كل يوم «تكرع قلص»!
 

أحمد عارف الكمالي

أحمد الكمالي / لا ميديا -

لأنه لم يكن تصرفاً غريباً أو نادراً من قبلي بالنسبة إليهم، كانوا يتابعون وجباتهم وكأن شيئاً لم يحدث!
فقط تقول أمي: ما أنت أعمى، كل يوم تكرع قلص، هيا هات الممسحة وامسح!
أو يعلن أبي استمرار تكرار الظاهرة الطبيعية، بنبرة شبه استفهامية، تفيد التعجب أحياناً، وقد تفيد التبرم الخفيف في أحيان أخرى، يقول: عاد كان باقي اليوم ما كرعت!
إخوتي إذا لم يكن أحدهم مصاباً بالحادثة، يصدرون قهقهات ضحك، لا تبدو لي لحظتها سوى أنها دعوات تحريض غير مباشرة، ولو أنها منطقيا قهقهات مستحقة وبريئة!
هكذا في أغلب الوجبات، وبشكل شبه رسمي، كان يتعمد قلص أو قلصان من الشاي التزحلق من بين يدي ليكرر لي نفس الموقف الذي لم يعد محرجاً، وهكذا ببساطة تأقلم الجميع مع الوضع، وكيفوا أنفسهم لتلقيه بعد تأكدهم أنه لا فائدة من الوعظ أو الزجر أو التحذير أو ترك الشاي يغمر السفرة!
وعليه فقد كانت أمي وعلى مقربة من السفرة تجهز الممسحة مع كل وجبة، ويتكفل أحدهم بصب الشاي على بعد متر من مقعدي، فيما يجلس البقية على جانبي وهم على استعداد نفسي وعقلي للتصرف المناسب مع أية كارثة قد تحصل مصدرها قلصي سواء كانت زلزالاً والقلص في يدي، أو فيضاناً وهو على الأرض، أو بركاناً وأنا أصبه من المطرية...!
ولكن ليس كل يوم، يكون هكذا ردهم، ولا يمكن لطبيعتهم الإنسانية أن تستمر في رد فعل لطيف هكذا دائما، والحقيقة ليسوا إلى هذه الدرجة من الرومانسية المفرطة!
مع العلم أن الأضرار الناتجة في مرات عديدة تكون بالغة وفي ظروف غير مواتية!
فعندما تصادف العملية وجود حالة من الانزعاج أو الضبح بسبب أي ظرف أو مشكلة، يختلف الرد تماما، وأسمع من أمي بلغة تقريرية لا تحمل معنى غير الزجر: أعميييي، قم هات الممسحة، مو هاذا ولا شتبطل...!، ويتقاطع معها صوت أبي المستهجن والمحذر: عجول عجول واصل، يشتي يرجع واحد يعلمه كيف...!
وعلى أمد ما أخطى نحو المسحة خطوتين، سرحة ورجعة، يكون كل واحد من إخوتي الأربعة قد قدم تقريره وضحكاته وتعليقاته بصوت مرتفع وفي اللحظة نفسها!
أما إذا صادف واكترع القلص لفوق واحد منهم، وبالأخص إذا كانت واحدة من خواتي الأصغر مني عمراً، فعندها تشتعل لمدة 5 دقائق أو أكثر حالة طوارئ قصوى، اللي يصيح واللي يدين واللي ينقذ واللي يمسح، وماعد أميز غير كمية من الصخب تسمع على بعد مسافات من بيتنا وربما قريتنا!
وحتى الذي يضحك منهم ضحكة صغيرة، يتبعها بدعوات وتضرعات وتطمينات للمتضررين من الحادث الهمجي!
وأنا بنفسي أزيد بالصياح والصخب والدعاء والاعتذار أو حتى الضحك، بصوت مرتفع، كمن يريد أن يحول الحادثة إلى حفلة رقص صاخبة، لعله يتخارج!
وبعد لحظات تهدأ العاصفة من جديد! ولكن يبقى أن أذكر بدون مجاملة لنفسي أنني كنت أنزعج من تكرار التصرف نفسه على الدوام، وحتى إذا لم يلمني أحد، وبالأخص عندما يصاب أحدهم!
ولكنني أستغرب، عندما أتذكر هذا اليوم، من أشخاص وجماعات ودول وأنظمة يكررون الخطأ نفسه والحماقة بنفس العبث، ثم لا يتوقعون أن الرد القادم قد يكون حتماً مختلفاً عن الرد الذي سبق، ولو كانت نفس المائدة ونفس الأشخاص الذين تزعجهم كل يوم وتحول سفرتهم إلى شبه مستنقع، فما بالك إذا كانت نفس الدولة التي يقاتلك شعبها على وجوده وكرامته، بعد أن حاصرته وقصفته وسكبت الموت كسفا من فوق رأسه، وحولت بلاده إلى حمام للدم وساحة للتقسيم والفرز ومشاريع الفتن والقتل ومناطق للخوف والوباء والمرض!
فكيف تأمنه بعد أن أصبح قادراً على إيجاعك وشل يدك، ألّا يفكر بضرب رأسك وإنهاء غطرستك وعبثك وظلمك المستمر، وهو يحق له بل واجب عليه لو استطاع ذلك!
بالأخص أنك وصلت إلى مرحلة لا تستطيع فيها رفع صوتك مثلي للهروب في زحمة الصخب، لأنك بدأت الحرب بأعلى ما يمكن إصداره من ضجيج، وكذلك ليس أمامك خطوتان تناور فيهما لإحضار الممسحة، وإنما خطوة واحدة فقط، إما السلام أو تنتحر بمواصلة الحرب!

أترك تعليقاً

التعليقات