جغرافيا الإنتاج وتباينات الانحياز
- ذي يزن المقطري الجمعة , 12 يـولـيـو , 2019 الساعة 6:52:47 PM
- 0 تعليقات
الخيارات الاجتماعية السياسية ليست سوى ظلال أنماط العيش
جغرافيا الإنتاج وتباينات الانحياز
ذي يزن المقطري / لا ميديا -
آلاف من اليمنيين يقاتلون ضد بلدهم، يرفعون الأعلام الأجنبية وينزفون في معارك العدو المحتل لأرض آبائهم وأجدادهم!
من يستطيع تفسير ذلك؟ نحن لا نتحدث هنا عن مجاميع من المرتزقة، نحن نتحدث عن أقاليم ومحافظات بأكملها يقف كثيرون من أبنائها إلى جانب المحتل، ويغلب عليها طابع الهوية المناطقية والطائفية المشتركة، وهو ما يخدم محاولات العدوان تصوير الأمر كأنه حرب أهلية بخلفيات طائفية ومناطقية، وتقديم نفسه كمساند لأبناء هذه الطائفة أو تلك المنطقة باعتباره أحد أفراد شجرة أسرتها، مستغلاً بذلك قدرة الهوية المذهبية في تذويب الهوية الوطنية ليصير المذهب هو الهوية الجامعة..
ولكن لنتأمل الأمر بموضوعية، ففيه ما يستدعي شيئاً من التأمل العقلاني بعيداً عن شعارات الوحدة الوطنية.
المعضلة الزيدية الشافعية
الأمر يبدأ قديماً، منذ ولادة الأمة اليمنية على مرتكز فرعي أولاد سبأ "حمير وكهلان" المتنافسين في أغلب مراحل تاريخهما، ففي اللحظة التي دان أحدهما بعبادة القمر، كان الآخر يدين لآلهة الشمس، وحين كانت حمير يهودية صارت كهلان مسيحية، وحين التحقت جميع القبائل اليمنية بالديانة الإسلامية كانت كهلان زيدية، بينما حمير تدين بالمذهب الإسماعيلي، ثم تحولت نحو الشافعية، واستقرارها كحمير سنية في مواجهة كهلان زيدية، وكل ما صاحب ذلك طوال التاريخ من صراعات.
إذن، الأمر ليس طائفياً، بل هو التنافس الأزلي بين حمير وكهلان المتمظهر في أشكال عديدة أحدها طائفي.
وهنا نتساءل: لماذا ظلت هاتان الهويتان المشكلتان للأمة اليمنية حيتين طيلة سيرورة تاريخ القبيلتين، بكل التحولات التي حدثت منذ غابره حتى اليوم، هويتاهما المستقلتان النازعتان للسيطرة في فترات ما والاستقلال في أخرى.
الأمر هنا ليس تأصيلاً للطائفية والعرقية، أكثر من كونه دعوة لتأمل واقعنا بشجاعة، ومحاولة لوضع حد لهذا التنافس المستمر بين فرعين تاريخيين شكلا الهوية اليمنية بكل ما حمله هذا التنافس من تعاسة وجنون لهذه الأمة؛ فلم يكن لأية قوة أجنبية القدرة على احتلال بلدنا دون استغلال هذا التنافس بين كهلان وحمير، منذ الأحباش مروراً بالترك والإنجليز، وانتهاء بحُمُر الصحراء المستنفرة.
إذ إنه في الفترة التي توحدت فيها قبائل اليمن المشرقية واليمانية أو حمير وكهلان، تحت قيادة موحدة في مواجهة التهديد الروماني، استطاعت التصدي لأعنف وأقوى امبراطوريات الأرض في ذلك التاريخ، وكان أن أُبيدت الحملة بالكامل في صحراء نجران، وفقاً لـ"هيردوت" المؤرخ الروماني الشهير.
بينما في تلك اللحظة التي حرك فيها الأتراك قضية التنافس الحميري الكهلاني تحت مسمى الشافعية السنية والزيدية الشيعية، استطاع الإنجليز احتلال الجنوب وتجنيد الكثير من أبنائه في مواجهة أبناء بلدهم باسم الشافعية المضطهدة والزيدية الحاكمة، نعم لقد استغلت بريطانيا هذا الأمر من خلال فهمها الدقيق لبينة الامة اليمنية.
المعضلة الحقيقية التي ينبغي الالتفات لها هي استمرار هذه البنية المزدوجة بكل ما تحمله من تاريخ تنافسي دامٍ في مراحل كثيرة من عمر اليمن, ولماذا استمرت بحيوية هاتان الهويتان بكل محمولاتهما دون الذوبان في تحولات التاريخ، المنطقة والعالم؟
استطاعت قوى الاستعمار التاريخية احتلال أجزاء من الوطن عبر هذه الثغرة من خلال النقطة الأضعف فيها، وهي تحول أنماط الإنتاج لدى فئة واسعة من أبناء الجغرافيا الشافعية وأجزاء من الجغرافيا الزيدية من نمط إنتاج الأرض نحو نمط إنتاج تجاري ريعي لأسباب وظروف متعددة كالجغرافيا القريبة من السواحل وخطوط التجارة، والتقلبات المناخية التي دفعت أبناء تلك المناطق للهجرة، وتحول الاعتماد على منتوج الزراعة إلى النشاط التجاري والريعي كنشاط إنتاج رئيسي، وبكل تلك الآثار التي تركها هذا التحول على أنماط الثقافة والعقائد والفكر والتنظيم الاجتماعي، وما صاحب ذلك من ضمور في الهوية الوطنية والموروث المقاوم كفكر وتنظيم انحداراً نحو تفكك المجتمع ووحداته الأساسية التي كانت تحافظ عليها طيلة التاريخ.
أنماطُ إنتاج الأرض
ربما ينطبق المفهومان التاليان في كثير من مساحتهما على نمط إنتاج الشوافع والزيود، أو حمير وكهلان، "نمط إنتاج الأرض، ونمط الإنتاج التجاري الريعي"، ليس لمبررات مذهبية وعرقية أكثر من كونها جغرافية، فالحديث هنا إذن عن الجغرافيا التي أعادت تشكيل المجتمع وفق أنماط العيش، وهو ما يفسر ربما استمرار هذه الهوية المنقسمة في تاريخ الأمة الطويل، ولذات السبب أيضاً استطاع الأتراك استخدام الكثير من أبناء المناطق الشافعية لاحتلال أجزاء واسعة من اليمن (ومع ذلك فقد شهدت معارك الاستقلال ضد العثمانيين حضوراً كبيراً لأبناء المناطق الشافعية بقيادة رموز منهم حميد الدين الخزفاري) ومن ثم الإنجليز (معظم من قادوا معارك التحرير شافعيون)، وانتهاء اليوم بالسعوديين، بينما ظلت الكثير من المناطق الزيدية كعنصر اجتماعي لا عقائدي قوى تواجه الاستعمار وترفض أن توظف في مشاريع المحتل، وفي فترات كثيرة استطاعت أن تحرر كل الأرض اليمنية.
أظن أن الكثير - ممن يحبون تأمل التاريخ بخفّة - يروقهم الحديث عن الأمر بالطريقة الطائفية العرقية في تصوره للصراع، في استقراء سطحي ساذج، لكن المنهج العلمي لا يعنيه ذلك، وهو في المناسبة لا يتوافق مع هذا الطرح "الشوفيني" المُنوق بالتواريخ والأحداث الانتقائية وتوظيفها بغائية أبعد ما تكون عن العلمية، كالتحدث بلغة "الوطنية انتماء زيدي، فيما الخيانة مصبوغة بالـ"قاف" الشافعية".
لكننا لا نستطيع هنا نكران الأمر برمته، بتعصب يعتسف الموضوعية انتصاراً لذاتية أخرى، وما يربط بين كل ذلك وفق الحقائق التي يصل إليها "المنهج المادي التاريخي"، في استقراء بنية الأمة اليمنية، أن هذه الثنائية في بنية الأمة تعود لازدواج البنية الاقتصادية الاجتماعية في نمطي إنتاج كما أسلفنا (تجاري ريعي، إنتاج الأرض) بكل ما يعكسه هذان النمطان في واقع الحياة اليومية لعناصر هذا النمط كتنظيم اجتماعي، من عقائد، وموروثات ثقافية.. لنتحدث –على سبيل التأصيل- حول هذا التصور بقليل من الإسهاب كتجريد نظري.
أنماط الإنتاج تحدد أنماط الفكر والثقافة والتنظيم
نتحدث هنا عن نمطين بعينهما هما السائدان في واقع وتاريخ الأمة اليمنية، كانا ينعكسان في تنافس مستمر، كأنماط معيشة وثقافة وعقائد وتنظيم اجتماعي، وبكل ما يعكسان من قيم وارتباط بالأرض وتشكلٍ في هوية ما، ومدىً من الوعي بفكرة الوطن والارتباط أو الانسلاخ عنه، حيث إن مدى الارتباط بنمط إنتاج زراعي هو ما يجعل مجتمعاً ما أكثر ارتباطاً بالأرض "والهوية الجامعة الكبيرة"، وأقرب إلى الوعي بفكرة الانتماء والوطن من خلال ما يعكسه هذا النمط من قيم وعقائد وبنية تنظيم اجتماعي.
فمجتمع الأرض والزراعة، تتكون قيمه من خلال نشاط إنتاجه اليومي، الذي يتضمن التعاون كآلية، الأمر الذي يعزز الروابط بين أفراد هذا النشاط بكل ما تحمله من أشكال التنظيم فردياً، أسرياً، وقبلياً، باتجاه المزيد من النضوج التراكمي في فكرة المقاومة الجماعية لشكل الخطر الذي يظهر أمام مجتمع الأرض، كخطر يتهدد مصالح الجميع قبل الفرد، وأن لا سبيل لمواجهته سوى بتنظيم طاقة الجميع للمواجهة، أياً كان نوع هذا الخطر سواء الجراد أو الجفاف أو التهديد الذي يُستشعر من قبيلة أخرى منافسة وصولاً لتهديد الدول الطامعة كخطر احتلال.
هذا بالنسبة للقيم التي يكرسها هذا النوع من نشاط العمل، في مقابل أنماط الإنتاج الريعي التجاري، الذي يكرس للمزيد من الاستعلاء على كل أنماط وثقافات وهويات وعقائد مجتمع الأرض، وفي الوقت ذاته تنمو في ظل نشاطه اليومي قيم الفردية والانسلاخ عن بنية التنظيم الاجتماعي القبلي والأسري نحو الفردية الساعية للربح المعتمد على التفوق لا التعاون في ما بين عناصر هذا المجتمع.
وفي اللحظة التي ينمو فيها وعي الوطن والهوية والأمة لدى مجتمع الأرض، يضمحل لدى مجتمع الريع التجاري لصالح الانسلاخ عن الهوية المحلية، ليصير بالتحول إلى وكيل لكل ما هو "أجنبي" حاملاً لثقافاته وقيمه وموروثاته على حساب كل ما ينتمي للأرض والهوية الوطنية؛ فيصير الوطن "حالة ذهنية مجردة" والدفاع عنه "حرباً عبثية" ليس معنياً بانتصار أحد أطرافها – كالأمة مثلاً- بينما تدور تصوراته للحلول حول المزيد من فرص البيع والشراء، وحين تدر الحرب فرصاً للربح المالي يستجيب لديه الانسلاخ الكافي للربح.
والأمر نسبي بالتأكيد يعتمد على المدى والمسافة التي يذهب فيها أحد أفراد هذين النمطين في هذا الأمر، حيث العامل الحاسم في ذلك هو مدى الارتباط بقيم هذا النمط أو الانسلاخ عنه.
إذن.. ما الذي حدث؟
رغم نسبية هذا التصور، إلا أننا نستطيع القطع -هذه اللحظة- بأن الأمر لم يكن سنياً شيعياً، زيدياً شافعياً، حميرياً كهلانياً، بل هي الأرض يا سادة، وصادف أن غالبية المناطق الزيدية اليوم لم تزل تملك الأرض وتتمسك بالزراعة كنمط عيش (هذا أيضاً يسري على كثير من المناطق الشافعية جرياً على اصطلاحات الكاتب)، بكل ما عكسه ذلك من تقديس لفكرة الارتباط والتعاون أسرياً وقبلياً كأولويات انتماء، وهو الذي أنضج فكرة الوطن والهوية وتقديس الموروث وقيم الحرية، من خلال التنظيم والاستقلال في لقمة العيش والمكسب، وبالتالي حرية القرار والأنفة عن الخضوع للغازي الطامع، بما يشكله من تهديد لكل تلك القيم، ومن خطر يتهدد الأرض.
التاريخ يؤكد مثل هذه الحقيقة، التاريخ اليمني تحديداً، حيث يحكي في الكثير من أحداثه أن "مجتمع الأرض" قاوم كل الظلم والطغاة والمستعمرين في كل تاريخه، ولم يكن الأمر مرتبطاً بمذهب أو منطقة أو عرق، بل كل أبناء الأرض دافعوا عن أرضهم، وقاوموا المستعمرين. فقط حين كانوا يملكون الأرض، لا الإسمنت، لا الوظيفة الجامعية، لا الشركة التجارية، الأرض فقط! الأرض التي صنعت يمنيين أحراراً غير مستعبدين بنظم التقاليد التجارية، إلى اللحظة التي خسر فيها الكثير من أبناء الأمة اليمنية أرضهم، ومعها سلختهم جغرافيتهم التجارية المتحولة عن آلاف السنين من التراكم والتجربة الحضارية المشكلة للهوية، منذ اتحاد حمير وكهلان في مقاومة الاحتلال الحبشي، مروراً بالحركة الوطنية في سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم ضد الهيمنة السعودية، وانتهاءً اليوم بمقاومة الاحتلال والغزو الخليجي.
إن تاريخ الأمة اليمنية يشهد، وتاريخ الغزاة يشهد، أن الخيانة لم تكن مصبوغة بالطائفة أو المنطقة، بل بمن انسلخوا عن الأرض والإنتاج الحر والاستقلال في "لقمة العيش" وقيم التنظيم الاجتماعي.
ما العمل؟
ما ينبغي وما نحن قادرون ومسؤولون عن فعله هو تعزيز نمط إنتاج الأرض، وتعزيز قيمه واحياء موروثه تعزيزاً للهوية الوطنية اليمنية الجامعة، واعترافاً بعناصر الأمة وخصوصياتها التكاملية، استيعابها ضمن النسيج الواحد، وإعادة الاعتبار للقبيلة اليمنية وإخراجها من حالة الظل سياسياً إلى واجهة المسرح السياسي في صنع القرار على طريق تحويل العرف القبلي لدستور عرفي ناظم لكل شؤون الوطن اليمني، وإعادة صياغة الدولة اليمنية وفق موروث التنظيم القبلي العريق وخارطة السلطة اليمنية التاريخية في "أبناء سبأ وقـُـبـُـلها"، لا بعثاً للتاريخ، بل سيرورة في تراكمية التجربة، وجنوحاً عن الاندثار المحتمل لشق كبير وواسع من عناصر الأمة اليمنية التاريخية، وذوبان هويتها في قيم الإنتاج الريعية التجارية التي تشكل الخطر الأكبر وجودياً لحاضر الأمة ومستقبلها.
(الملاحظات بين قوسين من المحرر)
المصدر ذي يزن المقطري
زيارة جميع مقالات: ذي يزن المقطري