صلاح العلي/ لا ميديا

تعمل الدراما المصرية لفترات طويلة في إنتاج الأفلام التاريخية الإسلامية
 تحت شعار تعليم الأجيال وتعريفهم بتاريخهم العربي الإسلامي... لكن الجلي أنها لا تتناول كل الأحداث -لاسيما المفصلية منها- على حد سواء، والأمر ذاته مع الشخصيات الإسلامية. فما خلفية ذلك؟! وما الذي يفصح عنه؟! يعد فيلم «الرسالة» الشهير للعقاد أول الأفلام التي أُنتجت عن البعثة النبوية الشريفة  وبداية الدعوة الإسلامية. وفي الفيلم لم تظهر شخصية الرسول صلى الله عليه وآله والخلفاء 
الأربعة وآخرين مثل الإمام الحسن والحسين عليهما السلام، بينما جسدت شخصيات مثل بلال بن رباح 
وعمار بن ياسر وحمزة بن عبد المطلب عليهم السلام. فما سبب هذا الانتقاء؟
ومن جانب آخر، تناولت السينما المصرية العديد من الشخصيات الإسلامية وسيرها وأعدت 
مسلسلات  عن حقب تاريخية عدة، منها الفترات الأموية والعباسية والأيوبية والمملوكية...
لكنها لم تتناول شخصيات وفترة ما بعد ارتقاء الرسول صلى الله عليه وآله، التي 
هي  أهم الحقب في التاريخ الإسلامي. فلماذا؟!

السينما وصناعة الوعي
هناك ارتباطاً جدلياً وثيقاً بين العلاقات الاجتماعية السياسية السائدة في مجتمع مُعين، وبين الأشكال الأساسية للثقافة الروحية لهذا المجتمع، ومن بينها الفن بأجناسه المختلفة، على اعتبار أن إنتاج الثقافة الروحية للبشرية إنما هو شكل من أشكال الوعي الإنساني.
وتُعد السينما أحد أهم الأجناس الفنية التي تساهم في تشكيل وتوجيه الوعي الإجتماعي، لقدرتها العالية على الجمع بين الصوت والصورة والتحكم بالأبعاد والمشاهد وإضافة المؤثرات، لاسيما مع تطور وسائل الإنتاج السينمائي. فأين موضع السينما المصرية من تشكيل الوعي الجمعي للمجتمع العربي الإسلامي؟! وفي خدمة أي القضايا تقف؟!  


خلف كل تحريم خارج القرآن لحية وهابية
اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة السعودية، وقرار مجمع الفقه الإسلامي الذي انعقد بمكة المكرمة، وهيئة كبار العلماء بالسعودية... يبررون عدم تمثيل شخصيات الصحابة وأوائل المسلمين بأنه إساءة لهم، باعتبار أن من يقوم بالتمثيل ليس على ذات المكانة الأخلاقية والقيمية الإسلامية وليس في مستوى الإيمان... إن لم يكن لا يمتلكها من الأساس، وفق هذا المنطق الوهابي، على الرغم من علم المشاهد أن الممثلين ليسوا هم الشخصيات الأصلية إنما يمثلون أدوارها! ويُبررون أيضاً أن إعادة رسم الأحداث والقضايا هو عملية قدح في الدين وتشكيك في العقيدة!!
وتقول هذه الفتاوى إن تجسيد شخصيات الصحابة وتمثيل حياتهم هو فتح باب للطعن والتشكيك بهم. ولا جدل أن خلفية ذلك هي الفزع من فتح ملفات مظلومية أئمة آل البيت عليهم السلام، وما الذي وقع من جرم مع الإمام الحسن والحسين بشكل أكبر، وبالتالي ما تعرضت له حفيدات الرسول من سبي واعتقال وضرب... ومما يبدو أن الدراما المصرية تقوم بإنتاج وإخراج ما يتواءم مع المحاذير والتوجهات السياسية الوهابية.
وفي فتاوى اللجنة الدائمة (1 /712): "تمثيل الصحابة أو أحد منهم ممنوع؛ لما فيه من الامتهان لهم والاستخفاف بهم، وتعريضهم للنيل منهم، وإن ظُّن فيه مصلحة، فما يؤدي إليه من المفاسد أرجح، وما كانت مفسدته أرجح فهو ممنوع". وقرار المنع من هيئة كبار العلماء والصادر بإجماع جميع أعضائها، صادقت عليه كل من دار الإفتاء المصرية ومجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة التعاون الإسلامي.

مسلسل «عمر»..  لماذا الاستثناء؟
مسلسل تاريخي تلفزيوني كلف إنتاجه 200 مليون ريال سعودي، إنتاج مشترك بين  تلفزيون الشرق الأوسط ومؤسسة قطر للإعلام، ويحكي سيرة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب. وفي هذا المسلسل لأول مرة يظهر وجه عمر ابن الخطاب الذي كان فيما سبق محرماً، فما الذي استجد  هذه المرة؟! ولماذا لم يُفرج عن وجوه بقية الصحابة؟!
إن التاريخ هو مدخل الجواب على هذا السؤال، فقد أنتج هذا المسلسل في العام 2012م، أي في سنين التعبئة الطائفية الموجهة لكبح ثورات الربيع العربي وحرف مسارها، وهي التعبئة التي اشتغل عليها الإعلام السعودي الوهابي وإخوته، وقد تطلبت هذه الحاجة السياسية كسر أحد  "المُقدسات" الموضوعة (وهي إظهار شخصية عمر)، وذلك لاستقطاب أوسع للمشاهدين إلى التوتر الطائفي، وخاصة من الشرائح التي لا تهتم بالبرامج الدينية المباشرة.

الأزهر وهابياً!
يقوم مجمع الأزهر بالإشراف الديني على الأفلام التاريخية الإسلامية وشخصياتها ونصوصها.وتقرر جوازها من عدمه.
أليس التحريم يجب أن يشمل جميع الصحابة لا بعضهم؟! ثم ما الداعي لتحريم تمثيل الشخصيات النبوية؟!
فتوى الوهابية السعودية وفتوى الأزهر متماثلتان في الإقرار بالتحريم، على أن فتوى الأزهر تبدي أسباباً أكثر وضوحاً من تلك التي تبديها الوهابية السعودية وتقوم بتلوينها كثيراً.
يدرج الأزهر في فتواه أن من الشخصيات المحرم تجسيدها تلك التي دارت حولها خلافات بين المسلمين وانقسم الناس حولهم بين مؤيد ومعارض، وهم الإمام علي والحسن والحسين عليهم السلام، ومعاوية!
ومن هنا تنتهج السينما المصرية في اختيار مواضيع الأفلام التاريخية الإسلامية رؤية المؤسسات الوهابية المتوغلة حتى في الأزهر. ولا شك أن الدراما المصرية أغلب الأمر صارت تبحث عن التشويق العاطفي والإدرار المالي. وقد سبق للسينما المصرية أن أحالت قصص بطولات لأبطال مسلمين إلى قصص عاطفية غريبة؛ كحال فيلم "وا إسلاماه"، الذي يروي حكاية "محمود وجلنار"!

أبو ذر لا يزال منفياً وبلال لم تغادره القيود
أنتجت السينما المصرية برعاية وتمويل سعودي وهابي أفلاماً عن أكثر الشخصيات تزويراً للدين والتاريخ الإسلامي، لعل أبرزها عمرو بن العاص وابن تيمية وابن القيم وابن حنبل وأبو هريرة. وقدمتهم للمشاهد العربي طبقاً للرواية الوهابية التي جعلت منهم أئمة الأمة ودينها. إن عورة ابن العاص التي تقبل وجه التاريخ صارت حتى تقبل وجه الشاشة وعقل المشاهد، والثعلب المحتال الطامع ملكاً ومالاً، صار فاتحاً وبطلاً أسطورياً وفق الذهنية الدرامية المصرية. والمفارقة هي كيف يتم استثناء شخصيات مثل بن العاص وأبي هريرة من الفتوى التي تحرم تمثيل كل من صاحب الرسول!
بالمقابل، لم تقم السينما المصرية والعربية عموماً بإنتاج عمل واحد عن أكثر الرجال قرباً واتباعاً للنبي صلى الله عليه وآله وإيماناً برسالته وانتصاراً ودفاعاً عنها، مثل الإمام علي وبلال بن رباح وأبي ذر وعمار بن ياسر وسلمان... عليهم السلام. ولا غرابة أن المغيبين من تناول السينما هم المحسوبون على الإمام علي الواقفين معه، بينما يتم الاهتمام بالشخصيات التي تقف بالنقيض للإمام علي وصي الرسول وباب مدينة علمه.
لا يزال أبو ذر الغفاري منفياً، ولا يزال صوته العالي بالحق مزعجاً لولاة هذا العصر تماماً كذلك العصر. وتاريخ بلال بن رباح معتقلٌ لقريش اليوم، قريش المنكسرة بالأمس أمام انتصار بلال على قيودهم. فهل حقاً رُفعت سياطهم عن ظهر بلال؟! وتكشف هذه الانتقائية عن الكيدية وتكييف التاريخ وفق مصالح خلفها الوهابية السعودية ومشروعها.

لا أصل تشريعياً لتحريم تمثيل الصحابة
تستند الوهابية في السعودية إلى حديث ينسب إلى الرسول صلى الله عليه وآله، وأوردته الفتوى بدون سند، ويدعي أن النبي قال: «أشد الناس عذاباً يوم القيامة هم المصورون»! وبغض النظر عن صحة الحديث من عدمه، فهل المقصود بـ«المصورين» مختصو التصوير بمضمونه الحالي؟!
يجيبنا القاضي العلامة محمد الباشق: لا أصل شرعياً لها للإدلاء بفتوى تحريم، فكل ما حرم جاء في القرآن. ويُشير الفاشق إلى أن المقصود هم صناعو الأصنام، وليس التصوير بمعناه الراهن. ويشير القاضي إلى ما يناقض ذلك بالقول: «إن الله أسمى نفسه المصور». ويؤكد الباشق: «لقد حرمتنا الوهابية من جمال الفنون والإبداع».
ويُضيف أنه  يجوز حتى تمثيل أدوار الأنبياء، وتأدباً فقط يتم تغطيه الوجه بهالة بيضاء حتى لا يتم التخيل وتشبيه الأنبياء بهؤلاء الممثلين، من باب التأدب وليس التحريم.