رئيس التحرير - صلاح الدكاك

كما (قد تغدو امرأةٌ يهواها القلب هي الدنيا) ـ وفقاً لنزار قباني ـ فإن مدينة بعينها نائية ومنسية ومغبونة، قد تغدو هي كلَّ خارطة الوطن.. و(صعدةُ) هي اليوم كلُّ الخارطة بذلاً وفداءً، وصلابةً وتحدياً وصموداً واجتراحاً للبطولات في مداءاتها الوطنية العربية الإسلامية الإنسانية الرحبة.
هي كل الخارطة في تقييم العدو قبل الصديق.. انكسارها انكسارُ الوطن من أقصاه إلى أقصاه، وانتصارها انتصاره.. لأنها الاختزال الأكثر كثافة وتجسيداً لجوهر الآمال والآلام الوطنية على مستوى الوعي والعمل وجرأة المبادرة واتخاذ القرار والنهوض بتبعاته وإدارة دفة اللحظة التاريخية عند هذا المنعطف المختلج من نهر الزمن اليمني العربي الإسلامي الكوني بالعموم.
الأدمغة المفتوحة على هواء الوعي الطلق بكنه الصراع البشري والعوامل المفضية لبروز التحولات النوعية في مسار هذا الصراع، وانبثاق وجود حضاري ريادي فذ وفتي في مقابل ارتكاس وجود حضاري آخر وشيخوخته وأفوله..
الأدمغة المفتوحة على مقاربات بعيدة الغور كتلك، هي فقط من بوسعها أن تلحظ هذا التناوب الاجتماعي المستمر على ريادة مواكب الزحف الوطني الخلاق، داخل بنى المجتمعات اليمنية.. هذا التناوب الحيوي الذي تصدَّرت (زبيد) ـ في سياقه المديد ـ ريادة حقبة الإشعاع المعرفي العلمي، وتصدرت (حجة) ريادة حقبة الكفاح ضد الاحتلال العثماني، وتصدرت (تعز) ريادة حقبة الحلم السبتمبري، و(عدن) حقبة الحلم الأكتوبري، وتتصدر (صعدة) اليوم ـ كاستمرار للجدلية ذاتها ـ ريادة حقبة الوثوب الوطني الكبير من حظائر الاستلاب والوصاية وارتهان الذات وأقبية الإخفاقات والهلوسة والعقد النفسية، إلى مضامير الفعل والإسهام والحضور الوازن إقليمياً ودولياً بناظم الالتزام القيمي الإنساني بالقضايا المركزية العادلة للأمتين العربية والإسلامية، في مجابهة جنازير الدهس والتغييب والمحو الامبريالية.
لا غرابة في أن حقيقة كهذه لا تروق لبروفيسورات الأزقة الخلفية وناصريي الغُرَز واشتراكيي العُلَب الليلية، الذين يعتقدون أن حواف منافض سجائرهم هي أقاصي تخوم الكرة الأرضية، وأن أنوفهم الراغمة في روث البترودولار هي سقف العالم.
لا غرابة في أن أقدام الحفاة العابرة لأسيجة العرق والطائفية والمنطقة، لا تروق لأكاديميات الكارتون والكساح التي يتأوَّل أصحابها ألف شَبَه وشبه بين دمهم (الأزرق) وبين بول بعير الدرعية، ويتأففون من بِرَك الدم الآدمي المسفوك على مدار الساعة في شمال الشمال، بفعل غارات العدوان..
كما لا غرابة في أن هؤلاء الزقاقيين الذين يقاربون قيمة الآدمي في (صعدة) بخساً من منصة الفوقية والغطرسة، هم ذاتهم من اتخذوا طيلة عقود من (بردقان) العائلات الإقطاعية في شمال الشمال، مرهماً وترياقاً جالباً لفُتات المكاسب، ومن عصا مشيخها عموداً فقرياً استعانوا به على انتفاء قيمتهم الاجتماعية في كنف السيطرة الإقطاعية اللاغية لكل قيمة ذاتية على مسرح الإخضاع والغلبة والعصبيات المقيتة.
تخوض (صعدة) معركة الوطن بلا هوادة وبلا تعويل على أنصاف الحلول، التي يُقايض أربابُها جراحَ المدينة، نصف شرفٍ بنصف سلامة، ونصف ثورة بنصف حرية، ونصف انتصار بنصف استقلال، ونصف خارطة بنصف وجود..
مثخنةً بنصال التوق اليماني تخوض صعدة المعركة ذهاباً إلى أقاصي احتمالات ضراوتها، واضعةً يداً على الجراح ويداً على السلاح، ولا تتسوَّل عطف ضمير عالمي دخل منذ زمن ثلاجة البترودولار، وغطَّ في سباتٍ مديد، كما لا تقف في منتصف الدرب لتتحسَّس إلى أي حدٍّ أنهكتها طعنات خيانات الإخوة وخذلانهم.
وفي معراج اقتصاصها للذات الشعبية المنخولة بالعثرات، تمزق صعدة الأحجبة تلو الأحجبة التي توارب الوجه الحقيقي للعدو بمنأى عن لعبة السياسة القائمة على غض الطرف عن القبصة المجرمة والاشتباك مع قفازاتها، وغض الطرف عن جوهر العدو والانهماك في تحليل أعراضه.
أدْعَى للسلامة أن تُمسك بخناق السجال مع العبد، من أن تتجاوزه لتأخذ بخناق الصراع مع سيِّده الذي دَفَع به إلى الواجهة وتَوَارَى في عتمة كواليسها..
أدْعَى للسلامة أن تمسك بخناق السجال مع (نياق الرياض الملكية) من أن تشق بحر الثيران الهائجة لتأخذ بخناق (الكاوبوي الأمريكي)..
في أعراف (الاشتباك السياسي) ذلك هو الأسلم، لكن (صعدة أنصار الله)، لا تتوخى السلامة بالكذب على الذات واعتساف واقع الصراع، ولو داهنت (البيت الأبيض) لوَضَعَ في يدها مفاتيح (البيت الحرام).. ولو وضعت يدها في يد (واشنطن) لوَضَعت (واشنطن) رقبةَ (مليك الرياض الداجن) في يد (سيد مرَّان)، تماماً على ذات المنوال الذي تلخصه عبارة القيادي الإخواني محمد قحطان مخاطباً (أنصار الله) بالقول: (اذهبوا لتتفقوا مع الرياض، ثم احكموا البلد على رؤوسنا)!
أمريكا هي الطاعون والطاعون أمريكا.. فإذا كان الرفاق قد ذوَّبوا نسيج هذه الحقيقة في حمض البترودولار، فإن هناك اليوم من يُكملُ المسيرة من آخر محطة نضال وطني، قومي، أممي، أناخ عندها اليسار في حضن (الدرعية) ومضارب (اليانكي)، إلى أقصى ضفاف الشرف والكينونة الكاملة.. هناك اليوم (صعدة أنصار الله) ذات القميص المنتَّف التي لا أمامها ملهى ولا وراءها مصرف..
فترجَّلوا إن أتعبتكم رحلةُ الكفاح أيها الرفاق الزقاقيون، فإن (صعدة) وُلِدت فوق صهوة جوادٍ لا منتهى لأشواقه إلا على ضفة السِّماكين.

أترك تعليقاً

التعليقات