رئيس التحرير - صلاح الدكاك

عدن - صنعاء - دمشق - القاهرة - موسكو والعودة
علي ناصر محمد منصة روسية لتمرير مشروع العدوان كـ(خيار نظيف)

في صيف العام 2004 التقيته في مكتبه في العاصمة السورية دمشق، وأجريت معه حواراً صحفياً لـ(ثقافية ـ الجمهورية)، وكان أبرز ما أدلى به حينها تأكيده بأنه يعكف منذ سنوات على كتابة مذكراته السياسية.. كان حينها وافر الصحة قوي البنية وغض الملامح، حتى لتحسبه شاباً في مطلع الثلاثينيات، وهو ذو الرصيد الحافل بحضور مائز في بواكير العمل السياسي اليمني منذ الخمسينيات، وأحد أبرز أوائل المؤسسين للجبهة القومية، والعمل الفدائي ضد الاحتلال البريطاني، وصولاً إلى دوره المحوري المؤثر في سدة الحزب الاشتراكي اليمني وسدة الحكم في الشطر الجنوبي لليمن سابقاً.. لم آخذ مسألة (كتابة المذكرات) على محمل الجد، وأيقنت أنها ـ بالنقيض لما توحي به من اعتزال العمل السياسي ـ تبرهن على دور موارب يصوب علي ناصر محمد بصر طموحه نحوه.. ويبدو أن أوان نهوضه بهذا الدور قد أزف، وباتت الظروف مواتية ليعاود الظهور في واجهة المشهد السياسي اليمني مجدداً كشخصية جنوبية (نظيفة) تحظى بعلاقات جيدة مع الشمال، وترى أن (طموح عدن للانفصال) لا سبيل لتحقيقه إلا بالتنسيق مع (صنعاء) وتأليف سلطة انتقالية سياسية في كنف دولة اتحادية مزمنة من إقليمين بحدود 1990م، تتيح للجنوب حق تقرير مصيره لاحقاً كشرط للقبول بها.. لا يزال في أجندة علي ناصر ـ إذن ـ الكثير مما يتعين عليه فعله قبل أن ينيخ على دكة التقاعد ليكتب مذكراته في سباق مع الزهايمر.
قال الرئيس اليمني الجنوبي الأسبق علي ناصر محمد لـ(الأهرام العربي) المصرية، إن الوحدة اليمنية ذهبت بلا رجعة، وإن الحل للأزمة في اليمن هو قيام دولة اتحادية من إقليمين في حدود 21 مايو 1990م، اليوم السابق لتوقيع الوحدة الاندماجية بين الشطرين. وفي موضع آخر من حوار المجلة الذي أجرته معه في القاهرة، الأسبوع الفائت؛ أكد ناصر أن اليمن تحتاج إلى رئيس واحد وحكومة واحدة ووزير دفاع واحد، في تناقض واضح مع ما أكده بدءاً من أن الوحدة اليمنية ذهبت بلا رجعة..
(ناصر) الذي امتدت حقبة بياته السياسي وتواريه في الكواليس لأكثر من 3 عقود دشنها بفراره من عدن في يناير 1986م، على خلفية الاقتتال الدامي بين الرفاق الفرقاء في الحزب الاشتراكي الحاكم حينها في الشطر الجنوبي، غادر شرنقة بياته الطويل، وعاد إلى الواجهة لأول مرة أواخر شباط/ فبراير من العام الجاري، حين أطل من موسكو بصحبة المبعوث الأممي إلى اليمن إسماعيل ولد الشيخ.
كان واضحاً حينها أن رجل البيات لم يعاود الظهور من تلقاء نفسه، وأن روسيا شرعت عملياً تصطاد في المياه العكرة للمشهد اليمني، لا سيما جنوباً، حيث احترقت بالكامل الكروت السياسية التي ضارب التحالف الأمريكي السعودي بجنوبيتها في بورصة العدوان على اليمن، وباتت الحاجة ماسة إلى كروت بديلة، فاقتنصت موسكو ـ على الأرجح ـ هذه الفرصة، ودفعت بـ(علي ناصر) كخيار (نظيف) يلبي حاجة التحالف والمجتمع الدولي المنحاز إليه، كما ويرفع من قيمة روسيا على مستوى التأثير في الملف اليمني.
وفي أبريل الفائت هذا العام، ابتعث ولد الشيخ وفداً أممياً إلى (ناصر) المقيم في القاهرة المصرية، ليبحث معه مستجدات (الأزمة اليمنية) و(سبل الحل)، ما يعني أن الرجل أصبح في مستطيل الرهان الدولي، وأن موسكو امتلكت الأهمية التي تخولها لامتلاك منصتها الخاصة ضمن المقاربة الدولية لأفق الاشتباك في اليمن.
يتبنى (ناصر) في حوار (الأهرام العربي) خطاباً لا يخرج على محددات التحالف الأمريكي السعودي لطبيعة الصراع في اليمن، حيث يقر بـ(الشرعية لهادي ـ رفيق زمرة يناير 86)، ويرى أن الحرب ـ لا يسميها عدواناً ـ على اليمن، كانت ردة فعل على حزمة أخطاء ارتكبها (الحوثيون)، غير أنه يحاول الاحتفاظ بملامح مغايرة خاصة به كلازمة مفيدة لجهة دور مستقبلي، فيقع في سلسلة من التناقضات خلال حواره، فيؤكد ـ على سبيل المثال ـ أن حرب التحالف على اليمن هدفت لإقامة مشروع (اتحادية من 6 أقاليم)، والمعلوم أن ثورة أيلول 2014 كانت قد أطاحت بهذا المشروع في وقت كان خلاله قيد التنفيذ؛ لكن (ناصر) يسقط هذا المنعطف الأبرز من سياق التطورات؛ تزلفاً للتحالف، وهو الذي بارك ثورة أيلول لحظة انتصارها، واعتبرها ـ في بيان صادر عن مكتبه حينها ـ مفتتحاً لحل القضية الجنوبية، وأظهر قبولاً مبدئياً بالانضواء في مجلس رئاسي جامع كان الشهيد عبدالكريم الخيواني قد اقترحه عليه وعلى (البيض)، وكان من مؤشرات التواصل بهذا الصدد منحهما جوازي سفر يمنيين سحبا عنهما قانونياً عقب أحداث (86، 94)؛ لتعيدهما أيلول 2014 إليهما.
يرى (ناصر) ـ في تناقض فاضح من تناقضات لقاء الأهرام ـ أن الحوار الكفيل بحل الأزمة اليمنية ينبغي أن يكون حواراً يمنياً ـ يمنياً بمنأى عن التدخلات الخارجية، ثم يقول في موضع آخر إن الحل يكمن في تنسيق إقليمي أممي، وفي استبعاد الأطراف (المتسببة في الحرب) من التسوية السياسية، علاوة على أنه يبدي صراحة دعمه (لأفكار ولد الشيخ حول الحديدة ومطار صنعاء).. ويؤكد أن الحرب ستنتهي (عندما يتفق الكبار) الذين يعني بهم اللاعبين الإقليميين لا المحليين، فالأخيرون بنظره ليسوا إلا صغاراً (يدفعون ثمن حماقاتهم وأحياناً عمالتهم)، مستعيداً (اتفاق عبدالناصر ـ فيصل في مؤتمر الخرطوم 1967م)، والذي أفضى لإنهاء حرب (الملكيين والجمهوريين)، في حين فشل (مؤتمر حرض) في إنهائها حد رأيه.
ينفي (ناصر) أن يكون لإيران دور مباشر في الصراع في اليمن، عدا أنها ـ حد تعبيره ـ متورطة إعلامياً، إضافة إلى كونها (تقدم دعماً معنوياً وخبرات واستشارات...)، دون أن يسمي الطرف المنتفع من هذا الدعم، ويرى أنها اللاعب الإقليمي الوحيد المستفيد مما يجري دون كلفة من خسائر مادية عليه.
في الحوار الصحفي يعترف الرئيس الأسبق ضمناً باتصالات جرت بينه وبين أنصار الله، قبيل العدوان على اليمن، وذلك من خلال سرده مجموعة نصائح أسداها للحركة بزعمه، ومنها أن يؤلفوا حزباً سياسياً يكون (منصة لظهورهم)، وأن يتلافوا (أربعة محاذير: عدم الاقتراب من الحد السعودي، عدم الاقتراب من باب المندب، عدم الاقتراب من عدن والجنوب، وعدم المساس بشرعية هادي)!.. وبما أنهم لم ينزلوا ـ حد اعتقاده ـ عند أي من نصائحه الثمينة السالفة، فقد استحقوا العواقب المتمثلة في العدوان على اليمن والحصار و... لا تخلو نصيحة (ناصر) للحوثيين بإنشاء حزب، من كوميديا مبكية، فالرجل كان على رأس أحد أكبر الأحزاب الحاكمة في المنطقة العربية، ولم يحل ذلك دون بروز الانقسامات الداخلية والتناقضات البنيوية لـ(الحزب الاشتراكي) الذي كان على رأسه، في صورة مجازر بينية دامية أفضت إلى فراره وانقضاء أكثر من 3 عقود من عمره لاجئاً في الشتات لا يملك حتى اللحظة حق العودة إلى بلده؛ وفيما إذا كان تأليف حزب أمراً صحياً وتعويذة واقية مباركة، فلماذا بخل (ناصر) على الحراك الجنوبي بنصيحة كهذه، وتفضل بها على (الحوثيين)؟!..
وإذ يقر بفوضى وتردي الأوضاع في (الجنوب المحرر)، والنزاع الفصائلي الدامي الذي يشهده، وعجز (الشرعية) عن اتخاذه منطلقاً للحكم، فإنه ينسب كل هذه التداعيات إلى (اجتياح قوات الحوثي ـ صالح لعدن)، ويحرر صك غفران وتبرئة لتحالف العدوان والاحتلال الأجنبي، من جريرة الزج بالجنوب في الفوضى والنزاع ونهب ثرواته وتقطيع نسيجه الاجتماعي، الأمر الذي يجعل من الاستقرار فيه أمراً (بعيد المنال) حد تعبيره!
وفي رده على سؤال الأهرام الأخير حول ما إذا كانت الأوضاع ستتطور بما يهدد الملاحة في البحر الأحمر، أكد علي ناصر أن التهديد للملاحة قائم، لكنه لم يسمِّ مصدره، ومن قبل من، إلا أنه قال إن (الضغط الدولي باتجاه الحل السياسي في اليمن) يستند على خطورة هذا التهديد، وأن المجتمع الدولي لن يسمح بتنامي هذا الخطر (حتى لو كان على حساب شركاء وحلفاء إقليميين للقوى العظمى المؤثرة على القرار الدولي)،.. وهو في إجابته هذه يصدر بالأرجح عن موقف روسي ـ صيني يعارض سيناريو (غزو الحديدة بحراً) بالنظر إلى التداعيات الكارثية الملاحية التي ستنجم عنه ولا ريب، في ظل امتلاك البحرية اليمنية ممكنات الردع البحري، عوضاً عن الأطماع الأمريكية غير الخافية وراء هذا السيناريو الهادف للسيطرة على شريان التجارة الدولية الأهم بحراً، ووضع الصين في خناق أمريكا تجارياً.
بالتزامن مع ذكرى ثورة أكتوبر، وغير بعيد من زيارة سلمان لموسكو، وقبيل إحاطة ولد الشيخ في مجلس الأمن بساعات، برز علي ناصر محمد إلى السطح، ولم يكن بروزه اعتباطاً، فلهذا الطفو حوافزه الخارجية واللاذاتية كما ودلالاته ومؤشراته على مسار الصراع التي يمكن تلخيصها في:
ـ نجاح القيادة الثورية والمقاتل اليمني في نقل الصراع إلى طور باهظ الكلفة على العدو سياسياً، وتمييع وخلخلة ملعب تحالفاته إقليمياً ودولياً.
ـ نفوق الدمى الذرائعية الرئيسية التي تلطى خلفها التحالف الأمريكي السعودي، جنوباً وشمالاً، وحاجة المجتمع الدولي إلى اجتراح مقاربة سياسية للحل في اليمن بوجوه بديلة بِنِيَّة الالتفاف على القوى الوطنية وتمرير مشروع التقسيم بصيغ أخرى.
ـ تعميق عجز الإدارة الأمريكية في الانفراد بالقرار واضطرارها لإفساح مزيد مساحة لحضور روسي صيني على مستوى أكثر من ملف في المنطقة.
ـ شل قدرة دول الخليج المنخرطة في العدوان، على لجم تناقضاتها وأزماتها البينية العاصفة، وترتيب بيتها الداخلي المحترب حول العرش والبيعة، بحيث لا سبيل إلى وضع معالجات مجدية لهذه الخلطة من المعضلات والأزمات دون استنقاذ نفسها من مستنقع إخفاقاتها في اليمن.
ـ شل قدرة تحالف العدوان عسكرياً على اقتراف حماقة غزو الحديدة بحراً، ونجاح البحرية اليمنية والعقل العسكري الثوري في إثارة مخاوف المجتمع الدولي إزاء التبعات المترتبة على حماقة من هذا القبيل فيما إذا وفر غطاءً لها، وإرغامه على كبح جماح أطماعه التوسعية، من خلال حزمة ناجعة من جدارة الردود النوعية التي نفذتها بحريتنا البطلة في مسرح الاشتباك البحري؛ على امتداد قرابة ثلاثة أعوام من عمره.
ـ أخيراً يعوز قيادتنا الثورية والسياسية ـ على عتبة منعطف تفاوضي وشيك ـ أن تعزز وتثري الجبهة الوطنية المناهضة للعدوان والهيمنة الخارجية بطيف واسع من المكونات والشخصيات الوازنة جنوباً ووسطاً وشمالاً، عبر تحجيم التباينات وتوسيع وشائج المشتركات إزاء خطر وجودي يهدد باجتثاث الجميع بلا استثناء.

أترك تعليقاً

التعليقات