صديقي الذي في الدُّقّي
 

عمر القاضي

عمر القاضي / القاضي -

ما إن يفتح العدوان جبهة جديدة، يذهب صديقي يولول ويزغرد سع أم العروسة، بأن النصر قادم، ويروّج أن الجبهة الجديدة هذه ليست كالسابقة... وغيرها من الخُبيّرات والوهم الذي يركضه من زمان طريق طريق حتى أوصله إلى حي الدقي بمصر. 
من حي الدقي بالقاهرة كتب بوست على صفحته يوضح فيه كيف نجا من ملاحقة الحوثيين! 
لو كانوا لاحقوه فعلاً لكنت أول من يتضامن معه، والجميع أيضاً، لكن شهادة لله، كل ما يقوله كذب وما حد لاحقه. هو لاحق نفسه بوهمه. 
أعرف وهم صديقي كثيراً. 
منذ أن عرفته قبل سنوات وهو غارق في وهمه. مرة يتوهم أن الأمن العام يلاحقه، ومرة أخرى يتهم الأمن السياسي... أعتقد أنه اتهم كل الجهات الأمنية. بقيت فقط دائرة سلاح المهندسين لم يتهمها. 
بسبب الوهم أتذكر أني قطعت معه مسافة طويلة مشياً على الأقدام وتحت البرد القارص. في نهاية 2010، مشينا من جوار الجامعة الجديدة مروراً بحي القاع إلى شارع جمال وصولاً إلى التحرير، ثم اتجهنا نحو شارع العدل لنعود مجدداً إلى الجامعة الجديدة، وهناك انفصلنا. 
التقيته اليوم التالي. سألته: لماذا خبطنا كل تلك المسافة مساء البارحة؟! رد عليَّ: "تمويه"! 
كنت أتوقع أنه سيرد كأي شخص يمشي كثيراً بعد القات وأن المشي رياضة. 
لكن صديقي طلع يموه. بيموه من ورانا يا خبرة! 
رددت عليه باستغراب: تمويه؟! طيب على من كنا نموه؟! فأجاب بتعالٍ: أنت عادك قروي ومش فاهم ايش كان بايحدث. قلت له: يا ساتر! ايش كان بايحدث؟ قال: بربك ما شاهدت شي؟! قلت: لا، عن ايش تهدر أنت؟!
فقال لي: مش وقتك الآن، بانهدر وقت آخر، قع ذيب! وأضاف بعد عبارته الأخيرة هذه غمزة، مع عضة صغيرة لشفته السفلى، عضة مقيتة تشبه كثيراً عضة الناشطة ماجدة الحداد أثناء تحدثها على قناتها باليوتيوب. 
الفرق بين العضتين أن صديقي المتوهم الهارب إلى الدقي يغمز ويعض على شفته السفلى لتصدق وهمه وتشعر أن الموضوع خطير وتتعامس. أما النشوطة ماجدة تعض شفتها السفلى لكي تشترك بقناتها وتدقها لايك على الماشي. 
بعد أن طلب مني صديقي المتوهم أن أقع ذيب، عدت إلى السكن وأنا ذيب، مدري باذيب. فقط أتذكر أني كنت مشغولاً بوهمه. وقد تساءلت كثيراً: ماذا كان سيحدث لنا لو لم يموه صديقي ليلة البارحة؟! طيب لماذا سيحدث أصلاً؟! وما السبب؟! أنا شخصياً لم أرتكب أي غلط أو أي جرم. أنا طالب جامعي بعد حالي، لم أكن معارضاً سياسياً خطيراً، ولم أشارك في أي مظاهرة قبل ثورة فبراير. 
أيضاً لم أكتب في أي صحيفة. لم أكتب أي قصة أو نقد في صفحات الصحف الثقافية، كصديقي المتوهم الذي مشيت معه خمسة شوارع وعدداً من الحارات، في سبيل الوهم وتمويه الأمن مدري الـ(سي.آي.إيه). 
في السكن تذكرت أن صديقي قال إنه نشر مقالاً في الصفحة الثقافية بصحيفة "الثوري" مضمونه عن سرد القصة مدري عن سرد القصيدة. لم أتذكر جيداً. كل ما أتذكره أنه نطق كلمة سرد، وعلى ضوئها تحدثت مع نفسي رابطاً خطورة السرد على الأمن العام. وربما الأمن فهم مقال السرد هذا غلط وأنه له علاقه بتونة السردين التابعة للجيش الروسي ومخابرات الـ(كي.جي.بي) الروسية. 
غلقتها من كل جهة. وفي الأخير ما زلت حانب. ورحت أودّع نفسي هكذا: "سرحتك يا عمر القاضي! من قال لأبوك تمشي مع شخص يكتب عن السرد والنثر؟! والله أنها نثرة!". 
ثم أعود مجدداً أنفي كل ما تحدثت به مع نفسي سابقاً، ملطفاً الوهم وأن مقال السرد ليس سبباً كافياً ليلاحقنا عليه الأمن. 
كان صديقي المتوهم والمموه معاً، في تلك الليلة التي مشينا فيها خمسة شوارع، يحدثنا بصوت واطئ يتوارى إلى الخفسسة والهمس، وعلى هذا النحو. 
لقد ذكرني ذلك بصوت وهمس صديق أيام الثانوية عندما كان يهمس ليغششنا غلط في اختبار مادة الكيمياء. 
أما صديقي المموه كان يهمس وهم وخيالات، وبصوت واطي أيضاً. 
ورغم أنني كنت لا أسمعه جيداً في الشارع، لكني كنت أبدي له تفاعلاً مزيفاً. وكم أمقت هذا التفاعل!
رددت عليه كثيراً بعبارة: "البرد اليوم قارس يا صديقي". وصديقي المموه يرد عليَّ أيضاً: "سننجو"، ليتفاعل مجدداً ويحكي قصص المخفيين قسرياً ومعاناة بعض الشعراء والصحفيين و... الخ. 
لقد قطعنا المسافة كلها في سبيل التمويه على الأمن وإقناع وهم صديقي أيضاً. وهم وتمويه بايخ. أرغم صديقي على أن يتوقف مرات كثيرة في الرصيف، ويدخل محلات لبيع الملابس، ليس من أجل الشراء وإنما لأجل التمويه وإرباك الأمن والمخابرات ثم يغادر المحل كما دخل. 
كانت الساعة تشير إلى الـ12 ليلاً. وكان البرد قارصاً. وأنا ذلك الشاب القروي الذي لا يأبه لصقيع شتاء صنعاء، ولا يعير الأمن الذي كان يلاحق صديقي وقتها أي اهتمام. 
لقد هرب صديقي إلى الدقي بمصر قبل ثلاثة أعوام، بسبب وهمه وزيفه. ومن هناك واصل يبث وهمه على صفحته بالفيس ليتنقل ويتعلق من جبهة إلى أخرى مثل "جرشبل" فارغ ومرتزق مع التحالف.

أترك تعليقاً

التعليقات