الرهان الخاسر
 

رئيس التحرير - صلاح الدكاك

راهن تحالف العدوان السعودي الأمريكي، منذ البدء، على مساحة الخور والضعف التي يدركها في بنية الدولة اليمنية المؤسساتية، والتي أسهم بصفة مباشرة وغير مباشرة في تنميتها طيلة عقود حقبة الوصاية على اليمن، وخلال سنوات ما بعد صعود (العميل هادي) بصورة فجة وأكثر فضائحية.
وثمة منسوب خفيض من القوة تحوز عليه الدولة اليمنية المهلهلة، لم تفلح ماكنة العمالة المحلية في تقويضه إبان نصف العقد التخريبي الأخير والنشط، غير أن تحالف العدوان راهن، في هذا الجانب، على ما اعتقده عجز القيادة الثورية سياسياً في اتخاذ قرار الرد خشية إثارة حفيظة المجتمع الدولي، كما وعجزها فنياً وعملياتياً في إعادة تأهيل منسوب قوة الدولة المتأتي، وإدخاله مسرح المواجهة العسكرية بحرفية تفي بإحداث تكافؤ نسبي إزاء ترسانة عدوان حربية شديدة التفوق.
توقع التحالف السعودي الأمريكي، بناءً على ذلك، نصراً ماحقاً في غضون أسابيع من مباشرة العدوان على اليمن، حد تأكيدات وزير الخارجية وزير الدفاع الأمريكي الأسبق (كولن باول)، فامتد أمد المواجهة، وخابت رهانات العدو بدءاً من لحظة ظهور سيد الثورة السيد عبدالملك الحوثي، في خطاب متلفز هو الثاني عقب 40 يوماً من عمر العدوان..
قرأ سيد الثورة على مسامع العالم المتواطئ (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير).. 
هكذا تأكد للتحالف أن خلف زناد المواجهة إصبعاً، وأن خلف الإصبع عقلاً ثورياً حصيفاً يضبط إيقاعها، فسارعت قيادته لاحتواء جدية الرد القادم بالمناورة، ولم تمضِ بضع ساعات على خطاب السيد، حتى كان ناطق التحالف عسيري يعلن أن (عاصفة الحزم كطور أول قد انتهت وأنجزت أهدافها، وأن الطور منذ اللحظة هو لإعادة الأمل)..
كانت الحدود الجنوبية للمملكة حتى ذلك الحين، هدفاً لضربات محدودة وذات مغزى بغطاء من قبل قبائل التماس اليمنية، ثم صارت وجهة مثالية لعمليات نوعية وحربية متوغلة باشرها المقاتل اليمني بغطاء رسمي من الجيش واللجان الشعبية، واستدعى ذلك أن تلتجئ (الرياض) للمسار الأممي التشاوري الذي طرحت آلتها الحربية بديلاً عنه وبالضد له، فعاودت الأمم المتحدة اتصالاتها لترشح عن (جنيف1)، في 16 يونيو العام الفائت.. قبل هذا التاريخ بـ10 أيام، دمر صاروخ باليستي من نوع (سكود) وهم العجز الفني والعملياتي الذي اعتقده تحالف العدوان، في القيادة الثورية، بتدمير (قاعدة الملك خالد بن عبدالعزيز) في ظهران عسير، وأعقبه صاروخ من ذات النوع على قاعدة (السليل العسكرية) في نطاق العاصمة السعودية الرياض، إثر انفضاض (جنيف1) خالي الوفاض، لينعقد (جنيف2) في ديسمبر، وعشية انعقاده قبيل ساعات من سريان الهدنة، كان صاروخ (توشكا) الباليستي يطحن المئات من قيادات وأفراد تحالف العدوان في مركز عملياته بـ(ذوباب تعز)، وعلى رأسهم قائد التحالف ذاته (السعودي عبدالله السهيان).
كرست العمليات النوعية للمقاتل اليمني في جنوب المملكة، بالتضافر مع الضربات الباليستية، توازن ردع جيداً بدرجة مرتفعة، أرغم تحالف الرياض واشنطن على التذرع بالمشاورات الأممية، أملاً في أن يحصد نصراً استحال حصاده ميدانياً، واستجابت القوى الوطنية للمشاورات أملاً في وقف العدوان ورفع الحصار، لكنها عززت بالتوازي عوامل استمرار القدرة على المواجهة العسكرية، ولم تفتر يدها القابضة على البندقية للحظة..
كان ثقل وفدنا الوطني في المعترك السياسي خلال محطات المشاورات الثلاث، بما فيها (الكويت)، يتكئ على مكوني (أنصار الله والمؤتمر الشعبي العام).. مكون قادم من أتون العمل الثوري، ويتصدر سدة القيادة الحربية في مواجهة العدوان، ومكون قادم من غنى تجربة سياسية مديدة في سدة الحكم، أعقبها فترة بيات قسري تحرر من أكبالها بفعل تداعيات ثورة 21 أيلول، وبفعل نتائجها الإيجابية عليه - أيضاً- وجد نفسه هدفاً لغضبة (الرياض واشنطن)، ليتشاطر تبعات عدوانها على (يمن 21 أيلول)، والموقف من هذا العدوان جنباً إلى جنب مع القيادة الثورية والقوى الوطنية الأخرى.
لقد أصاب المؤتمر الشعبي برئاسة (علي صالح)، (شرعية هادي) في مقتل، بموقفه المناهض لتحالف عدوان يتذرع بتلك الشرعية، حيث اختل التوافق الناجم عن مبادرة الخليج حول (هادي) الذي طار لكرسي الرئاسة بجناحي (المؤتمر الشعبي والمشترك)، في 2012، لا بجناح دستوري وعبر خوض منافسة تقليدية انتخابية.
لم تفلح (الرياض) في إنجاز صفقة ائتلاف حاولت عقدها بين (الإخوان وصالح)، لمواجهة (أنصار الله) عسكرياً عقب ثورة أيلول، فقد قوبلت هذه الصفقة بالرفض المطلق من قبل (علي عبدالله صالح)، وعليه فقد بذلت (الرياض) المحاولة تلو الأخرى لاستنساخ المؤتمر الشعبي، وسحب بساط (شرعيته) لجهة تنصيب (هادي) رئيساً له تدعيماً لـ(شرعيته التوافقية) المجروحة بقوة، إلا أن وفاق الأمر الواقع بين (صالح وأنصار الله) ظل موضع استثمار سعودي بالنظر إلى أنه لم يسفر - بالحد الأدنى - عن تأليف حكومة مشتركة بين المكونين، تملأ الفراغ، لامتناع (المؤتمر) عن الذهاب إلى خطوة كهذه على قاعدة المرجعية الثورية، وفي ظل الإعلان الدستوري، عدا أن هذا الوفاق - وفق تقديرات الرياض - ليس إلا شهر عسل قصيراً سيفضي ولا ريب إلى احتراب حتمي بين المكونين، يقوض الجبهة الداخلية، ويفتح طريقاً معبداً للتحالف إلى صنعاء، في الحد الأقصى.
يمكن الجزم بأن اتفاق تأليف (مجلس سياسي أعلى لإدارة البلد ومواجهة العدوان)، والذي وقعه مكونا أنصار الله والمؤتمر وحلفاؤهما، الخميس الفائت؛ قد صعق (الرياض واشنطن) بأضعاف ما صعقتهم كل الضربات الباليستية مجتمعة.
من خلف ستار الكتمان الفولاذي برز القيادي في (أنصار الله) أبو مالك يوسف الفيشي، والرئيس السابق رئيس المؤتمر الشعبي العام (علي عبدالله صالح)، ليباركا في تسجيل متلفز الاتفاق في صورته الناجزة.
ستحتاج (الرياض - واشنطن) إلى فسحة من الوقت لتتعافيا من تبعات الصدمة، وتستوعبا تداعياتها، وسؤال اللحظة بالنسبة إليهما يبقى:
(هل يمكن تجيير هذه الصفعة إيجاباً لانتزاع إجماع أممي يقر بأن المشاورات فشلت، ويحمل الحوثي صالح المسؤولية عن فشلها، ومن ثم يجري ترجمة ذلك في صورة قرار أممي بالتدخل العسكري لمعاقبة المكونين؟!)..
الإجابة على هذا السؤال موقوفة بالإجابة على سؤال مذيعتي العربية - الحدث نجوى والرمحي، لضيوف الشاشتين، أمس الأول: (من أوحى إلى الحوثي بهذه الخطوة؟! ومن هو الطرف الدولي الذي يحتمل أنه أوعز بها؟!)..
إن حضور (صالح) الذي أضفى جدية على الاتفاق بحيث يصعب تأويله كمناورة لتدعيم موقف وفدنا الوطني في مشاورات الكويت؛ هو حضور يشير بقوة إلى أن اطلاع روسيا بوتين على إرهاصات هذا الاتفاق ومباركتها له، قائمة، الأمر الذي يجهض انتفاع الرياض واشنطن من هذا التطور الفجائي لانتزاع قرار أممي عقابي تحت الفصل السابع، إذ إن (الفيتو الروسي) وربما الصيني وارد، وسيعيق حتى محاولة الدفع بمشروع قرار محتمل من بلوغ طاولة التصويت في مجلس الأمن..
لا خيار لوفد الرياض أمام ذلك سوى مشاورات الكويت، لكن فرص انتفاعه من أية تسوية تنجم عنها أياً كانت التنازلات فيها من جانب وفدنا الوطني، فرص شبه معدومة سلفاً بحكم مآزقه العسكرية على الأرض.
الخميس الفائت، وعقب الإعلان الوطني عن (مجلس سياسي أعلى)، أعلن وفد الرياض أنه سيغادر الكويت (بعد غد)، أي أمس السبت، وكان مؤكداً أنه لا حيلة له سوى الاستمرار في المشاورات، لذا فقد رضخ أخيراً لغير سبب حصيف، كما أبدى رغبته في مغادرتها لغير سبب حصيف.
إن شتات وتضارب أجندات ونوايا المرتزقة وتباين مموليهم داخل حظيرة تحالف العدوان؛ لا يتيح لهم الانخراط جدياً في تسوية سياسية شاملة، ولا يتيح لهم - في المقابل - رفضها، وهذا هو ما يثير الشفقة إزاءهم علاوة على القرف.
لطالما استيقن وفد مرتزقة الشتات أنه لا سبيل للتعافي من تناقضاتهم الحادة، دون تأجيج تناقضات مماثلة في أوساط القوى الوطنية المناهضة للعدوان، وفي طليعتها (أنصار الله والمؤتمر الشعبي)، واليوم فإن انبثاق (المجلس السياسي الأعلى) في هذا التوقيت، هو بمثابة (رصاصة رحمة) أجهزت، لا على الحوار السياسي حد توصيف جوقة الرياض، وإنما على (شرعية حكومة مصابة بفقدان المناعة كلياً)، وتحشرج في النزع الأخير!
باختصار: من أراد الالتحاق بحاضنة الوفاق الوطني ممن لا يزال في ضميره بقية نبض، فإن الأبواب مشرعة، (والموتى يرحمهم الله).

أترك تعليقاً

التعليقات