حلمي الكمالي/ لا ميديا

عقب قيام ثورة 14 أكتوبر1963 المجيدة ضد الاستعمار البريطاني جنوبي اليمن وإعلان الجلاء في 30 نوفمبر 1967، لم يفقد الاستعمار آماله في السيطرة على البلد مرة أخرى وتمرير مشاريعه التمزيقية، بل باشر على الفور بوضع قدم له في الساحة الجنوبية عبر تطبيع علاقاته مع رموز السلطة وقادة الحزب الحاكم آنذاك، وقد استطاع من خلالهم عرقلة كل المشاريع الوطنية الحقيقية، وبدأت مظاهر الاستعمار تعود شيئاً فشيئاً خلال العقود الأخيرة في الساحة الجنوبية حتى أصبحت مؤخراً ساحة للمستعمر يصول ويجول فيها كما يشاء. 
بعض رموز دولة (الاستقلال) الذين كانوا ومازالوا يوقدون شعلة ثورة 14 أكتوبر كل عام كانوا يقومون بتمرير المشروع البريطاني طيلة هذه المدة منذ إعلان الجلاء وحتى دعمهم اليوم للاحتلال الإماراتي السعودي والمدعوم أمريكياً وبريطانياً.
في هذا التقرير نحاول سرد أهم مظاهر الاستعمار وأدواته التي تسللت إلى المشهد الجنوبي، وما آل إليه حال ثورة 14 أكتوبر المجيدة.

أحداث دموية
شهد جنوب اليمن العديد من الأحداث الهامة عقب الاستقلال، منها قيام السعودية باحتلال الوديعة وشرورة، وحرب 86 الأهلية، وقيام الوحدة مع الشمال، وحرب الانفصال 94. ويؤكد المحلل السياسي محمد مكي أن المراحل الدموية التي شهدها جنوب اليمن كانت بسبب اختراق العدو لبنيان الثورة وتمكنه من شراء ولاءات بعض قياداتها قبيل اندلاعها. ويشير مكي إلى أن لندن كان لديها علم مسبق باندلاع الثورة منذ عام 1957. ويضيف أن هناك الكثير من المحطات والمواقف التي تؤكد استمرارية مشروع المحتل في الأراضي الجنوبية عبر أدواته بمختلف الأشكال والنواحي حتى اليوم. 

اختراق دولة الاستقلال
بالرغم من إعلان الاستقلال عن الاستعمار البريطاني إلا أن أجندات الأخير ظلت حاضرة في الجنوب اليمني وتمكنت من اختراق أجهزة الدولة، وهو ما تسبب في عدم الاستقرار خلال 23 عاماً وحتى قيام الوحدة اليمنية.
ودعمت المخابرات البريطانية ما يسمى بالجبهة القومية التي سيطرت على الحكم عقب الاستقلال وأسست جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وذلك لتعطيل أي مشروع وطني حقيقي.

وثائق سرية عن الجبهة القومية
وكشفت الدكتورة أسمهان العلس في كتابها (وثائق تاريخية) أن المخابرات البريطانية كانت تدير شبكة من عسكريين وسياسيين جنوبيين بعد الاستقلال. وذكرت العلس بناءً على معلومات سرية أن المندوب البريطاني (جانج) وعضواً من المخابرات المركزية يدعى سمرفيلد عقدا عدة اجتماعات في مطلع يوليو 1967 مع مجموعة من القادة العسكريين والسياسيين الجنوبيين، بينهم قحطان الشعبي أول رئيس لدولة الاستقلال وعلي شائع وصالح مصلح والعقيد حسين عثمان والمقدم علي عبدالله ميسري والمقدم أحمد محمد بلعيد والمقدم مهدي عشيش والمقدم محمد أحمد ميسري والمقدم سالم قطيبي وآخرون. وقد أسفر عن هذه الاجتماعات تمكين الجبهة القومية من الحكم بعد الثورة مقابل أن تشرف لندن على سير حركة التغيير. 

العلاقة مع الاستخبارات البريطانية 
وذكر عبده حسين الأهدل في كتابه "الاستقلال الضائع" أن رموز جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية كانوا على علاقة وطيدة بالمخابرات البريطانية وعملوا لصالحها عقوداً طويلة، وأن حلم الثورة كان وهماً خدعوا به المجتمع الجنوبي.

تلميذ الاستعمار وسفيره
إن الحديث عن الاستقلال الضائع يبدو واقعياً للغاية وفقاً للكثير من الحقائق المنظورة في تاريخ ومواقف الكثير من رموز التحرر، فعلى سبيل المثال: 
يعد الأمين العام السابق للحزب الاشتراكي اليمني، ياسين سعيد نعمان، أبرز المطبعين مع قوى الرجعية والاستعمار، فإلى جانب دعمه الواضح والمعلن لتحالف العدوان الأمريكي السعودي على البلد، وتعيينه سفيراً في بريطانيا ـ بلد الاستعمار وأحد اللاعبين الأساسيين في العدوان، فإن نعمان كان مرتبطاً بأجهزة الاستخبارات البريطانية منذ زمن بعيد، وهذا ما اعترف به بنفسه بشكل غير مباشر، في مقال له نشرته إحدى الصحف الخليجية وتحدث فيه عن قيام أستاذ طفولته البريطاني بزيارته بعد مرور 23 عاماً أثناء تواجده في لندن. وأجزل ياسين في مقاله الشكر لمعلمه البريطاني هذا. حديثه هذا أثار شكوك الكثير حول علاقته بالمخابرات البريطانية، فليس من المعقول أن معلماً تتلمذ على يديه في طفولته يقوم بزيارته بعد أكثر من عقدين، ثم كيف علم المعلم البريطاني أصلاً بقدومه إلى لندن؟!

احتلال الوديعة وشرورة
عملت أدوات المشروع البريطاني في المنطقة على عرقلة الثورة، فالسعودية لم تعترف بالفعل الثوري في الجنوب اليمني ولا بجمهورية اليمن الديمقراطية، بل إنها وعقب الاستقلال، وتحديداً في 6 ديسمبر 1969 احتلت بقواتها العسكرية منطقتي الوديعة وشرورة الحدوديتين.
الاعتداء السعودي السافر لم يلق أية مقاومة حقيقية من سلطات الدولة الجنوبية حينها، والتي كانت مشغولة بدعم ثورة إقليم ظفار ضد سلطنة عُمان، وهي الثورة التي تبنتها حكومة عدن باعتبارها امتداداً للحكم الماركسي جنوب اليمن، وذلك بتوجيه من الحكومة السوفييتية. ولم تعترف السعودية بجمهورية اليمن الديمقراطية إلا في عام 1976.
ومن المفارقات العجيبة أن أبرز القيادات الجنوبية التي تتحدث اليوم باسم الدولة الجنوبية وتتغنى بثورة 14 أكتوبر هي أول الداعمين لتحالف العدوان الأمريكي السعودي على البلد والذي يفرض سيطرته على منفذي الوديعة وشرورة ومعظم المحافظات الجنوبية في ظل مباركة من رموز ودعاة ثورة 14 أكتوبر التي عملت السعودية على مناهضتها منذ انطلاقها.

وجه آخر للاستعمار
لم يكن لسلاطين الجنوب اليمني أي مواقف وطنية ضد الاستعمار البريطاني، بل العكس تماماً، فقد كانوا بعض أذرع الاستعمار لقمع الناس وسلب حقوقهم وممتلكاتهم، إلى أن غادروا الوطن قبيل اندلاع الثورة، ليستقروا في بريطانيا والسعودية. وفي مطلع الثمانينيات، التحق بعض أبناء السلاطين بالتنظيمات الإرهابية، حيث شاركوا مع المجاهدين الأفغان في حربهم ضد موسكو بدعم أمريكي سعودي، ومن أبرزهم طارق الفضلي.
ومنذ مطلع التسعينيات وحتى نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة عاد إلى الوطن نحو 200 من سلاطين السلطنات الجنوبية، وقد مكنهم النظام السابق من القوة والمال ومنحهم مساحات واسعة من الأراضي والمزارع دون أي مسوغ قانوني بعد سلبها من أصحابها.
وبحسب مراقبين فإن عودة السلاطين لم تتم وفق مصالحة وطنية ضمن أسس دولة الوحدة: الجمهورية اليمنية، وإنما بطلب من الحكومة البريطانية وبدعم من السعودية والإمارات، وذلك لإثارة النعرات الطائفية والمناطقية من جديد.

رفض عودة عائلة حميد الدين
في المقابل لم يسمح النظام السابق بعودة عائلة الإمام يحيى حميد الدين إلى الوطن مثلما سمح بعودة السلاطين، بل استخدم أقسى العقوبات بحقهم، فقد سحب منهم الجنسية، ورغم أن الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح كان قد وجه بإعادة الأملاك الخاصة بعائلة الإمام، إلا أن ذلك لم يتم.
ويرى محللون أن منع النظام السابق عودة عائلة الإمام كان بفعل ضغوط بريطانية وأمريكية، لأن العائلة رفضت العمل لخدمة أجندات المستعمر الغربي، على عكس السلاطين الذين مثلوا أذرعاً ناعمة للاستعمار ومشاريعه التمزيقية.


أبرز العائدين من السلاطين وأبنائهم:

طارق بن ناصر بن عبد الله الفضلي، من أبناء سلاطين محافظة أبين وأبرز العائدين سنة 1989 بعد مشاركته في صفوف الجماعات الإرهابية في أفغانستان والسعودية.

عبدالله بن عيسى بن عفرار، أحد سلاطين المهرة، وقد عاد إليها مطلع العام 2014 قادماً من الإمارات.

غالب بن عوض بن صالح القعيطي، أحد سلاطين حضرموت، وقد طالب في 2011 بانفصال حضرموت عن اليمن.

قائد بن عبدالله الكثيري، أحد سلاطين سيئون ويعتبر الكثيري من أكبر رجال الإقطاع في سيئون.

محسن بن فريد العولقي، عاد في مايو 2010.ويمتلك العولقي عدة عقارات ومساحات شاسعة من الأراضي في شبوة.

عوض محمد بن الوزير العولقي سلطان سلطنة نصاب بشبوة عاد إلى الوطن بعد حرب صيف 94، ويملك نفوذاً كبيراً في جنوب اليمن.

وفي 25 أغسطس الماضي عاد مجموعة من السلاطين، 
هم فاروق بن علي بن منصور بن غالب الكثيري، وفوزي بن عبد المجيد بن علي بن منصور بن غالب الكثيري، 
وأنور بن رشاد بن علي بن منصور الكثيري، إلى مدينة سيئون، بعد عقود من نفيهم إلى السعودية.



استعادة أسماء الحقبة الاستعمارية
ـ مستشفى الجمهورية بعدن: تم إعادة اسمه إلى مستشفى الملكة إليزابيث مطلع العام 2012 بقرار من الخائن هادي.
ـ  تمثال الملكة فكتوريا: عاد مرّة أخرى في العام 2002 إلى حديقة التواهي بعد غياب 35 عاماً.
ـ حديقة نشوان التي يتواجد فيها تمثال الملكة: تم تغيير اسمها إلى حديقة الملكة فكتوريا، بالتزامن مع عودة التمثال.
ـ حي بنجسار بالتواهي: تم إعادة تسميته مؤخراً بهذا الاسم مع عدد من مقابر ومعالم الإنجليز.
ـ مدرسة تمنع: تم تغييرها إلى مدرسة الباردي.

بعد 55 عاماً للثورة الجنوب يحتفي بابن المستعمر
في 28 يونيو العام الجاري وصل المبعوث الأممي مارتن غريفيث إلى عدن في أول زيارة له وسط استقبال كبير من أبناء المحافظة الذين رفعوا شعارات ترحب به (أهلا يا ابن عدن).
ويؤكد محللون سياسيون أن هذه الصورة تختصر الحال المؤسف الذي وصل إليه أبناء الجنوب بعد ثورة 14 أكتوبر، فبدلاً من أن يقفوا صفاً واحداً لمواجهة مشاريع الاحتلال، فإنهم يرحبون بابن المستعمر البريطاني، في دلالة مؤكدة على عجز وضياع أهداف الثورة وأن العدو استطاع تمرير مشروعه على ظهر الثورة.