مزاجية الإيمان
 

ابراهيم الحكيم

إبراهيم الحكيم /  لا ميديا -

يخطب الخطيب بالمصلين عن الأخلاق وتحريم الدين الكذب والغش والنفاق والسباب والفجور والظلم والأذى والسرقة مالا وطعاما وملبسا، ونهيه عن التنابز والهمز واللمز والغيبة والنميمة، وغير ذلك مما يحدث أن ينقضه الخطيب سريعا بكيله السباب في الخطبة نفسها أو فور مغادرته المسجد، وعند اختلافه مع بائع الفاكهة أمام باب المسجد!
تكاد شعوبنا العربية تتصدر شعوب العالم في المزاجية المتخففة من الالتزام. هذا يتجاوز النظام العام والخاص إلى الأفكار أيضا، فكثيرا ما تتناقض الأفعال مع الأقوال وتنأى الممارسات عن المعتقدات، بما في ذلك الدين وحالة التدين نفسها، على نحو يجسد حالة انفصام عام تفسر مراوحتنا مكاننا ودوام مشكلاتنا من البيت إلى المدرسة إلى المجتمع إلى الحكومة فالدولة.
يظهر هذا الانفصام أكثر ما يظهر في حالة اعتياد ترديد «التوكل على الله» لفظا حتى في أمور ينهى الله عن إتيانها، بل يحرم اقترافها أو انتهاكها! أيضا يتجلى هذا الانفصام في حالة اعتماد السواد الأعظم على الله قولا، وفي الوقت ذاته تجسيد انعدام الثقة بالله حالا وعملا، حد الاعتقاد والثقة بما دون الله! بوساطة أحدهم، أو تزكيته، أو دعمه،... الخ.
يبرز هذا الانفصام أيضا، في أن يقطع المرء وعدا ولا يفي به، ويعطي عهدا وينكثه ويطلب للشهادة أو ينبري لها فتكون زورا يغلب عليها التزوير أو التحوير أو التغرير أو الافتراء أو الإفك أو البهتان أو النقصان وكتم الحق. كذلك الأمانة، باتت صيغة رائجة للحلفان المستسهل في أوساط المجتمع وفي تمرير الكذب غالبا، والخداع، والغش، والتدليس.
مِن المؤسف والمحزن أن تخضع خيانة الأمانة لحسابات الإمكان، فإن أمن الإنسان الانكشاف وضمن غياب البرهان، مضى بكل اطمئنان في الخيانة غير آبه بحساب أو عقاب. لكن هذا ما نشهده -مع الأسف- في حياتنا اليومية وتعاملاتها، ولا نتوقف عند تبعاته، أكان على صعيد الأسرة، أو الجماعة في الحي أو العمل، والمجتمع عموما.
مِن المخيف أن النفس الأمارة بالسوء لم تعد وحدها التي تزين السيئة، بل صارت وسائل عدة تزينها وتجملها وتكسبها أيضا قيمة معنوية باطلة بمبررات خادعة تجعل منها حسنة! نعم تغدو مستحسنة بوجود من يسهل ويستسهل ويتساهل! مثل هذا ينذر بتفشي الفساد على الصعد الأخلاقية والمجتمعية والسياسية والاقتصادية، وفي مختلف مناحي الحياة!
ومما يبعث على القلق، خيارات القدوة الأبرز حضورا في المجتمع. غالبا ما تكون الأكثر انحلالا من أي التزامات دينية أو حتى أعراف مجتمعية وقبلية. صار الأقدر هبرا يوصف «حاذقا» و»أحمر عين»، والأكثر عجرفة وعنجهية يوصف شجاعا و»سمخا»! والأنكى أن يكون هذا النموذج مهابا وموقرا في محيطه، لا منبوذا ولا مزجورا.
فاجع جدا أن تنحسر الفروق الشاسعة بين الخير والشر، والصدق والكذب، والعلم والجهل، والطيب والخبث، والعدل والظلم. رغم أن التزام الصدق وقصد الخير وتوخي العدل، يوضح الفرق بين الصواب والخطأ وبين الحق والباطل، ويبدد ما بينهما من شبهات أو ملتبسات، يصورها الهوى لطمر الفرق بين الغي والرشد، كما صار رائجا، مع الأسف.
لا يصح ترك الحبل على الغارب، ومجاراة السوء إن شاع أو عم، ولا يصح الاعتماد في التسويغ والتبرير على قولهم «إذا دخلت قرية عوران إعور عينك». مثل هذا ينسف سنة الاختلاف بين البشر، في الإيمان والامتثال والأخلاق والفضل والصلاح. ولا يستقيم وميزان مَن يعملون ومَن لا يعملون، والطيب والخبيث، والمتقين وغير المتقين،... الخ.
نحتاج إلى تحصين أطفالنا بفضيلة الصدق، وتنمية مقدرتهم على التمييز بين الخطأ والصواب، والنافع والضار، واللائق والمعيب، والواجب وغير الموجب، والحلال والحرام، ليستطيعوا ببصيرة التفريق بين الحق والباطل. هذا يضمن ألَّا تكون الأجيال قطعان إمعات أو أسراب ببغاوات، تسهل غوايتها واقتيادها وإلهاؤها وخداعها، وتبعا إخضاعها.
«الحياء شعبة من شعب الإيمان» كما رُوي عن رسول الله، وبذر الحياء في الأطفال يمنع إتيانهم كل قبيح أو ذميم أو بذيء أو فاحش، ويكبح السفور والفجور في اللغو واللهو، وتبعا في الغي والبغي. الحياء يصون العفة، عفة اللسان والبدن والأخلاق والسلوك. ولا ينبغي أن يغيب الفرق الشاسع بين الدماثة والوقاحة، وبين الفصاحة والصفاقة، وبين الصراحة والبذاءة.
نحتاج أيضا، أن نغرس في نفوس الأطفال فضيلة الصدق، فالصدق منجاة، يورث الاستقامة، الوضوح، الشفافية، نقاء السريرة، وتوخي الحقيقة والحق، وتجنب النفاق والفحش في القول وتبعا الفعل. كذلك الأمانة، تورث النزاهة، نزاهة اليد والسلوك والمنافسة والنوال والإخلاص. والعفة، تورث الطهارة، طهارة اللسان والنظر والبدن والقلب والعقل.
هذه القيم الثلاث.. الصدق، الأمانة، العفة، تورث مجتمعة نبل الأخلاق وكرم النفس وعزتها والمروءة والنخوة والشهامة والحمية والنجدة، والشرف بما يعنيه من علو وترفع عما لا يليق أو يخزي عيبا أو عارا أو شنارا. وجميعها برأيي تجليات لمدى الإيمان بالله والإخلاص في عبادته وتقواه، وتمثل في ذاتها وما يترتب عليها روح الدين ونتاج التدين.
لا نحتاج إلى أن تكون تقوى الله خوفا من عذاب النار في الآخرة فحسب، بل نريدها أولا حبا لله وطاعة لله وتبجيلا لله. نحتاج أن تكون نابعة عن قناعة تغرسها التربية السليمة والقدوة الصالحة في البيت والحي والمدرسة والمسجد والإعلام والإدارة والسلطة. ولنا هنا منهج نبوي، فنبينا ورسول الله الخاتم «على خلق عظيم»، وينبغي أن يكون أسوتنا جميعنا.

أترك تعليقاً

التعليقات