د.منذر سليمان

د.منذر سليمان -

"البنتاغون والبيت الأبيض يزيفان واقع الحرب (الأفغانية) لعقدين من الزمن". عنوان صادم لصحيفة "واشنطن بوست"، في 9 ديسمبر/ كانون الأول 2019، على خلفية تقرير مطول لها استند إلى "مخزون هائل من الوثائق العسكرية السرية" حصلت عليها الصحيفة ضمن ما أطلقت عليه "أوراق أفغانية"، تيمناً بوثائق فيتنام السرية التي سربها تباعاً موظف البنتاغون دانييل ألسبيرغ، في حزيران 1967، لصحيفة "نيويورك تايمز".
وكشف التقرير الصحفي عن تواطؤ القيادات العسكرية العليا بالضغط على "القادة الميدانيين لكتابة تقارير تركز على نجاح (الغزو) وتقليل عدد القتلى الأمريكيين وزيادة أعداد قتلى طالبان".
منذ القصف الصاروخي الذي تعرضت له القوات الأمريكية في قاعدة عين الأسد، 8 يناير الجاري، وحتى إعداد التقرير، 24 يناير، قفز عدد "الجنود المصابين" تدريجياً "9، 11، 18 إلى 34" يتلقون العلاج في مستشفيات عسكرية متخصصة عقب تعرضهم لما وصف بإصابات الدماغ الرضيّة. تبجّح ترامب بعد انتظار بأن القصف الصاروخي الإيراني لقاعدة عين الأسد أسفر عنه أضرار مادية طفيفة، وأن قواته "لم تتعرض لخسائر بشرية". وبعد اضطرار البنتاغون للاعتراف بإصابات، أصرّ ترامب بأن تلك الإصابات هي "أوجاع بالرأس.. ليست جدية بالمرة".
وسارع وزير الدفاع، مارك آسبر، للجزم بعد القصف الصاروخي بأنه "لم يسفر عنه أي خسائر بشرية، أو خسائر في صفوف القوات الصديقة، سواء كانوا جزءاً من التحالف الدولي أم من المتعاقدين وما شابه".
إنكار الرئيس ترامب يتماشى مع السياق التاريخي للاعتداءات الأمريكية على الدول الوطنية عبر العالم، ويعبر عن تقليد مركزي متبع للمؤسسة العسكرية وامتداداتها الإعلامية، لاعتبارات حساسية الرأي العام الأمريكي، بالدرجة الأولى، لضمان تأييده للحروب ورفدها المتواصل بالعنصر البشري المطلوب. وفي البعد الاستراتيجي، تمارس المؤسسة التضليل لإبقاء الصناعات العسكرية ومشتقاتها تستفيد من استمرار الحروب التي تدر عليها أرباحاً مالية.
خلال الحرب والعدوان الأمريكي على فيتنام، ثم أفغانستان والعراق، دأبت المؤسسة الإعلامية الضخمة على التمسك بالسردية الرسمية والإكثار من "الانتصارات الميدانية"، لضمان الدعم الشعبي وأفراد القوات المسلحة على السواء. الخسائر الرسمية في فيتنام، مثلاً، اقتصرت على "بضعة آلاف"، ما لبث أن تكشفت الأرقام الحقيقية التي بلغت 30,000 قتيل، وأسهمت حينئذ في الإطاحة بالرئيس جونسون عام 1968؛ وارتفع عدد القتلى إلى نحو 60,000 جندي قبل أن تضع الحرب أوزارها.
الجنرال الفيتنامي الأسطوري، فو نوين جياب، أوضح أن بلاده خسرت ما لا يقل عن 500,000 جندي، في الفترة 1964 - 1969، في سبيل تحرير البلاد، والتي تخللها "هجوم تيت" الشهير بخسارة صافية للقوات الأمريكية ارتكبت على إثرها مذبحة في قرية ماي لاي"، راح ضحيتها 504 من سكانها المدنيين.
بالعودة "لتصنيف" الرئيس ترامب المخالف للقواعد العلمية، اعتمدت المؤسسة العسكرية أسلوب الإنكار ووسم المشتكي من أعراض الإصابات الدماغية بأوصاف مهينة يضطر معها لكتم معاناته أمام زملائه والتي سرعان ما تتفشى وتتفاقم، دفعت لارتفاع معدلات الانتحار إلى نحو 20 مجنداً يومياً، وفق إحصائيات وزارة المحاربين القدامى لعام 2018.
أوضحت دراسة أُجريت على أفراد القوات المسلحة، 2017، أن المؤسسة العسكرية لم تتخذ خطوة واحدة باتجاه إجراء فحص روتيني للكشف عن طبيعة الإصابات الدماغية، وتركت حرية التصرف بيد "القيادات الميدانية لتحديد موعد عودة الجندي للخدمة الفعلية، عوضاً عن تقييم الطواقم الطبية المختصة". وعليه، لم تدون العديد من الإصابات بين صفوف المجندين في الحال.
كُشف مؤخراً عن عدد المصابين بالصداع أو الارتجاج الدماغي بأكثر من 400,000 مصاب منذ بدء "الحرب على الإرهاب" عام 2001. وأوضحت النشرة العسكرية المختصة "ميليتاري تايمز"، في 22 يناير الجاري، أن الأرقام الحقيقية "على الأرجح أعلى من ذلك بكثير".
يشار إلى أن البيانات والإحصائيات الرسمية لا تشمل قتلى المتعاقدين مع القوات العسكرية، بعضهم طمعاً في الحصول على الجنسية الأمريكية، إضافة لموظفي الشركات المحلية والمقاولين الذين يوفرون خدمات خاصة كتوريد الطعام وطهيه وأمور لوجستية أو خدماتية أخرى.
وأوردت النشرة ملخص رسالة الكترونية لزوجة أحد المصابين، بلير هيوز، قولها: "إن من جملة الإصابات التي تعرض لها زوجي (جندي مشاة في العراق) فإن متلازمة ارتجاج الدماغ لها أكبر الأثر في تغيير نمط حياتنا اليومية. القيادة العسكرية أخطأت في تشخيص حالته منذ 12 عاماً ودأبت على إعادة إرساله للميدان المرة تلو الأخرى"، وظهرت أعراضها بتغيير سلوكي ملحوظ وفقدان الذاكرة وصعوبات التأقلم مع متطلبات الحياة اليومية.
المؤسسة البحثية الأمريكية المرموقة، مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها، اعتمدت تعريفاً نموذجياً لارتجاجات الدماغ بأنها "تعطيل لوظائف الدماغ العادية التي قد تسببها عثرة أو ضربة أو هزة للرأس، أو إصابة تخترق الرأس".
الأهمية المعلقة على التصنيف العلمي لتلك الإصابات أنها ستفرض نفسها على آليات التعاطي ومعالجة المؤسسة العسكرية ومشتقاتها، وزارة المحاربين القدامى، بوتيرة أكثر جدية وإن ليس بشرط تسريع سبل المعالجة.
الارتفاع التدريجي للإصابات بين القوات العسكرية الأمريكية لم تحفز البنتاغون لتقديم سردية مغايرة لروايتها الأولى حول إصابات عين الأسد، وبررت تصريحاتها الأولى بأنها "كانت نتيجة تقييم القيادات الميدانية آنذاك. عوارض الارتجاج ظهرت بعد عدة أيام من الحادث وتم معالجة المصابين بدافع الحذر الشديد".
الإعلان الأمريكي شبه الفوري بعدم وقوع إصابات بشرية بين صفوف قواته وفر للرئيس ترامب مساحة ضيقة للمناورة السياسية وتهدئة نزعات الثأر والعدوان المتأصلة في البنى السياسية والعسكرية، والتي كادت أن تقود لاندلاع حرب مع إيران، ومنحته أيضاً "ذخيرة سياسية" لتهميش تهديد إيران الصاروخي للمصالح الأمريكية.
المؤسسة العسكرية الأمريكية ومصالحها المتشعبة الضخمة ثابرت على ضخ معلومات هادفة لتضخيم "الخطر الإيراني"، لاسيما في العراق. أحد إصدارات البنتاغون، في 4 أبريل/ نيسان 2019، زعم أن إيران تسببت في مقتل "603 جنود أمريكيين على الأقل، ما يعادل قتيل من بين ستة قتلى خلال العمليات العسكرية في العراق؛ أي 17% من مجموع القتلى الأمريكيين في الفترة 2003 ـ 2011".
"نحن لا نغزو بلداناً فقيرة لكي تغتني". كانت تلك العبارة جزءاً من تصريح للمبعوث الرئاسي الأمريكي إلى أفغانستان، جيمس دوبينز، في 11 يناير 2016، مخاطباً المفتش الحكومي العام لأفغانستان.
ومضى الديبلوماسي المخضرم موضحا: "المهمة الأمريكية (في العالم) أننا لا نغزو دولاً استبدادية لبسط الديمقراطية عليها، بل نغزو دولاً تتسم بالعنف لتعزيز التعايش السلمي".
المحرك الأساسي للدعم الشعبي لاستراتيجيات الغزو الأمريكية المتتابعة كان يتركز في تحديد "مصدر تهديد مباشر لأمن" البلاد؛ والذي أسهم في التحاق وانخراط أعداد كبيرة من الشباب المقاتل في صفوف القوات المسلحة، إثر أحداث تفجيرات 2001.
وعددت يومية "نيويورك تايمز"، في 2002، مزايا الخلفيات الثقافية والاجتماعية للمنتسبين بتوفر "مستوى تعليم ابتدائي عالي الجودة" أثرى المهام القتالية المعقدة.
بعد توافد جثث الجنود الأمريكيين من العراق، لاسيما عام 2005، اعترفت المؤسسة العسكرية بتراجع كبير في الكفاءات والأعداد البشرية للمتطوعين، وسمحت القيادات السياسية بانضمام والتحاق مهاجرين لم يستوفوا شروط الإقامة "القانونية" بالقوات المسلحة مقابل مرتبات مالية مجزية ووعود بتسوية أوضاعهم القانونية، وقلصت الشروط التعليمية المطلوبة كوسيلة إغراء إضافية.
لا تزال المؤسسة العسكرية تعاني من نقص بشري لرفد قواتها العاملة مما دفع يومية "يو إس إيه توداي" في أغسطس/ آب 2017، للتعليق بأن تلك المعضلة حفزت المسؤولين العسكريين للجوء إلى حيل مختلفة، منها فتح باب التجنيد أمام من له "تاريخ جنائي أو معاناة من اضطراب ثنائي القطب والاكتئاب وتعاطي المخدرات والكحول...". وأوضحت عدد من المنابر الإعلامية الأمريكية سوء الحالة الصحية للقادمين من الولايات الجنوبية، بسبب تدني الدخل، وتدهور فترة التدريب على القتال، وزيادة معدلات الجرائم بين صفوف الجنود.
عند الأخذ بعين الاعتبار بعض العوامل المذكورة أعلاه، والبيانات الرسمية التي يتم تسريب بعضها بين آونة وأخرى، عن تدني الحالة الصحية والجهوزية القتالية، وانكفاء المؤسسة العسكرية عن الوفاء بالتزاماتها لأهالي وأسر المجندين، يستطيع المرء فهم الأساليب الملتوية المعتمدة للتغطية على الأوضاع المأساوية الحقيقية، والإفراج عن أعداد الضحايا "بالتقسيط" خشية ردود فعل شعبية غاضبة.
الكشف عن معلومات حول مقتل أفراد من القوات العسكرية العاملة في الخارج، التي تنتشر وتنفذ عمليات في مختلف أنحاء العالم، يشكل تهديدا للبنتاغون، لاسيما بين صفوف القوات الخاصة الموكلة بمهام سرية منذ عام 1952.



*مدير مركز الدراسات العربية الأمريكية ـ واشنطن.

أترك تعليقاً

التعليقات