أبو ماهر عاشق الطين وراهب العشق
 

عبده سعيد قاسم

حينما تستل يراعك لتكتب عن أغاني القرى وفنون المهاجل، يبرز في ذهنك اسم شاعر المواسم وحادي قوافل الصراب الشاعر الكبير الراحل عثمان أبو ماهر، راهب الحرف المتعبد في محاريب العشق متبتلاً بأغانيه المتدفقة من أعماق روحه العابرة لآفاق الأزمنة، والمثخنة بعشق صوفي تتجلى في تفاصيله روحانية الإبداع الشهي الصافي الرقراق كماء ينابيع غيول وادي نخلة الخصيب، وصفاء انبلاج الفجر في آفاق قريته (المبيريك). لم يترك قلباً إلا ومنحه تعويذة حب تمنحه دفء الحياة، وتعشب فيه دوالي الهيام. لا أملك لغة أسطورية لأصف معناه المجنح في فضاء الإبداع وآفاق الأرواح، ومعنى الشعور حين تصغي إليه بخشوع عبر الغياب، منشداً بصوت الفنان الخالد عمر غلاب وهو يغني: (ورد الحصين فتح وطول العود
ما أحلى الغواني فوق بئر الأجعود
والريح قد هز الجعود بالنود
عنقود ورا عنقود حِلقْ حِلقْ سود 
صورة بديعة للريح حين يداعب جدائل فتاة ريفية وهي تنزل دلوها في بئر الماء، ويصطاد أبو ماهر المشهد، ويرسمه على واجهة الروح بمفرداته الخلابة البديعة لوحة خالدة في وجدان الزمان والمكان.
أبو ماهر وحده أطلق العنان لحرفه وقلبه لمعانقة صباحات القرى المتشحة بحبيبات الطل البراقة، وأصائلها المتزرة بضحكات البروق التي تهمس للزرع ببشارات قدوم المطر، وتحلق معه بأجنحة الأغاني التي استلهم مفرداتها من تضاريس الوديان الخصيبة، ومن نكهة الطين العابقة بعطر العطاء وتلاويح الزرع المتماوج مع الريح ذهاباً وإياباً كأنه يلوح للسحاب ويحثها على سرعة إفراغ ما تكتنزه عيونها السخية من دموع الغيث. 
وحين تجد في نفسك رغبة لمناجاة الطيور ومهامسة الحقول والتحديق في وجوه الغوادي القادمات من خلف الجبال مثقلات بالماء لتسكبه في مهج الحقول العطاش، يحضرك بعض مما سطره هذا الشاعر العظيم من ملاحم العشق للأرض والتماهي مع إيقاع الماء في أوردة السواقي  وهو يسأل الطير: 
أين اشتسير قلي المسير إلى اينه
شاسير معك واجولبي (الرعينة)
يا للعجب قالوا الهوى بشرعب
واحر قلبي كم عشق وكم حب
في فوفلة عرف الخزام فواح 
قد شل روحي واستضاف لي أرواح 
أمسيت في الأعروق أردد الآح 
والسائلات عني بغيل مجدب 
يا للعجب كل الدروب شرعب 
يا للعجب كل الحروف شرعب
فتشت في كتب الهوى معاجم
يمكن أرى في صفحة التراجم 
من يشبهك في الناس والحمائم 
بس أنت بس يا قمري الهياجم
لم يكتب ملاحم الغناء لمسقط رأسه شرعب فقط، بل استهوته كل قرى اليمن، ومنها تهامة بلهجتها الشيقة التي أجاد تجسيدها في الأغنية الشهيرة التي غناها أيوب طارش بلحن بديع، كأول تجربة له للغناء باللهجة التهامية:
وازخم واسمر 
أفديك أنا وامحنا أفدي الفنا وامدرر 
وكما عزف شبابة الساقية في ظل وادي بنا، عزف على أوراق البن في بني حماد:
وبن وادي بني حماد عذب الجنا 
واستنهض التاريخ اليمني الغابر، ونفخ الروح في جدران سد مأرب: 
يهنيك يا مأرب الأمجاد عدنا وعاد 
عثمان أبو ماهر واحد من أهم حملة لواء الشعر وبيارق الإبداع الغنائي الراسخ في وجدان اليمن أرضاً وإنساناً، رحمه الله.

أترك تعليقاً

التعليقات