د. ناصر فرحات

د. ناصر فرحات - كاتب وأكاديمي لبناني -

يا للهول! يا للكارثة! حصد كورونا بضعة آلاف من القتلى في الغرب، ونسي الغرب أنه تسبب في سقوط مئات الآلاف من الضحايا الأبرياء في اليمن وسوريا والعراق وفلسطين، وفي أفريقيا المنسية.
يقول كولن فلنت، مُحرر كتاب «جغرافية الحرب والسلام من معسكرات الموت إلى الحراك الدبلوماسي»، إن للحرب عدة أشكال، ويختلف شكل كل منها ونطاقه وضحاياه ودوافعه وأسلحته. 
لقد باتت التداعيات الجيوسياسية لفيروس كورونا تخيّم على العالم بأسره. خُلطت أولويات الدول رأسا على عقب. حكومات أنقذها الفيروس من التهاوي، وأخرى وضعها على حافة الهاوية. العلاقات الدولية والتحالفات بان مستورها، وفضحت أوهامها، وتجلّت حقيقتها. فكورونا شنَّ الحرب على البشرية جمعاء، فقضّ مضاجع حكّام العالم، وفضح منافقيه وإعلامهم الكاذب.
لن نكرر ما كتبه العالم عن نجاحات الصين داخليا من خلال سيطرتها على وباءٍ مباغتٍ شرسٍ، لكننا سوف نكتب عن تحركاتها الإنسانية في علاقاتها الدولية مع البلدان الموبوءة، وإن كانت تستطيع من خلال ذلك تجيير هذه التحركات في تطلعاتها الجيوسياسية، وتغيير نظرة العالم نحوها.
لقد أضحت الصين الملاذ الآمن الموثوق به، حتى بالنسبة إلى الشعب الأمريكي، كما ذكرت صحيفة «وول ستريت جورنال» على صفحتها، وذلك بعد أن تبين نفاق الإدارة الأمريكية وعجزها وفشلها بشكل كارثي في إدارة هذه المشكلة، كما ذكرت «واشنطن بوست». وما إقدامُ الناس على شراء الأسلحة سوى مؤشر إلى حربٍ أهلية، لعدم شعورهم بالأمن. كذلك، كذب إعلامها حين أعلن أن أول إصابة بالفيروس كانت مطلع آذار/ مارس الجاري، كما ذكرت صحيفة «نيويورك تايمز»، ليتبيّن أن أولى الإصابات جرى تحديدها في منتصف شهر يناير/كانون الثاني، بحسب صحيفة «واشنطن بوست».
لقد مدّت الصين (التي كانت حتى الأمس القريب في عداد الدول النامية) يد العون لحلفائها ولدول أعضاء في حلف الناتو، مثل إسبانيا وإيطاليا، والتي تخلّت عنها دول الغرب وأشقاؤها في الاتحاد الأوروبي، وخذلوها، كما عبَّرت صحيفة «دي-فيلت» الألمانية.
بالتأكيد، ما بعد كورونا ليس كما قبله بالنسبة إلى استراتيجيات تلك الدول وعلاقاتها الدولية، بعد أن تُركت تواجه مصيرها لوحدها، إذ سيكون لها أثرها السلبي في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، ويحتمل تفكّكهما.
هذا الغرب هو الذي استعبد شعوب الدول النامية وسيطر عليها بوسائطه وحججه المتعددة؛ كالعسكرية: «محاربة الإرهاب»، والمالية: «البنك الدولي»، والسياسية: «الفوضى» تحت مسمى الثورات، والإنسانية: «حقوق الإنسان»، والاجتماعية: «الفقر والبطالة».
هذا الغرب كان لا ينفك يفرض المشاريع الهدامة على المجتمعات والشعوب المستضعفة، ما دام بمنأى عن أي أذى، فكلما أحبطت هذه الشعوب بدمائها مشروعا من مشاريعه، أطلّ مشروع آخر برأسه، مهما كلّف من ضحايا وآلام وعذابات وتهجير وتجويع وتشريد وسبي ودماء... فمصالحه فوق كل اعتبار، وما كان للشعوب من فرصة أو أمل إلا عندما تصيب هذا الغرب نائبة تشغله وتلهيه. هذا ما أثبته التاريخ في القرن الماضي. كيف ذلك؟
ظلت شعوب العالم الثالث ترزح تحت الاحتلال والاستعمار والاستغلال لعقود من الزمن! لكن متى بدأت تأخذ استقلالها؟ ليس بعد الثورة الفرنسية، ولا بعد انتهاء الحرب الأهلية الأمريكية، على الرغم من وجود العديد من الثورات الشعبية في شتى المستعمرات آنذاك، إلا أنها لم تفلح! متى أفلحت؟ 
أثمرت هذه الثورات حرية واستقلالا عندما انشغل الغرب بنفسه، وخاض حربين عالميتين ضروسين، سببهما التقسيمات الجيوسياسية المتماهية مع أطماع زعمائه آنذاك. عندها، استطاعت الدول التفلّت من بين براثنه مع بعض المساعدة من مدّعية الإنسانية (أمريكا)، لأهدافها الجيوسياسية في وراثة دول الغرب الاستعمارية.
نعم، كورونا فرصة وأمل لشعوب العالم الثالث، فقد اعتدنا الموت واعتادنا الموت. لكن الغرب بدأ يخاف ويتلهى بنفسه، ويمكننا تنفّس الصعداء.
يا للهول! يا للكارثة! حصد كورونا بضعة آلاف من القتلى في الغرب، ونسي الغرب أنه تسبب في سقوط مئات الآلاف من الضحايا الأبرياء في اليمن وسوريا والعراق وفلسطين، وفي أفريقيا المنسية.
يا للهول! يا للكارثة! هناك عشرات الآلاف من المصابين بالزكام في الغرب، ولكن يتناسى الغرب الملايين من الجرحى والمعوقين، ممن هم ضحايا سياساته ووحشيته وجشعه!
يا للهول! يا للكارثة! سكّان الغرب يقبعون في المنازل لعدة أيام، ولكن ينسى الغرب أن هناك آلاف الأسرى والمفقودين في معتقلاته العلنية والسرية في أنحاء العالم!
طوابير من الناس في أمريكا لشراء الأسلحة، خوفا مما يمكن أن يسببه كورونا!
طوابير من الناس في هولندا أمام محلات بيع الحشيش والمخدرات، خوفا من لؤم كورونا!
طوابير من الناس في أستراليا لشراء ورق المراحيض، خوفا من خبث كورونا!
طوابير من الناس في أغلب دول أوروبا أمام المراكز التجارية لشراء المعكرونة والصودا بسبب كورونا!
يا أهل العالم، في اليمن طوابير من الأطفال الجوعى تستجدي كسرة خبزٍ يابس!
يا أهل العالم، في غزة طوابيرُ من الأطفال الفزعين تستجدي ملاذاً آمناً!
يا أهل العالم، في سوريا طوابيرُ من الأطفال الثكالى تستجدي حنانا ضائعاً!
يا أهل العالم، يا أهل العالم، يا أهل العالم، في العراق ولبنان وأفغانستان وفنزويلا ونيجيريا، وفي دول العالم الثالث، نقول: شكرا لك كورونا، لعلّهم يستيقظون، لعلّ الخوف يجعلهم يتنبَّهون إلى ما تقوم به حكوماتهم، لعلّهم يتّعظون!

أترك تعليقاً

التعليقات