د.ميادة رزوق

د. ميادة رزوق / كاتبة سورية -

شكل انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979 تحولاً استراتيجياً مهماً في التاريخ المعاصر على الصعيدين الإقليمي والعالمي، ومفصلاً تاريخياً ما بين عصر التبعية والدوران في الفلك الصهيوأمريكي، وعصر التحرر والاستقلال الوطني والانتصار للقضايا الإسلامية والتحررية العالمية العادلة لتدخل تعديلا مهما على التوازن الاستراتيجي.
فبعد أن كانت إيران الشاه تقوم على نظام حكم ديكتاتوري امبراطوري معاد للأمة العربية متعاون مع الكيان الصهيوني، ويشكل قاعدة عسكرية وسياسية أمنية استخباراتية عملاقة في هذه المنطقة الاستراتيجية، تعمل بجد ونشاط لتنفيذ مخططات الإمبريالية العالمية، مع أطماع توسعية تشكل خطراً على الأمة العربية، تحولت إلى نظام سياسي جديد يقلب الأمور رأسا على عقب يطيح بالشاه ويلغي الارتباطات الأجنبية الامبريالية، ويلغي القواعد العسكرية الأجنبية، ويقطع كل علاقة بـ»إسرائيل» ويعلن تبنيه الكامل للقضية الفلسطينية رافعا شعار «اليوم إيران وغدا فلسطين».
أدرك القائد الخالد حافظ الأسد برؤيته الاستراتيجية الثاقبة مبكراً أهمية الثورة الإسلامية من خلال الطروحات التي قدمتها والأفكار عن العدل والحرية ومكافحة الظلم وتحرير الشعوب المستضعفة ودعم الحقوق العربية وخاصة القضية الفلسطينية ودعمها لحق سورية في استعادة الجولان السوري المحتل ورفض الهيمنة الإمبريالية الصهيوأمريكية...
فوضع هذه الثورة في إطار تحقيق التوازن الاستراتيجي مع الكيان الصهيوني بعد إخراج مصر من معادلة الردع العربي وتورط العراق في إعلان الحرب على إيران بعد انتصار الثورة، والتي تم تمويلها ودعمها ومساندتها من أنظمة الرجعية العربية بقيادة الكيان السعودي وبإملاءات من الولايات المتحدة الأمريكية وتحريض من العدو الصهيوني، وذلك لتحطيم القدرات العراقية والإيرانية لإخراجها من معادلة الصراع العربي الصهيوني كما أخرجت مصر بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد في 17 أيلول 1978.
كان هناك العديد من الدراسات والكتب لمنظري السياسة الأمريكية لتكمل بعضها البعض في تأطير الحرب القادمة بأنها ليست حرباً أيديولوجية بين الرأسمالية والشيوعية، بل ستأخذ شكلاً مختلفا بسبب الصدوع الثقافية، فتتحول إلى صراع ثقافي وحضاري بين ما يسمونها الحضارة الأمريكية والعديد من الحضارات وفي مقدمتها الحضارة الإسلامية، بدءا من كتاب «صراع الحضارات» لصموئيل هنتنغتون عام 1993، الذي أسس له مهندس الثورات العربية برنارد لويس لتكون الصيغة النهائية بالدراسة التي قدمها الكاتب العسكري الأمريكي رالف بيترز عام 2006، بعنوان «حدود الدم»، والتي تتحدث عن تقسيم إيران والعراق والسعودية والإمارات وأفغانستان وباكستان، وتصل إلى أن إعادة التشكيل تنتهي إلى تأسيس دولة عربية شيعية كبرى ودولة لبنان الكبرى ودولة كردية، وإلى تحويل إيران إلى قسم من جغرافيتها الراهنة مع جعلها دولة فارسية... الخ. وتعتبر هذه الدراسة واحدة من أخطر الدراسات التي تحدد توجهات واتجاهات استراتيجية شديدة الوضوح في إظهار جوهر الخطة الصهيوأمريكية بتقسيم الدول العربية والإسلامية، والتي كان لزبينغو بريجنسكي مستشار الأمن القومي، إسهام في تفاصيلها عندما عرض عام 1979 مخطط سايكس بيكو الجديد للمنطقة، ولكن بمقاييس ومفاهيم صهيوأمريكية تستند لمعادلة تعميم ثقافة الفتنة الطائفية والمذهبية تحت عنوان النفير المخابراتي والوهابية الجهادية، فكانت حصيلة هذه الدراسات أحداث الـ11 من أيلول 2001، وصناعة القاعدة وداعش (الوجه المسخ والمشوه للإسلام) الذي يُحمّل الإسلام معنى التخلف والتوحش والإرهاب بين طياته.
وبالاستفادة من دراسة التجارب الثورية السابقة والإحاطة بهذه الدراسات الصهيوأمريكية، شكلت الثورة الإسلامية الإيرانية نموذجاً فريدا في بناء دولة الاستقلال والتنمية مع مواجهة ومجابهة المشروع الامبريالي الصهيوأمريكي، وأعطت الصورة المغايرة للإسلام الذي أرادوا تصديره، فبنت دولة إسلامية تمكنت من تطوير إمكانياتها لتجاري وتنافس أحيانا الدول الغربية المتقدمة في كافة النواحي العلمية والتكنولوجية، وحتى العسكرية منها، مشكلة بعلاقتها السياسية والدبلوماسية والاستراتيجية مع الجمهورية العربية السورية، نواة محور مقاوم عمل على استنهاض ودعم قوى المقاومة، ومدركاً أن الحرب الكونية على وفي سورية تستهدف الأمن القومي الإيراني بدءا من تفكيك محور المقاومة والصمود، ليقلب توازنات ومعادلات الردع من دفاعية سلبية إلى دفاعية هجومية تهدد أمن الكيان الصهيوني وتكسر مهابة الولايات المتحدة الأمريكية وأدواتها في المنطقة، وتنذر بزمن جديد وفق التطورات الإقليمية والميدانية يهدد وجود الكيان الصهيوني، ويَعد بتكامل اقتصادي من الصين إلى إيران مرورا بالعراق وسورية إلى لبنان، قد يكون نواة لتبلور مشروع آخر يعتمد على استنهاض الشعوب العربية المقاومة لإنجاز المشروع القومي العربي. 

(*) أكاديمية وكاتبة سورية

أترك تعليقاً

التعليقات