عصابة الأمم!
 

ابراهيم الحكيم

وصل صنعاء.. غادرها إلى الرياض.. عرض واستمع.. أكد وشدد.. تطلع وأمل.. أحاط مجلس الغبن (الأمن) الدولي.. تحدث عن "إنجازات متحققة" على ورق و"تقدم محرز" لا يظهر في الأفق، وما يقوله في صنعاء يقوله في الرياض، يدق لكل طرف على ما يريد، ولا شيء يملكه على أرض التنفيذ.. حتى إدانة الحرب وأطرافها أو مجرد التنديد بجرائمها، لا يستطيع إلا في حدود ما يسمح له ويملى عليه!
تلك حال تلازم غالباً كل "مبعوث" لهيئة "الأمم المتحدة" إلى أية ساحة نزاع ناشب أو بؤرة صراع دائر، منذ عمد المنتصرون في الحرب العالمية الثانية إلى تأسيس هذه الهيئة، لتغدو مجرد ذراع طولى تؤمن غطاءً أنيقاً لأسباب دوام قوتهم وتمدد نفوذهم وتنامي هيمنتهم على دول العالم وتطويعها لخدمة أية مصالح لهم، بل وتسويغ أي أطماع لهم خلف لافتات إحلال الأمن والسلام ومكافحة مهدداتها.
قطعاً، المشكلة ليست في باتريك كاميرت، ولا في خلفه مايكل لوليسغارد، مثلما لا تكمن في البريطاني مارتن غريفيث، ولا في سلفه الموريتاني إسماعيل ولد الشيخ، وقبله المغربي جمال بن عمر.. جميعهم موظفون في هيئة يتوطفها مؤسسوها وموجهو مسار تدخلاتها وممولو نشاط منظماتها، لتوسيع هيمنتهم على العالم ومد نفوذهم وجني مكاسبهم وإنماء قوتهم وحدهم.
أثبتت الأحداث والتجارب أن هيئة "الأمم المتحدة" تنظيم دولي تابع حد الامتثال التام والخضوع العام لإرادة الدول الـ5 دائمة العضوية في مجلس الأمن ومتغيرات توجهاتها وفق بوصلة مصالحها.. وفي حدود أقل تخضع لضغوط دول "الكومبارس" الـ10 غير دائمة العضوية، وما توعزه إليها الدول الـ5 نفسها من مهام في الدفع بمشاريع قرارات لتمريرها وتبادل أدوار غير خاف، مقابل جني منافع أقل. 
فعلياً، تنشط منظومة هيئة "الأمم المتحدة" في تسويق توجهات الدول الـ5 وجدولة الاهتمامات بحسب الأولويات لهذه الدول، وإعداد الدراسات (المساقات) والاستشارات (الإملاءات)، وتوجيه التحولات في العالم، وإدارة الأزمات وتعميق الصراعات وتعقيد المعالجات -غالباً- وحشد التمويلات ورصد الموازنات، وإنشاء مخيمات للنازحين واللاجئين، وتجارة الإغاثات والمساعدات، وتسيير - لا تيسير - الاتفاقات، على قاعدة الشق لا الرتق!
استعراض أسماء ومجالات تخصص منظمات هيئة "الأمم المتحدة" ومفوضياتها، يكفي لمعرفة مهماتها الفعلية الداعية لتأسيسها وتنامي نشاط الدول الـ5 عبرها في بسط هيمنتها ومد نفوذها.. أما دور الهيئة نفسها ومنظماتها المشهود فلا يتعدى إبداء القلق وممارسة الملق، وإصدار نداءات ومناشدات وقرارات على الورق، وبالطبع حصر القتلى والجرحى من دون تسمية الجناة، وتعداد المرضى والجوعى والتغاضي عن أسباب تنامي أعدادهم.
زاد على ذلك توالي وقائع تقديم منظمات هيئة "الأمم المتحدة" مساعدات غذائية ودوائية تالفة وغير صالحة للاستخدام الآدمي، ليس في اليمن فقط، بل في كثير من بؤر الصراع التي تنشط فيها، وأن تمر هذه الوقائع من دون تحقيق دولي قانوني أو عقوبات على المسؤولين عنها، والاكتفاء بالذريعة نفسها: "تلفت أثناء رحلة النقل" أو "جراء سوء التخزين"!
واقعياً، ما من أمم متحدة، فمظاهر اتحاد "الأمم" وإن حضرت نظرياً في مواثيق "الأمم المتحدة" وإعلاناتها العالمية وقوانينها الدولية؛ تظل منعدمة في الواقع العملي مقابل طغيان مظاهر انقياد تام لإرادة دول مجلس الغبن (الأمن) الـ5 واتحادها على تسخير العالم لنمائها وقوتها وثرائها ومسار توافقاتها على تقاسم مصالحها في النماء والثراء والقوة، حسب حجم نفوذ وقوة كل من الدول الـ5!
لا يخجل هذا المجلس من فرض عقوبات سياسية أو اقتصادية أو عسكرية على دول ذات سيادة كاملة، لمجرد أنها تقول لا لهيمنة إحدى دوله الـ5 دائمة العضوية أو كلها.. بل لا يجد حرجاً من فرض عقوبات على شخصيات سياسية بوصفها "تهدد الأمن والسلم الإقليمي والدولي"، حتى ولو لم تعد على سطح هذا الكوكب، وصارت في عالم الآخرة، كما هي الحال -مثلاً- مع تجديد عقوباته على علي عبدالله صالح!
يترك مجلس الغبن (الأمن) الدولي قيادات ناشطة علناً في تنظيمات إرهابية، ويتغاضى عن أنظمة وحكام دول مدانين بأدلة يقين لا مجرد كيد أو تخمين، بمد هذه التنظيمات بالفكر المتطرف والمال المدنس والسلاح والإعلام المحرض والمضلل، مثلما يتغاضى عن إرهاب دول بذاتها وجرائمها العلنية، لمجرد أن إرهابها "محمود" يخدم مصالح دوله الـ5 دائمة الهيمنة والتجبر!
ولا تدري، كيف يؤمل من دول تصنع السلاح أن تصنع السلام وتبسط الأمن في دول العالم! تعارض المصالح هنا صارخ مبدئياً، فكيف الحال ومصالح هذه الدول تتجاوز خلق أسواق لتصدير وبيع السلاح عبر خلقها الاحتياج بنشر الأزمات والصراعات؛ إلى أطماع علنية جيوسياسية في الدول التي تلغمها بالأزمات وتقحمها في الصراعات وتفخخها بالسلاح والتنظيمات المسلحة!
متى وأين أنهت هيئة "الأمم المتحدة" أزمة أو أطفأت نيران فتنة، أو حتى حلت مشكلة أو عالجت آثار نكبة في دول أو على مستوى العالم.. على العكس حاصل نشاطها يجعلها أشبه بتاجر المشكلات انتفاعاً واستثماراً، ودورها أشبه بالمقدح لا المصلح في الأزمات تعقيداً وتمديداً، وإزميل اختراق وتفكيك للدول، وميسر ترويض شعوب، وسوط اتباع وإخضاع.. عدا هذا وإنجازاتها فيه، لم يشهد تاريخها فعلياً إنجازات إيجابية فارقة من أي نوع.
كمن يقبض على ماء، من يراهن على هيئة الأمم المنبطحة والمتحدة على الانصياع والخذلان وحسابات الربح والخسران بميزان نفوذ الدول الكبرى ومصالحها وهيمنتها على العالم، مقدرات وثروات.. وحري بشعوب ودول العالم وحكوماتها الاتعاظ من تجارب الدول والشعوب التي وقعت في شراك هيئة "الأمم المتحدة" وحبائل منظماتها ووصاية مجلسها التنفيذي المسمى "مجلس الأمن الدولي".
حري بهذه الشعوب، ومنها الشعب اليمني، أن تصلح حالها بنفسها وتنفذ إرادتها هي لا إرادات نخبها الفاسدة وقوى الارتهان للخارج وأجنداته.. يلزمها أن تؤمن يقيناً بأن السلام لا يوهب، كما هي الحرب لا تطلب، وألا تركن إلى هيئة "تقلق وتحذر وتشجب"، ولا تصطف مع الحق أو تنحاز للعدل أو حتى تسعى جدياً لإحلال السلام العادل والشامل والدائم، لأن ذلك يعني إنهاء حاجة وجودها، ويغلق باب تدخلاتها وانتفاعها!

أترك تعليقاً

التعليقات