رئيس التحرير - صلاح الدكاك

ما الضمانات الكفيلة بتهدئة (مخاوف الرياض) إزاء مستقبل العلاقة بينها وبين صنعاء، لا سيما في ظل فشل تحالفها العسكري في تعبيد المشهد السياسي اليمني لإملاءاتها مجدداً، واضطرارها للتسليم بقوة (أنصار الله) ومتغيرات ما بعد ثورة 21 أيلول 2014، التي أطاحت بمنظومة نفوذها التقليدية العتيقة، ووصايتها على اليمن؟!
تريد (الرياض) من أية تسوية سياسية قادمة في اليمن، أن تتوافر على جملة ضمانات، تعدها مصيرية وملحة لجهة حاجة المملكة إلى الاحتفاظ بموقعها كمركز حاكم وقبضة عليا متصرفة في شؤون وتوجهات بلدان الجوار الخليجي والعربي بالعموم، وهو موقع تضعضع بشدة عقب أيلول 2014، وانخراطها في اشتباك عسكري مباشر وعاثر مع اليمن، الأمر الذي أتاح لملفات كثيرة، أبرزها (الأزمة السورية، النووي الإيراني)، أن تتقدم، كما أتاح للخلافات البينية الخليجية السفور بصورة غير مباشرة على هيئة مناسيب حضور مغايرة لوجهة (الرياض)، ومنتفعة من ضمور حاكمية (الشقيق الأكبر)، فبات هناك ملامح عمانية، وأخرى كويتية قيد التخلُّق.
وثمة ملف داخلي أكثر حساسية من كل ذلك، هو ملف البيعة للملك القادم، حيث يبقى البت فيه رهناً بما سيؤول إليه مخاض الصراع في اليمن، ففيما راهن محمد بن سلمان على الحرب كجواد يجتاز به الفجوة بين كونه ولياً ثانياً للعهد، إلى ولي عهد أول، ووريث مباشر للملك الشائخ والخرف، يراهن (محمد بن نائف)، على استثمار ريوع الخيبات المرة لـ(حرب المهفوف) العاثرة، وعجزه في النأي بالمملكة عن صرصر رياحها المرتدة، لا سيما فشل تحالفه في وقف الضربات الباليستية، واستنقاذ سيادة السعودية على جنوبها من مخالب المقاتل اليمني في الجيش واللجان.
في الظل، تعمل (الرياض) على تعطيل كل تسوية ممكنة بين اليمنيين، لا تنطلق من واقع مأزق المملكة في استشراف الحلول، بيقين أن الشأن اليمني ليس إلا شأناً سعودياً، لا أممياً ولا محلياً، ويتجلى هوسها ـ على هذا المستوى ـ في تجيير المبعوث الأممي مبعوثاً خاصاً لها، ومترجماً حصرياً لمخاوفها، كما ترشو بإسراف لتأليب التباينات الدولية الأمريكية الروسية الصينية حولها، وصولاً لإجماع يدين المفاوض الوطني، ويشاطرها مآزقها على الأرض عسكرياً بسند من قرار أممي صريح.
وفي الضوء، تدفع (الرياض) بأدواتها لخوض المشاورات كطرف يمني في أزمة داخلية محض، وتطلق مبادرة للحل بوصفها طرفاً ثالثاً محايداً.
مرحلياً، تطمع (السعودية) في مشهد سياسي هجين ينجم عن تسوية سياسية في كنفها مباشرة وعلى أرضها، تتيح لعملائها غلبة عددية في مشهد الحكم اليمني، تشل قدرة المكونات الوطنية على الفعل، ولتحقيق ذلك فإنها تعمل على أن يكون المدخل للإطار السياسي التنفيذي، أمنياً وعسكرياً، بما يضع مقدرات الجيش اليمني واللجان تحت الوصاية الدولية المباشرة قانونياً، ومن ثم تجريده منها أو مواجهة تدخل عسكري بقرار أممي تحت الفصل السابع.
حتى اللحظة، فشلت (الرياض) أمام صلابة موقف وفدنا الوطني، ورفضه تقديم عربة الحل الأمني العسكري على حصان تأليف الإطار السياسي التوافقي، إلا أنها نجحت في دفع دولة الكويت إلى النكوص عن دورها في استضافة المشاورات اليمنية كحد أدنى لحضور كويتي جرى تغييبه سعودياً طيلة عقدين ونصف العقد، وهو نجاح يحسب للرياض على مستوى دمغ التباينات الخليجية ببصمة مركزيتها كشقيق أكبر.
في السياق ذاته ـ ووفقاً لمؤشرات ترشح عن كواليس المشاورات ـ فإن السعودية قد تنجح كذلك في نقل فعاليات التشاور من الكويت إلى (مكة)، بيد أن ذلك لا يعني بالمطلق أن متغيراً نوعياً استجد لجهة واقع مأزقها العسكري على الأرض، وخيبة زحوفات مأجوريها في إحراز تقدم ما، كما وخيبة سلاح الجو في تحقيق تفوق ردع، يضمن مثول وفدنا الوطني كسير الجناح بين يدي حل سياسي تمليه بناظم حاجتها لصياغة مشهد يمني داجن وكسيح.
تَشَاطُرُ الألم على ضفتي الصراع: اليمن وتحالف العدوان، هو ـ بطبيعة الحال ـ ما جعل من (الحل السياسي) خياراً، وفيما لو رجحت كفة طرف على الآخر، فإن ذلك سيعني جولات جديدة ومديدة من الاقتتال، في تقديرات (بكين)، وفق ما ألمح به سفيرها في اليمن، خلال لقاء جمعنا به في الكويت..
بالنسبة إلى (الرياض)، فإنها ترمي بكل إمكاناتها في المعركة العسكرية بالقصور الذاتي سعياً لتلافي القبول بنفوذ مجزوء وضئيل في مشهد يمني كان نفوذها فيه مطلقاً، عبر تسوية سياسية تحتفظ لليمن بقدراتها الباليستية، ويبقى فيها (أنصار الله) المكون الأقوى من حيث التنظيم والمعرفة والتسليح الحربيين..
إزاء اندفاع السعودية عسكرياً، يلتزم المقاتل اليمني الوطني مبدأ الدفاع كتكتيك مرحلي كافٍ لكسب المعركة، في سقفها الراهن، والمتمثل في تقويض الخطوط العريضة للعدوان، وتبديد طاقته الهجومية الهائلة، وفيما لو امتلك جيشنا مدخلات حربية تقنية قادرة على إحداث تفوق ردع حالياً، كأن يتمكن من اصطياد (الإف 16)، فإنه لن يستخدمها ـ برأيي ـ حتى يتيح للطرف الآخر العدو استنفاد ذرائعه على طاولة المشاورات السياسية، وبما يفضي لإعلان فشل الحل السياسي من جانبه، وعندها فإن زخم المعركة على الأرض لن يحافظ على وتيرته السابقة للعملية التفاوضية، كما يؤكد القيادي الثوري (أبو مالك الفيشي)، وسيتفاجأ العدو بأن (المعادلة تغيرت)، حد تعبيره في منشور له على (فيسبوك)، ملمحاً إلى أن ضربات الجيش واللجان ستطال مدن العمق السعودي، قصاصاً لطفولة نازحة في اليمن بفعل العدوان، ولبنى تحتية مدنية دمرتها غاراته، ووفقاً لمبدأ (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)..
إن ألم اليمنيين في الوقت الراهن، لا ينبغي أن يُؤوَّل ـ بالخطأ من جانب العدو ـ كفرصة مواتية لانتزاع صك استسلام طوعي منهم، حتى يجري التلويح في وجوههم بشبح (الفرصة الأخيرة) و(مهلة الـ15 يوماً)..
انفتح اليمنيون على الحل السياسي بدافع وقف العدوان ورفع الحصار كما ورفع يد الوصاية على قوتهم وقرارهم، وبدافع من هذه المطالب المشروعة ذاتها، خاض اليمنيون ويخوضون المعركة العسكرية، والأحرى بالعالم المنافق أن يثمن انفتاحهم على السلام، عوضاً عن أن يحاول إخافتهم بما لم يعد مخيفاً.
إن نقل الجولة الأخيرة للمشاورات من الكويت إلى (مكة)، قد يرضي الغرور والنرجسية السفيانية للعائلة السعودية المالكة، لكنه لا يغير من فداحة الواقع وحقائقه الموضوعية عليها، فوفدنا الوطني لن يقدم على الطاولة المحدثة ما أخفقت (الرياض) في انتزاعه منه على الطاولة التليدة للمشاورات.
إزاء ذلك، فإن السعودية أمام خيارين: أن تجعل من (مكة) بوابة لـ(صلح حديبية) معقول ومنطقي بالحد الأدنى، أو أن يجعل أبطالنا في الجيش واللجان الشعبية، منها بوابة للفتح حَجّاً من (مرَّان) لا من (يلملم)، وحجيجاً غير محرمين يأتون على كل ضامرٍ من كل فجٍّ عميق.

أترك تعليقاً

التعليقات