رئيس التحرير - صلاح الدكاك

ولا تبكنــــي ســــراً إذا أمكــــن الجهــــر
التربــة.. رحيــل الساقــي!


بهتت كثيراً ملامح عبدالرقيب عبدالوهاب في الصورة التي وضعت تخليداً لذكراه، على واجهة أحد المباني وسط مدينة التربة عند المرسى الأخير لسيارات الأجرة القادمة من تعز.. وعلى الضفة المقابلة لها من (شارع إبليس) العام، سطعت صورة (المعلم قشنون) المثبتة حديثاً.. قبل أكثر من عام حين زرت التربة للمرة الأولى، كان الشخصية الشعبية طاغية الصيت، لايزال يتنفس ويمطر الأحياء والجمادات بـ(عرعراته) ودعاباته البذيئة والبريئة معاً..
متكاه الإسمنتي في ركن الشارع، والذي ظل لعقود أربعة يدير منه فرزة سيارات الأجرة كأول وأعتق نقيب سائقين، كان محجاً للكلاب المتشردة والمجانين، لكنه لم يعد كذلك اليوم، فقبل أشهر فقط استيقظ لفيف المريدين من حيوانات وأشباه بشر، على مكان، لا فضلات طعم فيه ولا أكواب شاي ولا سجائر مجانية.. لقد رحل (قشنون) إلى الأبد، وانفض حشد الكلاب والمجانين كقطيع يتامى، مشيعين بعواء الخيبة والحزن.. فمن يكون هذا الرجل الذي يشاطر أعلام التنوير في الحجرية، الصيت والشهرة، رغم كونه أمياً، وتزاحم صورته صورة بطل حصار السبعين الأبرز، رغم براءته من كل أيديولوجيا عدا أيديولوجية (أنيـ... عاره من يكرهك يا فندم!) التي بايع بها دائماً كل الفرقاء، وبذلها بالتساوي لليسار واليمين والأسود والأبيض!
 من يكون (قشنون)؟ العادي جداً والمثير جداً، البسيط والمتناقض، عدو السياسة وصديق الساسة والرؤساء، خصم المئذنة وحليف الرصيف، نقيب السائقين الذي لايملك سيارة، ولم يقدها في حياته،..؟!
نهاية سبعينيات القرن الفائت، ووسط اشتعال أحداث الحجرية التي راح ضحيتها عشرات المشائخ، تسلل رجل نحيل قصير بملامح لامبالية، إلى مسرح المواجهات المحتدمة، لينتشل جثة تعذر الوصول إليها، ودفنها، تبين بعدها أنها جثة الشيخ البحر، أما الرجل الذي دفنه فكان (قشنون)، بحسب رواية يفسر بها البعض الحضور اللافت لشخص يرونه أقل من عادي!
غير أن هذا العادي والمغمور يقلب طاولة التفسيرات، ويغدو أكثر من استثنائي حين نطلع على تفصيل موازٍ لحادثة الدفن... فقبل أسابيع من وفاته تلقى (قشنون) مكالمة دولية.. كان أحدهم يطمئن على صحته. رفع سماعة هاتفه الثابت، وعلى الطرف الآخر كان المتصل عبدالله عبدالعالم، المتهم الأول في واقعة (مذبحة المشائخ) الشهيرة، يؤكد نجله الأكبر خالد أنها لم تكن المكالمة الأولى، وأن والده كان على اتصال بـ(عبدالعالم) كما بـ(آل البحر) أيضاً، ويضيف: (كان المرحوم صديق الجميع على السواء).
يشغل خالد موقع أبيه في إدارة الفرزة، كوريث ارتضاه السائقون لعرش تربعه (قشنون) طيلة نصف قرن، وكان ملكه الأول، صلته بأبيه تبدو صلة صديق بصديق يتحدث عنه بنبرة لا أثر فيها لأنانية الابن ونهمه لاحتكار المثير الذي يتوق الآخرون لمعرفته عن شخصية شهيرة تربطه بها البنوّة؛ لذا فإنه يسرد ما لديه بعفوية ومكاشفة، ولا يتحفظ إلا على ما يجهله بالفعل.
في حياته اعتاد (قشنون) أن يقرع الصحفيون بابه، غير أنه ظل هامشاً، في كل ما كتب عنه، وظلت قيمته منحصرة في حادثة دفن البحر.. كان الاقتراب منه اقتراباً حذراً، تلزمه ذريعة تسوغ للقارئ حضوره ضمن مادة صحفية تتناول حدثاً ما عاماً، في العادة، سأعترف أن الكتابة عن شخصية شعبية مثل (قشنون) مرهقة وأصعب بكثير من الكتابة عن أبطال ملحميين لعبوا أدواراً مؤثرة وحاسمة في تاريخ البلد؛ إذ إن هؤلاء يحظون ـ سلفاً ـ بالشرعية التي تجعل المتلقي (القارئ) متأكداً من أنه إزاء عمل معرفي عظيم، حتى قبل قراءته.
وفيما يحصد البطل الملحمي أهميته وحضوره، من ارتباطه بأحداث كبيرة ومدوية، يسهل رصدها، فإن أهمية وحضور الشعبي تكتسب من أدائه الخاص والخافت في النسيج غير المرئي للحياة اليومية الذي يصعب رصده وتوثيقه عند نقطة أو منعطف؛ كونه يقوم على المراكمة.. لا تتيح لك صورة العجوز ذي الطاقية الملونة، على واجهة مبنى فرع البنك اليمني للإنشاء والتعمير في التربة، الانصراف مكتفياً بنظرة أولى عابرة.. يوجد في تجاعيد وجهه التي حرثها الزمن 80 عاماً، ما يرغمك على الاستغراق فيها حد الرغبة في تبادل الحديث معها..
كنت ألتقط صورة للصورة، حين همس أحدهم بصوت مسموع أثناء مروره: يبدو أنك كنت أحد زبائنه.. في إشارة إلى مهنة بيع الخمور التي شاع أن (قشنون) زاولها في الظل.. ومن (متكأ المعلم) العريق، صاح بي شاب على حافة الـ20 من العمر: (لو أردت الصورة الأصلية فهي هنا معي)، وأشار إلى هاتفه المحمول، مضيفاً: (أنا التقطتها وقد نسخت هذه المكبرة منها..). لا يملك الشاب تبريراً واضحاً لاحتفائه بقشنون.. إنه (رجل طيب..)، واكتفى بهذه العبارة حين سألته ماذا يعني بالنسبة إليه؟!
قبل أشهر فقط، كان (المعلم) يجلس هنا تحوم حوله الكلاب والمجانين وسائقو الفرزة و.. الشائعات.. البعض يؤكد أنه كان (مُخبراً)، ويسوق دليلاً على ذلك.. اشتغاله بالممنوعات على مرأى من رجال الحكومة، وإفلاته بسلاسة من زنازين الأمن في كل مرة اعتقل فيها..
في اتجاه معاكس يصوره آخرون على هيئة (الصعلوك النبيل) الذي لطالما تصدى لانحرافات القضاة والمسؤولين، وتفنن في تدبير المقالب لهم، والتنغيص عليهم، لدرجة إرغام الحكومة على إقالتهم، بالتضافر مع صديقه الأثير أحمد عبدالجبار النعمان.. إلى ذلك، فهو يدس النقود في جيوب الطلبة الفقراء، ويوفر لهم مقاعد مجانية في سيارات الأجرة، ويشتري مخلفات المطاعم للكلاب والمجانين، ويدير قفاه للسياسة، ويعالج الأحداث بالنكات البذيئة، ويبرع في فض النزاعات بـ(العرعرات)، ويعول أسرة من 7 أبناء وبنات إحداهن داعية دينية تقيم المحاضرات، وتحرم الآلات الموسيقية عدا الدُّف الذي لم يناصبه (قشنون) العداء وهو (الهيبي) المنذور للحياة والحرية والنشوة ومقت المتاريس والأغلال.. على امتداد حياته كان الشارع هو (الأوبرا) المفتوحة التي أدمنها (المعلم) حد الدوار..
ما من معزوفة أشهى لديه من صرير عجلات السيارات وصخب الباعة والعابرين وعواء الكلاب ولعلعة العبارات النابية واشتباك الألسنة المعربدة بلا حدود... بضعة أعوام من الغربة أنفقها (المعلم) مطلع مراهقته، متسكعاً في أزقة (الخُبر ـ بالمملكة السعودية)، صقلت إنسانيته، وعلمته كيف يفرد ذراعيه مظلة لكائنات العراء والريح والهجير، وقلبه نُزُلاً شعبياً مفتوحاً لهلوسات الندماء وشخير الكادحين، ورئتيه منطاداً مشحوناً بالنشوة وحب الحياة.. لسنوات، وفيما كان يتجول ويبيع صحف الأخبار بالمملكة، ظل هو ذاته خبراً مؤجلاً مطلع قصة من أدفأ القصص.. لاحقاً وجد نفسه على متن سفينة في أسطول البحرية البريطانية بعدن.. سلَّم دفته للأمواج متأرجحاً بين شدات الحبال وبراميل النبيذ، وكان على وعد بأن يرسو، فتأبط دوار البحر وهلوسات حورياته إلى جوار صحف البر وصرامة واقعه، ورسا على (التربة) الظمأى إلى ساقٍ يضخ الحكايات في يباس عروقها، ويغسل عن وجهها غبار السأم اليومي..
القليل من الوقت كان كافياً ليضرب المعلم جذوره عميقاً في (التربة)، ويعرش على الشبابيك والشفاه، عصامياً كشجرة (الغريب) ومثلها، غامضاً وذائع الصيت.. بكشك للصحف ونزل شعبي ومحل لتأجير (السياكل) ثم نقابة أولى لسائقي الأجرة، بدأ حياته وأنهاها، لكن (التربة) بدأت به ومعه فصلاً مثيراً من حياتها، لم ينتهِ بوفاته.. صار (قشنون) بعض أبرز ملامحها.. جزءاً أصيلاً في تكوينها... طقساً استثنائياً من طقوسها... قدراً مقدراً عليها صار تهمةً وشرفاً للتربة، بوسعها أن تدعيه، وليس بوسعها أن تدفعه.
خلف صورته التي يجهل هو نفسه متى التقطت له، وعلقت بمبادرة شعبية إثر رحيله كأيقونة مهيبة تخطف أبصار المارة، تستطيع أن تلمس مراسيم تتويج صامت لرجل غير عادي، ويعني الكثير بالنسبة للمدينة.
لكن لا أحد بين متوجيه يدرك على وجه التحديد ماهية هذا الكثير الذي يعنيه! في حالة رجل عادي، يمكن لطرف خيط علاقة واهن يربطه بشخصية من العيار الثقيل، أن يدر عليه الرفاه والمكانة، غير أن (قشنون) خرج من كل لقاءاته العابرة برجال الصدارة، صعلوكاً أثمن ما لديه رأسه وحريته... (لم يطرق باب مسؤول حين كان يقع في ضائقة)، يقول نجله خالد... وعلى النقيض طرقت بابه حوالة مصرفية ذات يوم قادمة من (بولندا)، ومشفوعة برسالة صوتية: (من المؤكد أنك نسيتني بين زحمة الوجوه، لكن 100 ريال حشرتها يدك في جيب طالب تعوزه المواصلات إلى المدينة، قبل سنين، تكبلني حتى اللحظة... أنا ذلك الطالب.. محبتي وعرفاني.. الدكتور س.ع ـ بولندا).
لا أحد في التربة يملك الذريعة ليكره (قشنون) علناً. على نحو ما، فرض سلطته الناعمة على الجميع، فتسامحوا حتى مع خطاياه..
إنه الدكتاتور الذي يحتكر بيع الصحف في المدينة كلها، ويتخلى الآخرون عن منافسته طواعية.. ويتربع 5 عقود على (عرش الفرزة)، معطلاً مبدأ التداول... و... عندما يصدم أحد السائقين بسيارته جملاً فيتمدد بلا حراك، ويكون عليه أن يدفع ثمنه الباهظ، يتدخل (قشنون) لينقذ الموقف على طريقته..
(.. فتح شدقي الجمل فيما كان يتغرغر، وأفرغ فيه قارورة خمر، وبعد دقائق نهض، سليماً معافى، وانصرف مع صاحبه المشدوه وسط قهقهات المحتشدين)، طبقاً لرواية خالد.
60 عاماً كان خلالها المعلم بالنسبة للتربة والحجرية عموماً.. فاكهة ومرحاً لا يعيق نضوجها توالي الفصول.. ينعش العامة والخاصة رئاتهم بـ(عرعراته) وقفشاته الماجنة، وتؤرشفها الذاكرة الجمعية عن وعي وعن غير وعي.. لم يكن له أعداء، أو ينبغي ألا يكون له. عدوه الوحيد كان الكدر وقد انتصر عليه دائماً، لم يجبره شيء، أياً كان، على أن يكره أو يكتئب، وحين أصيب بطلقة نارية في ساقه، اتهم الريح، لكنه كإنسان كان آيلاً للحزن، يتقد كنواة في أعماقه مسيجاً بوهج مدارات المرح المكابر، ومرتين ـ فقط ـ كان رائد فلسفة الضحك والتطنيش على موعد مع بكاء مرير، كسر مدارات مرحه... يتذكر الكثيرون كيف استيقظ المكان على نحيبه الغاضب في أحد صباحات التربة، كان متكوماً على جثة كلبه الأثير (جعلوز) الذي مات مسموماً، كما لو كانت جثة طفله، ويكيل الشتائم للبشر بلا هوادة.. من يجرؤ على اغتيال أخلص رفاقه؟! وهل كان على (جعلوز) أن يموت؛ كي يتأكد لـ(التربة) أن للمعلم وجهاً آخر حزيناً ودموعاً تتدفق للمرة الأولى جارفة سياج الفكاهة المنيع؟! وفي خريف 2006 منح المعلم مرحه إجازة طويلة وبكى.. كانت قامة (المهيب صدام حسين) وهي تتدلى مشنوقة في هاوية مبنى مهجور، فوق قدرته على مغالبة الدمع.. صورة الزعيم معلقة على واجهة (كشك المعلم)، ينبغي للقامة المديدة أن تبقى منتصبة، غير أن جمجمة (قشنون) تحولت ـ من حينهاـ تابوتاً لجثمان الزعيم الذي ظل معلقاً ويتأرجح في ذاكرته كبندول ساعة عملاقة..
(لم تظهر عليه علامات المرض.. كالعادة تناول عشاءه، ثم شعر بضيق وخرج إلى فناء المنزل، و... مات).. مات واقفاً كالغجر..
ربما اختلف على حبه البشر، لكن من المؤكد أن الكلاب والمجانين تنهشهم الوحشة بعده.. كما ينهش الظمأ (التربة) بعد رحيل الساقي!

أترك تعليقاً

التعليقات