الشقيقة «إسرائيل»!!
 

عبدالملك المروني

عبدالملك المروني / لا ميديا - 

في الربع الأخير من الثمانينيات دعوت عدداً من الزملاء لكتابة استراحة العدد في صحيفة المنار التي كنت أتولى إدارة تحريرها واشترطت على الزملاء من خارج الصحيفة أن يكتبوا شيئا ساخنا ومادة لافتة تشعل حماس القارئ والرقيب معا.
وتلقيت كتابات شبه باردة وذات نمط تقليدي تنوع بين الحديث عن عيد الحب أو عيد الشجرة وبين اعجاب بلاعب كرة أمريكي، وهكذا فتطوعت لكتابة هذه المادة وظهرت بعنوان (الشقيقة إسرائيل).
والحديث الناعم عن العدو التاريخي والوحيد للأمة في زمن كان العرب فيه ما يزالون عربا وجامعتهم العربية تتحدث اللغة العربية بطلاقة يعد ضربا من المغامرة والقفز على جدار اللاممكن، خاصة وأن فلسطين كانت الأرض العربية الوحيدة التي كانت تخضع للاحتلال المباشر؛ فيما عواصم الوطن العربي ترفع جميعها علم الاستقلال ويناضل بعض حكامها في سبيل تحرير الأرض المحتلة وقضية العرب المركزية. 
وخلال يومين، كانت رسائل القراء واتصالاتهم تهبط علي مشحونة بالدهشة ومصبوغة بالإيماءات والمعاني المزدوجة. وبالطبع، فإن المقالة إياها لم تغادر ساحة الوعي العام ولم تدن من أسوار التطبيع ولغة التصالح والتسامح، بل كانت تلامس الجرح العربي بشيء من السخرية وتنبش في أصداف الوجع الإسلامي بأصابع الوجل من القادم وما قد تحمله الأيام إن لم يثبت العرب عند حافة عروبتهم ويجيدوا سبل الصراع مع العدو الصهيوني. 
وذهبت بعيداً في اللوم والتحفيز فقلت ما معناه بأن الأمة العربية بحاجة أكثر من أي وقت لرص الصفوف والتوجه نحو خطوات أكثر جدية ومسؤولية في مواجهة "إسرائيل". وبعكسه فإنه من غير المستبعد أن يأتي يوم نرى فيه العرب وقد باتوا دون هوية يهرولون إلى موائد التطبيع مع الكيان الصهيوني بنفس السرعة والحماس التي يتقاتلون فيها مع بعضهم على بضع كيلومترات في حدودهم المشتركة 
وأظنني اختتمت بتحذير مؤداه أننا إذا لم نع من نحن ومن هم، فسيأتي يوم نجد فيه "إسرائيل" وقد باتت عضواً في جامعة الدول العربية. 
ومرت الأيام وتلاشت تدريجيا قيم الدين والتاريخ والجغرافيا، وأصبح الوطن العربي هو الشرق الأوسط ومن ثم الشرق الأوسط الجديد.
ثم توالت صعد التطبيع والتطبع بمباركة وإسناد من المال الخليجي الذي مون وغذى كل جهد استسلامي ودفع بثقافة انهزامية منحطة إلى قلب وعينا القومي وثقافتنا الإسلامية وتراثنا الجهادي والمقاوم.
حدثت كثير من الأمور التي نعرفها وانهالت دعوات السلام والمصالحة على محيطنا كله، ومن كامب ديفيد إلى أوسلو إلى شرم الشيخ إلى غرف النوم ومطابخ الريال السعودي كنا نسير ولا نسير، وأصبحت جامعة الدول العربية مجرد غرزة للقادة العرب يمارسون فيها طقوسهم المعهودة في هكذا مواسم وديوانية للاستعراض السياسي والشخصي لحكام يعيشون حالة انفصام مع شعوبهم وفترة خطوبة تسبق زواجاً غير شرعي يوشك أن يحدث. 
ولم تكن أمريكا كراعي سلام مفترض هي العصا الوحيدة المرفوعة في وجه هؤلاء ليسلكوا سبل السلام الإجباري القائم فحسب، بل كانت عوامل أخرى ذات فعالية في إدارة عجلة هذه العربة المتهالكة، أبرزها إجماع هؤلاء القادة على خط موحد يتشارك فيه الكل وهو الفساد العام داخل شعوبهم وسياسة التوريث وانعدام الديمقراطية في بلدانهم. وهكذا سارت الأمور حتى وصلت إلى محطتها ما قبل الأخيرة.
هذه المحطة التي نراها اليوم في شكل سباق محموم نحو توطين أفضل مستويات العلاقة مع الكيان الصهيوني مقابل إقرار مشروع تهجير الشعب الفلسطيني كشعب وقضية وجغرافيا ومد جسور التواصل الحميمي مع أعداء الأمس ورفقاء اليوم. 
ما يحدث اليوم في البحرين وما حدث بالأمس في ذات المكان لا يعني غير شيء واحد هو إحداث تغيير داخل الذهنية العربية بحيث تستطيع أن تتعاطى اليوم وغداً مع راعي سلام جديد وصانع حرب أجد اسمه "إسرائيل"، بحيث تتفرغ امريكا لمواجهة تحديات داخلية وخارجية كبيرة وتترك للعرب عراباً جديداً لا يحتفظ بمقعد واحد داخل الجامعة العربية فحسب، بل يأخذ الجامعة بكلها في قبضته ويدير حروبه ومصالحه من خلال أشقاء جدد يحملون هويات عربية وأجساداً غير عربية البتة.

أترك تعليقاً

التعليقات