق هي التحيتا وزبيد والجراحي وبيت الفقيه والدريهمي والمنصورية والحسينية والمراوعة، ولم يفلح في محاولاته الحثيثة التوسع خارج الشريط البحري الضيق.
وإذا علمنا أن العدو يقف خلف الطريق الرئيسي الساحلي الجديد حيث كان يتحصن قبل توسيع الهجوم شمالاً، سنعرف مدى عمق نكسته وأزمته الحربية ومصائبه، وقد وضع العدو نفسه ما بين البحر والرمال بعمق 20 كيلومتراً غرب الطريق الساحلي الجديد، مسنوداً بقوة الطيران والبوارج البحرية في مواجهة قوات الجيش واللجان المسيطرة شرقاً على طول الساحل التهامي، ما يعني أن العدو جعل الطريق الساحلي الجديد خط جبهته الأمامية وتماسه في المواجهة اليومية للمعركة، وهو نفسه خط إمداداته البرية الرئيسية الوحيد، فوضع نفسه تحت رحمة قوات الجيش واللجان المسيطرة على المناطق المرتفعة شرق الساحل الغربي.
بهذا التنظيم الحربي المهووس أصبح خط الجبهة المتقدم التماسي هو نفسه المؤخرة والمقدمة والأجناب والخط الإمدادي الرئيسي في وقت واحد، وليس لها أي عمق على الأرض بحيث لا يزيد عمقها عن شريط الرمل الساحلية وبعدها البحر في عمق ضيق معرضاً لمختلف الكوارث.
وكانت الكارثة الأولى التي تلقاها هي أنه حشر قواته بين قوات الجيش واللجان المرئية واللامرئية ومجالاتها الجغراستراتيجية وفراغاتها الحيوية من كل جانب وتعريضها للتطويق المباشر وغير المباشر من عدة جهات على طول المنطقة المواجهة لشرق الساحل، بعد أن خاض سلسلة طويلة من المواجهات المباشرة أمام قوات الجيش واللجان في المخا والبرح ويختل والعمري والوازعية وموزع، ووصل إلى طور الإنهاك والتراجع من كثرة الهزائم والانكسارات اليومية طول عام تقريباً من يناير 2017 إلى يناير 2018.
وفي يناير 2018م لجأ العدو إلى تغيير الاتجاه الرئيسي للتحرك والهجوم، فبعد أن كان يحاول الاتجاه شرقاً للسيطرة على المناطق الحاكمة على المرتفعات الموازية للساحل التي تسيطر عليها قوت الجيش واللجان في أطراف محافظة تعز الغربية، تحول إلى الاتجاه شمالاً بعد أن وصل إلى حالة من العجز في مسعاه، فلم يتمكن من التقدم خطوة واحدة أبعد من مفرق موزع ـ الوازعية ـ حيس، أمام معسكر خالد ومفرقه، وبعد عام كامل قضاه أمام مفرق موزع ـ البرح تكبد خلاله آلاف القلى والجرحى والمعدات والآليات والمدرعات.

مصير مأساوي
كان الهجوم الكبير الذي رأسه القيادي المرتزق هيثم قاسم، قد حُشدت له قوات تجاوزت الـ30 ألفاً من المرتزقة الجنوبيين الانفصاليين التابعين للإمارات، توزعت على مناطق الساحل بين المندب ـ ذوباب ـ المخا، قد تلقى الدعم التام من ألوية طارق عفاش الموجودة في الساحل وفي العمليات والقيادة التي سلمت لهم الخرائط والبيانات والشفرات التي على أساسها تمكنوا من الوصول بحراً إلى المخا وتسليم معسكر خالد والدفاع الجوي ومخازن الصواريخ والذخائر والأسلحة والمنطقة العسكرية والالتحاق بالغزاة عند وصولهم، وبعد انكشاف الخيانة الداخلية وتصفية بنيتها العسكرية أصبح وضع الدفاع اليمني صحياً متشافياً، ولذلك تحولت مناطق شرق معسكر خالد وجبل النار إلى محارق للغزاة وحقول للموت، وكانت نتيجة الحملة تلك أكثر من 7000 قتيل وجريح، وتدمير نحو 950 من الآليات العسكرية ما بين مدرعات ودبابات ومدافع وبوارج وزوارق حربية وطائرات، أما مالياً فقد وصلت خسائر العدو إلى مئات المليارات من الدولارات.
وانتهت تلك الحملة بمصرع الكثير من القيادات العسكرية الكبرى للعدوان ومرتزقته؛ أبرزهم الفريق عمر الصبيحي، والفريق أحمد سيف اليافعي، بالإضافة إلى إصابة الفريق عبد الغني الصبيحي، ثم تم الدفع بألوية العمالقة وقوات عفاش لتتولى إنقاذ ما تبقى من قوات على المخا والساحل، وبعد أن جربت الحرب على أرض المخا شرق معسكر خالد وشعاب موزع والبرح، وذاقت الأمرين والنكسات قررت قيادتها التمدد في أراضي محافظة الحديدة وغزوها، وكان العدو قد أطال البقاء في المخا، ولم يحاول تجاوز محيطها لعام كامل.
إن فشل العدو في السيطرة على جبال كهبوب العمري ـ الوازعية التي تتحكم بخطوط العدو من الشرق ومن الغرب والجنوب، وتطل مرتفعاتها على باب المندب، وتشرف من الغرب على الخط الساحلي والبحري القادم من باب المندب إلى المخا ـ ذوباب، هو فشل أسس لكل إخفاقات العدو طوال الحرب على الساحل الغربي، كما أن عمليات قوات الجيش واللجان في كهبوب ـ الوازعية جعلت العدو يعيش حالة حصار من مؤخراته البرية على طول الساحل بين المندب والمخا ويختل، وتعرضت الكثير من قوات العدو للكمائن والإغارات بشكل مستمر.
كان الخيار المتاح أمام العدو للخروج من المأزق الأساسي هو مواصلة الضغط على السلاسل الجبلية المسيطرة على الساحل جنوب المخا، فهو يعلم تماماً أن السيطرة على هذه السلاسل الجبلية مستحيلة، وأن أية محاولات في هذا الاتجاه ستكون مكلفة وشاقة، وبالتالي لم يكن أمام العدو سوى البقاء حول هذه السلاسل غرباً وجنوباً واحتوائها لمنع قوات الجيش واللجان من اجتياح الساحل من أقصى جنوبه الغربي من قلب السلاسل الجبلية التي تتمركز فيها وحولتها إلى عرائن أسود يصعب زحزحتها عنها.
غير أن العدو أغرته فكرة السيطرة على الحديدة والموانئ والسهل الساحلي كله بطرق خفيفة ورخيصة التكاليف من وجهة نظر قياده العدوان (أمريكا والسعودية والإمارات) على الأرض، والحقيقة أن أهداف العدوان قد تقاطعت على الساحل، فقد رأت في الكتلة الحربية العسكرية الانفصالية القبلية الكبيرة المتوفرة خطراً مستقبلياً عليها وعلى مشروعها في احتلال وسلخ الجنوب والساحل اليمني وضمه لكيانات للعدوان، فأرادت إغراق تلك الكتل الحربية الانفصالية المتعصبة في محارق الساحل وحقوله الملغمة وإبعادها عن قلب الجنوب حيث يجري عمليات لإعادة تركيب البنية السكانية والسياسية والأمنية والعسكرية، وهكذا راحت مجدداً خلال العام 2018م تزف عشرات الآلاف من المرتزقة نحو الساحل الغربي، مصورة لهم أن الأمر لن يختلف عن تحديات السيطرة على المخا ـ يختل ـ المندب ـ ذوباب.
كان العدو يرى في التمدد الساحلي ليس فقط الحديدة وموانئها، بل ما هو أبعد من ذلك، فهو يلامس أطراف محافظات الداخل الرئيسية الكبرى الأهم؛ تعز وإب وريمة وذمار وصنعاء والمحويت وعمران وحجة وصعدة، وكما صرح هادي، شيخ العدوان وجراره، أكثر من مرة، حول استراتيجية الحصار والتطويق عن بعد التي تتبعها قيادة العدوان، وقد كان العدو يستهدف 8 محافظات تحيط بالعاصمة، حيث خطط لإعادة فتح 8 إلى 10 جبهات جديدة كبرى على هذه المحافظات، انطلاقاً من الحديدة بعد السيطرة عليها.

مناورة الغزاة الخائبة
لم يكن العدو يملك الكثير من الزمن بعد مجيء ترامب إلى سدة الرئاسة الأمريكية مع نهاية العام 2016م، وبداية العام 2017م، ولتحقيق أقصى الفوائد خلال عهد ترامب تم توظيف أقصى القدرات الأمريكية الاستراتيجية والتسليحية واللوجستية والمخابراتية، بالإضافة إلى الإمكانات المالية السعودية التي تخطت نفقاتها تريليونات الدولارات، تم توظيف كل هذا في إطار معركة الساحل الغربي، وهو ما انعكس في تضاعف الثقل الأمريكي ـ الإسرائيلي في ميدان معركة الساحل وفي البحر الأحمر بجزره وموانئه وممراته ومجالاته الاستراتيجية الدولية.
(*) المركز الاستراتيجي للأبحاث الوطنية